القدس القديمة وأسوارها.. تراث إنساني عالمي في خطر

القدس القديمة وأسوارها.. تراث إنساني عالمي في خطر

في‭ ‬العام‭ ‬1981‭ ‬سجلت‭ ‬لجنة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬موقع‭ ‬‮«‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬القديمة‭ ‬وأسوارها‮»‬‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي،‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬التالي‭ ‬سُجّل‭ ‬الموقع‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬المعرّض‭ ‬للخطر‭. ‬عبر‭ ‬عقود‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬شئون‭ ‬السياسة‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية،‭ ‬وفي‭ ‬خطاب‭ ‬اليونسكو‭ ‬حول‭ ‬القدس،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬بخاصة‭ ‬بعد‭ ‬انضمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬عام‭ ‬1999‭ ‬إلى‭ ‬اتفاقية‭ ‬اليونسكو‭ ‬لعام‭ ‬1972‭ ‬لحماية‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬الثقافي‭ ‬والطبيعي،‭ ‬وعضويتها‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬لأربع‭ ‬سنوات‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬2006‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬العوامل‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬القدس‭ ‬حالة‭ ‬استثنائية‭ ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬لم‭ ‬تتغيّر‭: ‬فالمدينة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وإسرائيل‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتمادى‭ ‬في‭ ‬تحدي‭ ‬اللجنة‭ ‬الدولية‭ ‬وتتجاهل‭ ‬قراراتها‭ ‬بشأن‭ ‬القدس،‭ ‬وتواصل‭ ‬تغيير‭ ‬الهوّية‭ ‬الثقافية‭ ‬للمدينة‭ ‬المقدسة،‭ ‬وتستمرّ‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بالحفريات‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬المحتلة‭ ‬بهدف‭ ‬صياغة‭ ‬ما‭ ‬يدعيه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأثريين‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬أنفسهم‭: ‬‮«‬رواية‭ ‬مشوّهة‭ ‬للتاريخ‭ ‬تدمج‭ ‬الأسطورة‭ ‬والخرافة‭ ‬بالحقائق‭ ‬الأثرية‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تتمتع‭ ‬في‭ ‬اجتماعات‭ ‬اللجنة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬أمكنة‭ ‬أخرى،‭ ‬بدعم‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬حلفائها‭. ‬

 

تتناول كاتبة هذه المقالة قضية القدس في لجنة التراث العالمي معتمدة - فضلا عن وثائق مركز التراث العالمي المتاحة على موقعه الإلكتروني - على خبرتها الشخصية في عمل هذه اللجنة، بخاصة في السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، حين عملت بوصفها مدير إدارة الثقافة ورئيس وحدة فلسطين في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، على تنسيق المشاركة العربية في اجتماعات اللجنة الدولية وتقديم الاستشارة للدول العربية في شأن بنود جدول أعمالها، في ما يتعلق منها بالقدس وبقية الأراضي العربية المحتلة. 

بدأ حضور القدس في لجنة التراث العالمي بانعقاد الدورة الاستثنائية الأولى لاجتماع اللجنة بمقر اليونسكو في باريس عام 1981، وقد اقتصر على دراسة بند واحد على جدول أعمالها هو الطلب الذي قدمه الأردن لتسجيل القدس في قائمة التراث العالمي. وقررت اللجنة بتصويت غالبية أعضائها الواحد والعشرين، ضم موقع «القدس.. المدينة القديمة وأسوارها» إلى هذه القائمة. ورغم مناشدة ممثل الأردن في اجتماع اللجنة، أعضاءها تأييد الطلب الأردني «لأجل الإنسانية والتراث»، وتأكيده أن الأردن «لا يستخدم اللجنة ولا مداولاتها أداة لتحقيق مطالب سياسية، فإن ممثل الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة التي انفردت بالاعتراض على تسجيل المدينة، وصف الطلب الأردني بأنه «ترشيح غير مقبول»، ووصف قرار اللجنة بأنه «خطوة كبيرة في الاتجاه الخاطئ» يؤدي حسب قوله، «إلى إدخال عنصر تسييس إلى لجنة التراث العالمي»، بالرغم من إجماع اللجنة على أن تسجيل الموقع لا يترتب عليه اعتراف بالسيادة على المدينة. وقد سجلت «القدس.. المدينة القديمة وأسوارها» على أنها موقع مرشح من الأردن لا موقعا أردنيا.

