رحلة نورس إلى إمارة موناكو
في الصباح ومع صيحات طيور النورس، التي تعبر كيفما تشاء البحر الأبيض المتوسط، فلها أسرارها، أجدني أحسد هذه الطيور بالذات التي قد تكون في ميناء الإسكندرية أو فوق روشة بيروت، وتطير متخطية قلاع قبرص لتطير بدلال على الريفيرا الفرنسية من دون تأشيرة أو تذكرة! أما أنا فذهبت لآخذ تذكرة من محطة قطار نيس لأتجه غربًا باتجاه إيطاليا وإلى المزيد من النكهة الإيطالية إلى ثاني أصغر دولة بالعالم وأكثر كثافة سكانية كما يقولون، ومن أقدم العوائل الملكية بالعالم، وإلى أكثر سباقات الفورمولا إثارة، وإلى المكان الذي تتراص به اليخوت تحت ظلال جبال الألب، إلى موناكو وعاصمتها مونت كارلو.
بعد دقائق معدودة لم تتجاوز نصف الساعة، وصلت - بحفظ الله - إلى الإمارة الساحرة، وبعد خروجي من المحطة شاهدت الميناء وكأني بالطابق العاشر، وهو الميناء (بهو الاستقبال)، فلابد من النزول لاستكشاف المدينة الأنيقة، ولأستكشف السر الذي جعلها إمارة مستقلة ما بين دولتين استعماريتين طمّاعتين متنافستين، إيطاليا وفرنسا، فكانت الريفيرا محط صراع فرنسا ودويلات إيطاليا، ويبدو أن أمراء موناكو لعبوا على التناقضات، وكانوا شوكة الميزان بين هاتين الدولتين.
قلعة على قمة صخرة
وتعود أصول أسرة غريمالدي (العائلة المالكة في موناكو) إلى جنوة، حيث كانت قلعة على قمة صخرة موناكو، ومازالت صامدة حتى الآن، حيث أتى المؤسس الأول فرانسوا غريمالدي في سنة 1297 ميلادية، وتنكّر في زي الرهبان، وتأبط سيفًا، وما إن فتح الباب له حتى قتل الحارس وتسلل إلى القلعة مفسحًا المجال لرفاقه ليبدأ صفحة جديدة، ومعلنًا إمارة موناكو تحت حكم أسرة غريمالدي حتى هذا اليوم الذي أزور فيه هذه الإمارة الحالمة.
بعد أن تفقدت المرفأ الفخم واليخوت الأنيقة، لفت نظري أن هناك واحدًا من اليخوت يحمل طائرة هليكوبتر صغيرة، ولم يسبق لي أن رأيت هكذا يخوت أنيقة، وكذلك رأيت بارجة عسكرية في مدخل المرفأ يرفرف عليها بكل اعتزاز علم موناكو، وكأنه يصرخ في وجه الطليان والفرنسيين، نعم هناك دولة بينكم لها عضوية كاملة، وحق التصويت في الأمم المتحدة، وبالرغم من تضاريس المدينة الجبلية التي تجعلك إما صاعدًا أو نازلاً، لكن بسهولة، حيث يتوافر خط حافلات نشط، فأخذت الحافلة صعودًا للقلعة، وقصر الإمارة لأرى فرانسوا غريمالدي مخبئًا سيفه عند مدخل القلعة متنكرًا بزي الرهبان، وكأننا في سنة 1297، لكنه ليس سوى تمثال محاط بحرس موناكو الأنيق الملبس.
الفورمولا.. جولة مونت كارلو
تقابل القلعة أزقة موناكو الضيقة ومحالّها التي تبيع تذكارات المدينة، سيما المتنقلة بسباق الفورمولا، وتعتبر جولة مونت كارلو من أهم الجولات، ومطمحًا لكل السائقين لعراقتها، ولأنها تجري في شوارع المدينة، وكذلك توفر القلعة منظرًا بانوراميًا للمرفأ «هركل» الرئيس، كما يوجد بالمدينة مرفأ آخر أصغر يدعى فونفياي، وأنا أتأمل هذا المرفأ وذاك، أتساءل: هل هي حقيقة أنها ثاني أصغر دولة في العالم بعد الفاتيكان، حيث تبدو أكبر بكثير؟ وقد أعزي ذلك للاستقلال الصحيح للمساحة، بل إن للمتر وظيفة في موناكو، وتكثر الفنادق والشقق السكنية، حيث يرغب كثيرون خصوصًا أصحاب رءوس الأموال والمشاهير في العيش في موناكو، بسبب عدم وجود الضرائب، كذلك المتقاعدون الذين ينشدون الهدوء في هذه الإمارة الأنيقة التي تعبر سيارات «الفيراري» بها بكثرة بلونها الأحمر المتناسق مع حجارة مباني موناكو.
