البيت الدمشقي.. لقاء الفصول الأربعة!
لا يمكن أن تدرك سر دمشق عبر العصور، ولا طبيعة أهلها، ولا سوية الذوق الاجتماعي فيها، ولا القيم الأخلاقية التي صاغت تشكيل وجدانهم، إن لم تعرف ما هو البيت الدمشقي. ففي دمشق بالذات يبدو قول الشاعر:
منازل قوم حدثتنا حديثهم
ولم أر أحلى من حديث المنازل
خير تعبير عن حقيقة ارتباط الإنسان في معاشه وشخصيته، بفلسفة السكن ومعمار البيت الذي يأويه. إن البيت الدمشقي هو مفتاح الولوج إلى عمق دمشق.. فيه تتجلى عبقرية البناء، وفيه يتحد الفنان والمعمار والصانع في شخص واحد، ليغدو عمل كل هؤلاء تقليدًا متوارثًا من الجمال وإتقان الصنعة، ومراعاة ضرورات العيش وجماليات الحياة اليومية، وحسن الجوار ضمن الوحدة السكنية الأوسع، التي يطلق عليها اسم الحارة الدمشقية.
ازدواجية الظاهر والباطن!
الانطباع الأول الذي يتركه البيت الدمشقي لدى من يتعرف إليه زائرًا أو سائحًا أو عابر سبيل.. هو هذا التناقض الصارخ بين الظاهر والباطن.. الخارج والداخل.. والمظهر والجوهر.
لقد أدرك الدمشقيون باكرًا، أن هذه المدينة التي تقف على تخوم الصحراء، محاطة بسوار بديع من الخضرة، شكلته فروع نهر بردى في غوطتها، والمسكونة بإنجازات التاريخ، وتراكم خبرات البشر الذين مروا، ينبغي لها ألا تبدي زينتها، أكثر مما حبته بها الطبيعة، وجاد عليها به الخالق. فقرروا أن يجعلوا من بيوتهم عنوانًا من عناوين هذا التخفي عن أعين الغزاة والطامعين، والتقشف في ظاهر البيوت والأزقة.
ولهذا بدا البيت الدمشقي فقيرًا من الخارج، جدرانه الطينية العالية لا تبدي أي حركة أو زخرف، ولا يخرق سكونها سوى نوافذ في الطبقات العليا، تفتح للسر المكنون في الداخل إطلالات خشبية مشكبّة القضبان تدعى (الخص)، تحجبها عن أعين الخارج، وتزيد من الإحساس برغبة هذا المعمار في إخفاء نفسه وأهله عن الفضوليين.
الأبواب كذلك لا توحي بما تخفيه خلفها.. بل هي تجبر عابريها على الانحناء بأقواسها نصف الدائرية التي تفتح في جسد الباب الكبير الثقيل، بابًا صغيرًا يعمق لديك الإحساس بحالة التواضع في ولوج البيت، اسمه (باب خوخة). أما اليد المعلقة التي تمسك بالكرة المعدنية الصغيرة والتي تستخدم لدق الباب وتحمل اسم (السقّاطة)، فهي تترك إحساسًا بالألفة والحنو.. حتى على جسد الباب الصغير نفسه!
لكن ما إن تلج الدهليز الضيق الممتد، المرصوف بالحجر الأسود، والذي يخيل إليك أنه سيقودك إلى سرداب، حتى ينفتح الأفق أمامك دفعة واحدة: باحة فسيحة تتوسطها البحرة الرخامية التي تمتلئ بالماء، وتطلق لنافورتها العنان كي تسمعك خرير الماء ينقل إليك الأنس والبهجة، مع ما تحمله حولها من أصص الزهر والخضرة.. وأشجار من النارنج والليمون والكباد، وسواها من الحمضيات التي تحمل العطر والثمر، وعبق من ياسمين أبيض حينًا وأصفر حينًا آخر، أو عرائش من (خميسة) و(عنب) ودوالٍ وأفياء وظلال.