 

تراث‭ ‬عالمي‭ ‬معرّض‭ ‬للخطر‭ 

وقد خطا الأردن خطوة إضافية في اجتماع اللجنة عام 1982، حين دعا إلى حماية موقع «مدينة القدس القديمة وأسوارها» بتسجيله في قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر. وصوتت اللجنة لمصلحة هذا التسجيل، وعارضه ممثل الولايات المتحدة الأمريكية. 

ثم غابت القدس تماما عن اجتماعات لجنة التراث العالمي سنوات طويلة حتى دورة اجتماعاتها بمدينة كرينز بأستراليا عام 2000. وكان ذلك العام نقطة تحوّل محوري في ملف القدس في لجنة التراث العالمي. ففي 6 أكتوبر 1999 انضمت إسرائيل إلى اتفاقية التراث العالمي، وقدمت في منتصف العام 2000 «قائمة تمهيدية» بالمواقع التي تنوي تسجيلها تباعا في قائمة التراث العالمي، من ضمنها «القدس»، التي قررت التقدم بملف ترشيحها لاجتماع اللجنة عام 2001. وكان تأخر إسرائيل في توقيع الاتفاقية مردّه، كما جاء في منشوراتها حول التراث العالمي، رفض الانضمام إلى اتفاقية جرى في إطارها تسجيل القدس في قائمة التراث العالمي من قبل دولة عربية. 

وكان ما أثار موضوع إدراج القدس في القائمة التمهيدية الإسرائيلية في دورة كرينز، ولم يكن على جدول أعمالها، بيان وجهه مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي عقد بالرياض في نوفمبر 2000، وكانت هذه الكاتبة مسئولة عن تنظيمه. في ما دان البيان بشدة ما تقوم به إسرائيل لتسجيل مواقع أثرية فلسطينية وعلى رأسها مدينة القدس، باعتبارها مواقع إسرائيلية في قائمة التراث العالمي، وأهاب بمنظمة اليونسكو وبلجنة التراث العالمي أن ترفضا قبول ذاك الطلب الإسرائيلي المنافي لقرارات الشرعية الدولية والمكرّس للاحتلال، والمدّعي امتلاك التجليات الثقافية العربية، والساعي إلى طمس الهوية الثقافية الفلسطينية. 

في العام التالي تقدمت إسرائيل بطلب ترشيح القدس للتسجيل في قائمة التراث العالمي، إلى اللجنة في اجتماعها المقرر عقده بهلسنكي في فنلندة في الفترة من 11 إلى 16 ديسمبر 2001. ونظر مكتب اللجنة المجتمع بمقر اليونسكو بباريس في يونيو ذلك العام في هذا الطلب الذي وضع تحت عنوان: «تمديد موقع القدس – المدينة القديمة وأسوارها المسجّل، ليشمل جبل صهيون»، وأوصى اللجنة بتأجيل النظر في الترشيح المقترح حتى يتم التوصل إلى اتفاق بشأن وضع مدينة القدس بما يتوافق مع القانون الدولي، أو حتى تقدّم الجهات المعنية ترشيحا مشتركا. وجاء في تقرير المكتب أنه تمّ طلب استشارة قانونية من الأمانة العامة للأمم المتحدة، وأحيطت اليونسكو علما أنه تمّ إعدادها وسترسل بعد الموافقة النهائية عليها، وأن هذه الاستشارة ستعرض على اللجنة في اجتماعها بهلسنكي. ويبدو أن توصية مكتب اللجنة عُدّت ذاتها قرارا، إذ لم تعرض اليونسكو الموضوع بأسره على اللجنة في هلسنكي، ولا يتقدم أي عضو من أعضاء اللجنة بطلب عرضه كما يتبين من وثائق الدورة المذكورة. وينبغي التساؤل: لماذا لم تعرض اليونسكو الاستشارة القانونية على اللجنة رغم التعهد بتقديمها؟ وكيف كان يمكن لتلك الاستشارة أن تؤثر في صيغة قرار اللجنة بشأن ترشيح إسرائيل لموقع تسمّيه «القدس»، أو لإبقاء اسم القدس في «القائمة التمهيدية» الإسرائيلية؟