عند مروري بالمدينة القديمة، بدأت كاتدرائية موناكو التي تحمل قبر جريس كيلي الممثلة الأمريكية التي كانت زوجة أمير موناكو الأسبق رينيه الثالث، وقد توفيت في حادث سيارة سنة 1982، ويعتبر زوجها أكثر مَن بقي بالحكم، حيث حكم منذ 1946 حتى 2005، وخلفه ألبير الثاني الذي يحضر تتويج سباق الفورمولا، وكذلك مسابقة مونت كارلو الدولية للتنس الأرضي، ومن معالم موناكو الرياضية نادي موناكو الذي ينافس بالدوري الفرنسي وأسسه لويس الثاني نسبة لأحد أمراء موناكو، ويستضيف الاستاد كأس السوبر الأوربية سنويًا.
متاحف بلا حدود
تتنوع الفعاليات بالإمارة لاستقطاب السياح، كذلك تحتوي على عدد لا بأس به من المتاحف كمتحف الأحياء البحرية ومتحف نابليون، الذي - مع الأسف - يمنع به التصوير، ومتحف للشمع، ومتحف للعملات والطوابع، وتعتبر طوابع موناكو من الطوابع المرغوبة التي يحرص الهواة على اقتنائها.
وتعتبر موناكو من الدول التي بها أقل معدل للفقر، كما أن نسبة البطالة صفر، وهناك كثير من الموظفين، خصوصًا موظفي الفنادق ممن يعيشون بالمدن القريبة، ويذهبون إلى مدنهم بانتهاء فترة العمل اليومية لتوافر خط سكة حديد ومحطة قطارات دولية، وطبعًا ليست الأمور بتاريخ موناكو على ما يرام دومًا، فقد عانت المدينة من الصراع والحروب في العصور الوسطى، والحرب مع الدولة العثمانية والثورة الفرنسية، ومن إثم اكتساح الإمارة من قبل نابليون الذي لم يقتصر فقط على موناكو، بل أضاف إيطاليا وكثيرًا من المدن الأوربية إلى خارطته، لكن بعد خسارة فرنسا، ونفي نابليون عادت الأمور إلى مجاريها مع أسرة غريمالدي، لكن في العام 1910 ثار أهل موناكو، حيث سئموا السمعة السيئة للإمارة، سيما وجود كازينو القمار، وأنهوا حكم الملكية المطلقة، وأجبروا ألبرت الأول على التحول للملكية الدستورية، كما أن السياسة الخارجية للإمارة مرتبطة منذ القدم بفرنسا، ويعرف عن أهل موناكو التقليدية وحبهم للمشاركة في الاحتفالات الدينية، كما لا يسمح لهم بدخول كازينو القمار بالمدينة، فالقمار مخالف للفطرة الإنسانية، وفيه الخسارة وضياع الوقت والمال، فمن البديهي أن يمنعوه عن أبناء بلدتهم، وبالتالي يكون مأوى للمسرفين الذين يريدون ضياع أموالهم.
كما تستضيف موناكو كثيرًا من مشاهير العالم، ومشاهدتهم بسياراتهم الفارهة شيء طبيعي من دون أي إزعاج من الصحافة أو الناس الذين اعتادوا عليهم، وكما بدأت رحلتي من محطة القطار ودَّعت مدينة الأحلام، وبدت محطة القطار أكثر أناقة من نظيراتها الفرنسية، وبحمد الله عُدت إلى فندقي في «نيس»، متفكّرًا بالقطار أثناء الرحلة كيف لمدينة صغيرة المساحة أن تأخذ شهرة عالمية، وأن تصمد ككيان سياسي وسط دولتين لم تسلم حتى إفريقيا من حملاتها الاستعمارية؟ وتظل صامدة ما بين جبل الألب والبحر المتوسط .
مرفأ اليخوت في مونت كارلو
إمارة مستقلة ما بين إيطاليا وفرنسا.. إنجاز كبير للإمارة