وفي صدر الباحة إيوان فسيح، أو (صالية) تستقبل به الضيوف، أو غرفة لأهل البيت يطلق عليها اسم (المرّبع) وجميعها ترتبط ببعضها البعض بواجهة من الحجر المتناوب، وزخارف وأقواس، وزجاج ملوّن، وأحواضٍ تلتصق بالجدران، لتعطي لأهل البيت خيارات متنوعة في زراعة أطراف (أرض الديار) كما يطلق الدمشقيون على باحة الدار، بأشجار باسقة، سينبئك حفيف أوراقها، بالنسيم إذا هبّ في صيف قائظ!
وهكذا.. فمن الصعب على من يرى تلك البيوت من الخارج، أن يدرك ما تحتويه من بهجة العمران، ورحابة المكان، ودفء احتضان الداخل، إن لم يلج إليها.. ومن الصعب التمييز من الخارج بين بيوت الفقراء أو مستوري الحال، وبيوت الأغنياء.. إلا حين يرى تمايز المساحة في الداخل، وغنى الزخرف في ما خطته يد البنّاء، على سقوف القاعات، أو جدرانها أو خزائنها ونوافذها المطلة على أرض الديار.
بيت الفصول الأربعة!
البيت الدمشقي هو بيت الفصول الأربعة.. لا يضجر من زائريه على مدار السنة.
ثمة أنماط أخرى للسكن تتألق الحياة فيها في فصل ما، وتصبح عبئًا على ساكنيها في فصل آخر.. أما البيت الدمشقي ففي معماره وبنيانه فسحة للاستمتاع بكل فصول السنة، وقدرة على تحويلها إلى طقس تتجدد به الحياة اليومية داخل البيت، ويغدو التفاعل مع تقلبات الطبيعة جزءًا من تذوق جماليات تعاقب الفصول، واختلاف أمزجتها وأمزجة البشر معها.
في الشتاء القاسي الذي كان يمر على دمشق المحاطة بسوار الخضرة التي تجتذب أشجارها السحب وتجلب الأمطار، تسكن العائلة الطبقة العليا من البيت حيث (القصر) وهو قاعة علوية فسيحة تجاور فسحة سماوية مفتوحة تسمى (المَشرَقة) حيث تشرق شمس الشتاء في بعض نهارات الصحو، فتهرع النسوة لنشر الغسيل.. وتلحق بهن الأطفال للتمتع بالدفء. لكن الدفء الحقيقي يجدونه في جلسات (القصر) في ليالي الشتاء الطويلة، حول موقد الحطب الذي تشوى فيه الكستناء والبطاطا والبصل، أو المنقل النحاسي الذي يتقد فيه الجمر في الرماد الذي حمل من المدفأة ليملأ به هذا الوعاء الشرقي الثقيل، وتمتد الأكف حوله لتطرد صقيعًا يتسلل إلى الأصابع.. وفي الطبقة العليا، ثمة مطبخ صغير يوفر على أهل البيت النزول إلى مطابخ الطبقات الأخرى، وثمة سقيفة للمؤن، توضع بها الحاجيات الأساسية، بما يوفر النزول إلى بيت المؤن الأساسي في الطابق الأرضي.. وغالبًا ما تخصص هذه السيقفة لتخزين المواد الغذائية التي تستخدم للشواء على المدفأة في ليالي الشتاء الطويلة، وأذكر في بيت جدي كانت سقيفة الطابق العلوي مخصصة للبصل، وكانت السباحة بين أكوام البصل بورقه الأملس الشديد النعومة، واحدة من متعنا الأثيرة حين نكلف بمهمة جلب البصل للشواء.. فضلا عن (الداكونة) وهي مخزن صغير متصل بالقصر أو داخل أحد جدرانه، مخصص لتخزين الحطب.. حيث ينصح المثل الدمشقي الشعبي: (خبي حطباتك الكبار لعمك آذار)!