 

ملف‭ ‬القدس

 ليسمح لي القارئ هنا أن أقدم شهادة شخصية. كنت قد بدأت منذ العام 2006 في إطار عملي بالمنظمة العربية، بعقد اجتماعات لجنة تحضيرية سنوية لممثلي الدول العربية الأعضاء في لجنة التراث العالمي استمرت حتى عام 2011، وكان ملف القدس والتصدي لأي محاولة إسرائيلية لتسجيل مواقع ثقافية أو طبيعية في الأراضي العربية المحتلة على رأس قائمة اهتماماتنا. لهذه الغاية، وأثناء اطلاعي على الوثائق المتاحة على الموقع الإلكتروني لمركز التراث العالمي، علمت بوجود وثيقة الاستشارة القانونية. ومرّ عامان من البحث عن تلك الوثيقة في مكاتب البعثات العربية لدى اليونسكو، بالتعاون مع مكتب ألكسو في اليونسكو، حتى وجدنا تلك الوثيقة في أرشيف البعثة اللبنانية، وكان ذلك قبيل اجتماع اللجنة بمدينة كيبك بكندا عام 2008. وبيّنت الوثيقة أن السؤال الذي وجهته اليونسكو للمستشار القانوني للأمم المتحدة هو التالي: هل يجوز لإسرائيل قانونيا استنادا إلى بنود اتفاقية عام 1972 لحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي، ترشيح جبل صهيون للتسجيل في قائمة التراث العالمي بما هو امتداد للموقع المسجل «مدينة القدس القديمة وأسوارها»؟ وقد خلصت الاستشارة القانونية الموقعة من الأمين العام المساعد للشئون القانونية بالأمم المتحدة بنيويورك، والمؤرخة في 7 ديسمبر2001 ، بعد دراسة قانونية مطولة للموضوع، إلى القول: «إن كان جائزا لجبل صهيون أن يتم ترشيحه في نهاية المطاف ليضمّ إلى القائمة، يكون ترشيحه من حيث هو ممتلك قائم بحدّ ذاته، مستقلّ عن مدينة القدس القديمة وأسوارها». 

ونعود إلى التساؤل: لماذا لم يعرض مركز التراث العالمي الاستشارة القانونية على اللجنة عام 2001؟ وكيف كان يمكن لتلك الاستشارة لو عرضت، أن تؤثر في صيغة قرار اللجنة حينذاك بشأن ترشيح إسرائيل لموقع تسميه «القدس»، أو لإبقاء اسم القدس في قائمتها التمهيدية؟

 في تقديري الشخصي أن اليونسكو عملت على تحقيق ما تعدّه «توازنا سياسيا» بين الطرفين العربي والإسرائيلي. فحين لم تعرض عام 2001 الملف الإسرائيلي لترشيح القدس للتقييم معتبرة كونَه غير مقبول من حيث المبدأ، وحين أدركت أن قرار اللجنة لو أتيح لها الاطلاع على الاستشارة القانونية كان سيعدّ انتصارا للموقف العربي، آثرت اللجوء إلى صيغة قرار لا يشكل هزيمة تامة لإسرائيل، ولا يحقق نصرا كاملا للعرب؛ أو لعل اليونسكو توقّعت أن تنتهي وثيقة الاستشارة القانونية إلى نتيجة تراها «أكثر إيجابية» بشأن الترشيح الإسرائيلي للقدس، بحيث يُترك المجال مفتوحا لإبقاء موقع القدس في القائمة التمهيدية الإسرائيلية. وكان ذلك فعلا ما أدّى إليه «القرار» المعتمَد من مكتب اللجنة  نتيجة لحجب الاستشارة القانونية عن اللجنة. بل إن عدم عرض موضوع الترشيح الإسرائيلي للقدس على اللجنة، يرجّح هذا التحليل، إذ إن قرار رفض اللجنة تسجيل موقع ما في قائمة التراث العالمي يُسقط حق الدولة المرشِّحة الموقع ترشيحه مجددا للتسجيل، وبالتالي يَسقط من قائمتها التمهيدية. من هنا كان القرار «بتأجيل النظر في اقتراح التسجيل». ولعل ذلك ما يفسّر ما وضع وما زال يوضع من تعقيدات إجرائية أمام ما تمّ بذله من مساعٍ عبر سنوات لإسقاط الموقع المسمى «القدس» من القائمة التمهيدية الإسرائيلية.

 وكانت تلك المساعي بدأت إثر وقوعنا على الاستشارة القانونية عام 2008، فأعددنا مداخلة في هذا الموضوع قدّمها ممثل الأردن في اللجنة، في اجتماع مدينة كيبك في تلك السنة، بيّن فيها أنه كان هناك متسع من الوقت ما بين تسلم اليونسكو الاستشارة القانونية وموعد انعقاد اجتماع اللجنة بهلسنكي، ولم تعرض على اللجنة. وانتظر مدير مركز التراث العالمي حتى يوم 14 يناير 2002 ليحيلها إلى أعضاء اللجنة. وطالب ممثل الأردن استنادا إلى الردّ القانوني الصادر عن الأمم المتحدة، بإسقاط موقع القدس من القائمة التمهيدية الإسرائيلية.

ولئن كان المبرر الذي قدّمه مركز التراث العالمي لإبقاء «القدس» في القائمة الإسرائيلية هو أن وثيقة «المبادئ التوجيهية لتنفيذ اتفاقية التراث العالمي» لا تجيز لليونسكو التدخّل في ما تدرجه الدول من مواقع في قوائمها التمهيدية، بدأنا منذ ذلك الحين وعبر الدورات اللاحقة لاجتماعات اللجنة، العمل على تعديل الفقرة المتعلقة بالقوائم التمهيدية في وثيقة «المبادئ التوجيهية» لوضع الصيغة التي تتيح إسقاط موقع القدس من القائمة التمهيدية الإسرائيلية، وظل ذلك العمل متواصلا حتى عام 2012 توضع في سبيله عقبات عديدة، كان آخرها في سانت بيترسبورج في روسيا عام 2012، تمثلت في قرار اللجنة بأنها لا تجد ضرورة لإدخال أي تغيير على نص الفقرة المذكورة. والحق أن قرار اللجنة هذا ليس مناقضا لقراراتها المتتابعة عبر خمس سنوات فحسب، بل إنه يستبعد طرح موضوع وجود موقع باسم «القدس» في القائمة التمهيدية الإسرائيلية في عمل اللجنة لمدة ستطول ما لم يُعد إحياؤه من جديد، وتلك مَهمّة تحتاج إلى تخطيط دقيق وعمل دبلوماسي دءوب تتولاهما وزارتا الخارجية في كل من الأردن وفلسطين بالتنسيق مع الدول العربية الأخرى والدول الصديقة. 