أما في الربيع فتجتمع الأسرة في (النصية) وهي غرفة بسقف منخفض، ونوافذ مفتوحة على أزهار شجيرات (أرض الديار) التي تبدأ بالتفتح في هذا الفصل، لتجد البيت الدمشقي غارقاً في بحيرات من عطر زهر الليمون والنارنج والكباد وأزهار الربيع الأخرى التي تعادل معرضًا كاملًا للزهور.
وفي (النصية) او (النصاصي) ثمة فسحة مختلفة للرؤية، وعلاقة تدريجية تنفتح مع فسحات البيت المفتوحة التي تستغلق على أبواب الشتاء الموصدة.. وثمة دفء يمتزج ببعض البرد خصوصًا في مطلع شهر نيسان (أبريل)، حيث يتعارف الدمشقيون على تسمية تلك الأيام بـ(عقارب نيسان) لأن البرد لا بد أن يعود ليلسع ويقرص.. لكن (مطرة نيسان تحيي قلب الإنسان) كما يقولون، فهي تعبير وداعي أخير عن شتاء يرحل وربيع يسلم مفاتيحه لصيف يأتي.
وفي الصيف تنزل الأسرة إلى الطبقة الأرضية، ويصبح (المرّبع) وهي قاعة متوسطة ومربعة الشكل، مقر اجتماعات الأسرة وسهراتها. وفي هذا المربع الذي تبنى واجهته من الحجر كما كل غرف الطبقة الأرضية، يمكن للأسرة أن تنعم بالبرودة بعيدًا عن استخدام المراوح والمكيفات الكهربائية.. خصوصًا أن المربع متصل بأرض الديار حيث ظلال الأشجار ونباتات الزينة والبحرة التي تمتلئ بالماء، الذي يستخدم لشطف وتنظيف أرض الديار بعد عصر كل يوم، حيث تتوزع الأسرة بأجيالها المتعددة في باحة واسعة مكشوفة، فيها مطارح لجلوس الكبار، ولعب الأطفال، وثرثرات النساء، وهي متصلة بالليوان الذي يستقبل فيه الضيوف إن كانوا من الغرباء، ومتصلة بالمطبخ الذي تعد فيه المشروبات الصيفية، والحلويات الخفيفة.. في ما تلعب ثمار الصيف في باحة الديار دورًا في إضفاء لمسة حياتية أصيلة تتحدث بنعم الله، فتلقى ثمار (البطيخ) في البحرة لتزداد برودة، ويزين المشمش البرتقالي اللون، والكرز الأحمر القاني، والدراق المخملي، حواف البحرة والطاولات بمهرجان من الألوان.
وحين تهب نسائم الخريف في أيلول (سبتمبر)، وتتساقط أوراق الشجر، تغدو (أرض الديار) ملعبًا لأوراق الذهب الصفراء، الذي تكنسه نساء البيت بتؤودة، وتجمعه في الزوايا عند الأحواض، ليعلن هذا الفصل الانتقالي، مرحلة العبور من صيف يرحل إلى شتاء يأتي.
علاقة البيت الدمشقي مع فصول السنة الأربعة، لخصها أبو البقاء البدري في كتابه: (نزهة الأنام في محاسن الشام) الذي وضعه في القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي، حيث كتب يقول:
« ومن محاسن الشام أن كل نزهة ذكرناها، لها أوان يتفرّج أهل البلد فيه، وزمان يتعاهدونها ويرجعون إليه. ومن محاسن الشام صيفيتها، وأنها مُعلنة بحياة الأزهار ونمو الأثمار، وشتويتها مؤذنه بموت الأشجار بالاصفرار، وتغسيلها بعد التجريد بالأمطار. لكن يعتدون للشتاء بالأسمان والأدهاء، ويموّنون البيوت بالحبوبات ولحم القديد والمعسولات والفاكهة المعلقة، والحلاوات المؤنقة، ويكنون في الأماكن المبخرات ولا يخرجون منها».
بيت تلتقي فيه الأجيال!