وغنيّ عن التأكيد أن بقاء «القدس» في القائمة التمهيدية الإسرائيلية ليس مسألة شكلية ولا هي غير ذات أهمية، فإسرائيل تواصل السعي لتسجيل القدس في قائمة التراث العالمي على أنها موقع إسرائيلي بوسائل شتى، وبخاصة عبر إجراء التعديلات المتكررة على «المبادئ التوجيهية لتنفيذ اتفاقية التراث العالمي». وتسعى إسرائيل بذلك إلى اكتساب اعتراف دولي بما تسمّيه «حقوقا تاريخية وثقافية» في القدس. 

 

من‭ ‬التراث‭ ‬إلى‭ ‬السياسة

عادت القدس إلى لجنة التراث العالمي عام 2000 قضية سياسية تستغلها إسرائيل لادعاء ما تسميه حقّا تاريخيا تترجمه احتلالا استيطانيا، قبل أن تعود القدس إلى اللجنة كموقعَ تراث عالمي في خطر ينال ما تناله مواقع التراث العالمي الأخرى المعرّضة للخطر، من عناية اللجنة بوصفها الجهة الدولية المنتخبة لتوفير الحماية الجماعية للتراث العالمي. وحين عادت القدس منذ العام 2004 إلى جدول أعمال اللجنة في البند المخصص لـ «حالة حفظ الممتلكات المسجلة في قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر»، إثر قرار اللجنة عام 2003 تقديم تقارير عن أوضاع التراث فيها، عادت كالحاضر الغائب. فقرارات اللجنة لحفظ تراث «مدينة القدس القديمة وأسوارها» من مزيد الأخطار التي تهدده، ظلت حتى العام 2010 تؤخذ بما يسمى بـ«التوافق» بين ما يسمى بـ «الأطراف المعنية» - ويقصد بها إسرائيل والأردن وفلسطين - عبر مفاوضات في كواليس اجتماعات اللجنة، يتولاها غالبا وسطاء من اليونسكو، ويطلب رئيس اللجنة من أعضائها إقرار ما تم الاتفاق عليه من دون نقاش. وكانت إسرائيل ترضى بتلك القرارات - ولو بعد مفاوضات لم تكن غالبا بالهيّنة – لإدراكها أنها لن تتعرض لأي ضغط لتنفيذها. وقد غدت هذه السياسة أسلوب عمل اليونسكو في شأن ملف القدس في لجنة التراث العالمي كما في اجتماعات مجلسها التنفيذي ومؤتمرها العام، تمليها عليها الدول الغربية وترضى بها المجموعة العربية، حتى أن التوصّل إلى صيغة قرار «بالتوافق بين الأطراف المعنية» بشأن القدس، أصبح بالنسبة لليونسكو هدفا بذاته، وتراجع حرصها على صون أصالة التراث الثقافي في القدس وسلامته، وعلى تطبيق اتفاقية التراث العالمي للحفاظ على القيمة العالمية الاستثنائية لموقع تراث عالمي. وقد زاد موقف اليونسكو المتراخي هذا إسرائيل تعنّتا، فأخفقت محاولات مندوب المدير العام لليونسكو في تحقيق «توافق» حول نصّ القرار في كواليس اجتماع اللجنة في باريس عام 2011 بسبب رفض السفير الإسرائيلي لدى اليونسكو بعض بنوده، فعرضت المجموعة العربية مشروع القرار مباشرة على اللجنة. ورغم أن اللجنة اعتمدته بلا نقاش ولا تعديل، فإن عددا من الدول الأعضاء في اللجنة لم تستسغ قرارا لم يجد قبولا إسرائيليا، فحاولت المماطلة وتأجيل النظر فيه. وقد أثار تمرير القرار من دون اعتراض في اللجنة غضب إسرائيل، وصرّح سفيرها في اليونسكو لصحيفة هآرتس بأن أربع دول أعضاء في اللجنة عبّرت شفهيا عن تحفظها، مما يعني في نظره أن القرار لم يؤخذ بالإجماع، ولهذا فهو «يعتقد أن المدير العام لليونسكو إيرينا بوكوفا لن تفعل به شيئا، إذ قالت في أوائل هذا العام إنها لن تعمل على تنفيذ قرارات لا تؤخذ بالإجماع». وينص هذا القرار في ما ينص، على دعوة إسرائيل للتعاون وتسهيل تنفيذ قرار اللجنة في دورتها عام 2010 الداعي إلى ذهاب بعثة لما يصطلح على تسميته بـ «الرصد التفاعلي» (reactive monitering) إلى مدينة القدس القديمة وأسوارها، والتعبير عن الأسف لإصرار إسرائيل على مواصلة القيام بالحفريات الأثرية في المدينة القديمة ودعوتها للتوقف عن ذلك؛ و«يشجع» مدير عام اليونسكو على اتخاذ الخطوات اللازمة للحفاظ على موقع مدينة القدس القديمة وأسوارها ومعالمها، ويجدد دعوتها إلى عقد اجتماع خبراء في أسرع وقت ممكن لمتابعة مسألة منحدر باب المغاربة. ولم يختلف قرار اللجنة بسانت بيترسبورج عام 2012 بشأن القدس، نصا وروحا، عن قرارها في العام الذي سبق. ورغم أن القرار اتخذ من دون نقاش، فإن رئيس اللجنة أعلنت أن إسرائيل لا توافق عليه، وأن بعض الدول الأعضاء التي لم تسمّها، تنأى بنفسها عنه.  

إن هذا الاستخفاف الإسرائيلي بقرارات لجنة التراث العالمي – كما بقرارات المجلس التنفيذي والمؤتمر العام لليونسكو – يعود إلى اطمئنان إسرائيل إلى أن اليونسكو لن تمارس ضغطا عليها لتنفيذ ما يصدر عن مجالسها من قرارات.

 

اطمئنان‭  ‬إسرائيلي

غير أن استخفاف إسرائيل بقرارات الهيئات الرسمية لليونسكو وامتناعها عن تنفيذها لا يعني أنها لا تكترث بقرارات الهيئات الدولية، بقدر ما يعني أنها مطمئنة إلى عدم ممارسة أي ضغط عليها، سواء أكان من المنظمة الدولية أو من دول أعضاء فيها، للالتزام بالمواثيق الدولية والقرارات الدولية. ولعل مما يدلّ على ذلك ما قامت به إسرائيل من مناورة في شهر أبريل 2013  قبيل انعقاد المجلس التنفيذي لليونسكو لتفادي إصدار قرارات بشأن القدس تعرب عن «الاستنكار» و«الانشغال» و«الأسف» لممارساتها المعارضة للاتفاقيات الدولية، وذلك بموافقتها على استقبال البعثة الدولية المشتركة للرصد التفاعلي إلى القدس تنفيذا لقرار لجنة التراث العالمي، في مقابل امتناع المجموعة العربية عن تقديم قرارات بشأن القدس لمدة عامين. وقد وافق الأردن وفلسطين على هذا العرض الإسرائيلي، والتزم الجانب العربي بالاتفاق. وحين حققت إسرائيل هدفها ألغت زيارة بعثة اليونسكو في اليوم المحدد لوصولها إلى القدس في 20 مايو 2013، بحجة أن الجانب الفلسطيني يعمل على تسييس عمل البعثة. غير أن إيرينا بوكوفا، المدير العام لليونسكو، أصدرت بيانا في اليوم التالي نصّ على ما يلي: «تبعا لما أوردته بعض وسائل الإعلام عن إلغاء بعثة اليونسكو إلى مدينة القدس القديمة، تود المدير العام أن تؤكد أنه خلافا لهذه المعلومات فإن مشاورات تجري حاليا من قبل حكومة إسرائيل والسلطات الفلسطينية والأردنية بهدف وضع الصيغة النهائية لاختصاصات البعثة وتحديد موعدها». وقد جانب المدير العام الصواب في تصريحها هذا؛ فحين قررت إسرائيل في اللحظات الأخيرة قبيل وصول البعثة رفض استقبالها، لم يكن أي من الجانبين الفلسطيني أو الأردني على علم بهذا القرار الإسرائيلي، ولم تكن حينذاك وحتى اليوم، أي مشاورات كالتي تشير إليها المدير العام. 

 إن بيان مدير عام اليونسكو دليل على أنه ليس بمقدور اليونسكو حتى أن تصرّح بلوم إسرائيل على الصفعة التي وجهتها إليها في اللحظات الأخيرة قبيل سفر بعثتها إلى القدس، وعلى موقفها العابث بقرارات المنظمة الدولية، فضلا عن أن تضغط عليها لتنفيذ تلك القرارات، وهو ما يشجع إسرائيل على مزيد من التصلب في مواقفها المتحدّية لقرارات المنظمة الدولية. ويعود ذلك في ما يعود، إلى ما تتعرض له اليونسكو من ضغوط من دولها الأعضاء، أقلها من الجانب العربي، وقد كان بإمكان الدول العربية الضغط على المدير العام في العام 2013، وكان عام ترشحها لولاية ثانية لرئاسة اليونسكو وقد فازت بها، لاتخاذ مواقف أكثر تشددا للضغط على إسرائيل في شأن الحفاظ على التراث الثقافي في القدس، وتطبيق بنود المعاهدات الدولية الخاصة بحماية هذا التراث، بخاصة في حالات النزاع المسلح وتحت الاحتلال. وذلك ما لم يحدث.   

كان قرار لجنة التراث العالمي بشأن القدس في اجتماعها الأخير عام 2013 في بنوم بنه بكمبوديا، أشدّ ما أصدرته اللجنة من قرارات قوّة وأكثرها تفصيلا؛ قرار وصفه رئيس وفد إسرائيل إلى اجتماع اللجنة بأنه «قرار سياسي ملفّق ضد إسرائيل... يحمل تداعيات مدمّرة على مستقبل اليونسكو من شأنها أن تؤدي حتما إلى دمارها النهائي». فقد طالب القرار إسرائيل بإيقاف أعمال التنقيب والحفريات الأثرية، والامتناع عن تنفيذ المشروعات المزمع تنفيذها في مدينة القدس القديمة وما حولها، ولاسيما مشروع «التلفريك» ومركز الزوّار في المكان المعروف باسم «موقف جفعاتي للسيارات»، ومشاريع المباني في ساحة الحائط الغربي. وقد اعتمدت اللجنة هذا القرار بالتصويت، فأيدته عشر دول أعضاء، وعارضته ثلاث دول وامتنعت ثماني دول عن التصويت. وإذا صحّ ما صرّح به ممثل إسرائيل الدائم لدى اليونسكو من أن المدير العام أعلنت أنها لن تنفذ قرارا لا يؤخذ بالإجماع – ولم تكذّب اليونسكو تصريحه - فإن اليونسكو لن تفعل شيئا لتنفيذ هذا القرار الذي اعتُمد بنسبة تأييد غير كبيرة. وأصدر وفد إسرائيل الدائم لدى اليونسكو مذكرة كرر فيها اعتراضاته على قرار اللجنة «مع التأكيد على استعداد السلطات الإسرائيلية لتنفيذ القرارات التوافقية»، أي أن إسرائيل لن تنفذ ما لا توافق عليه هي نفسها، والدول الداعمة لها، وتلك الممتنعة عن اتخاذ موقف معارض لانتهاكاتها الصريحة للمعاهدات والاتفاقيات الدولية .

بوابة‭ ‬دمشق‭ ‬بأسوار‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬التاريخية

مقابر‭ ‬المسلمين‭ ‬قرب‭ ‬السور‭ ‬الغربي