اتساع البيت الدمشقي مرتبط بمفهوم العائلة المتعددة الأجيال.. فالأسرة الشرقية التي كانت تحرص على تمتين الأواصر بين أبنائها على الدوام، كانت تحرص على تزويج أبناء العائلة الذكور داخل بيت العائلة.. ولهذا كان لا بد من وجود غرف فائضة عن الحاجة الآنية، وإن كانت تستخدم في تنقلات الأسرة خلال تعاقب الفصول.
لم يكن السبب الاقتصادي وحده هو ما يجبر الأبناء على قضاء العقد الأول أو السنوات الأولى من حياتهم الزوجية داخل بيت العائلة، بل هي تلك الرغبة الكامنة في رؤية الأسرة تكبر، والأحفاد يعوضون الجد والجدة عن علاقتهما بأطفالهما الذين كبروا وتقاعد هو أو زوجته عن الإنجاب.. والعم الذي حرم من نعمة إنجاب الأبناء، أو العمة التي لم يكتب لها أن تتزوج يجدان في أبناء الأخوة ما يعوضهما عن أبوة ضائعة أو أمومة مؤجلة.
وفي هذا الإطار يعتبر البيت الدمشقي المكان المثالي لممارسة طقوس الحياة اليومية لعائلة متعددة الأجيال، دون أن يؤثر ذلك في حق جميع أفراد الأسرة في صون خصوصياتهم. فالفضاء الخاص والداخلي والمنعزل عن الخارج بالنسبة للبيت الدمشقي، هو فضاء يعوض انعزاله عن الخارج بثراء الحياة الاجتماعية في الداخل.. ويمكن القول إن البيت الدمشقي الذي تسكنه أسرة صغيرة كثيرًا ما كان يبدو بيتًا موحشًا، تغيب عنه لمسات البهجة الاجتماعية، بل وتواجه فيه الأسرة الصغيرة عجزًا عن صيانة مرافقه أو استخدامها على النحو الذي يشيع فيها الحياة.
إن مفهوم (بيت المونة) الذي تجمع فيه المؤن الغذائية وخصوصًا في الشتاء، يرتبط بنمط استهلاك أسرة كبيرة العدد. فشراء الكميات الكبيرة يعني التدقيق في الجودة والسعر وترشيد الاستهلاك في آن معًا. الهدر يبقى محدودًا في ظل أسرة كبيرة يستهلك أفرادها ما يفيض عن حاجة بعضهم البعض، ويؤمنون لبعضهم البعض ما يحقق حالة اكتفاء ذاتي داخل البيت، عبر تبادل ما يجلبونه أسر الأبناء كافة الذين يعيشون في كنف رب الأسرة الكبير الذي غدا جدا.
حتى بعض أصناف الطعام في المطبخ الدمشقي، من التي تستلزم جهدًا جماعيًا كبيرًا في تحضيرها، كانت تتطلب حالة جماعية في تناولها. فأصناف (الكبة الشامية) التي تصنع من البرغل المطحون والمعجون باللحم والبصل والجوز، والتي كانت تحضّر بأشكال متعددة: (مقلية ومشوية ومطبوخة باللبن، وممدوة في الصينية) كان يستغرق العمل فيها ساعات طويلة منذ الصباح، حتى يتم إنجازها على موعد الغداء أو ما بعده.. وهذا كان يتطلب بالضرورة جهود الحماة وبناتها وزوجات الأبناء والأحفاد ممن يساعدون في طحن البرغل بالطريقة اليدوية حيث كان يدق بالجرن الحجري، أو حتى حين دخلت الماكينة اليدوية، كان طحن كميات كبيرة من البرغل يتطلب جهدًا جماعيًا تتضافر فيه جهود شتى.. سرعان ما تترجم نفسها بالألفة ذاتها حين يجلس الجميع إلى المائدة العامرة، ليتحدث كل واحد عن الدور الذي ساهم فيه، ومقدار نجاحه في اكتساب الخبرة في أجواء مشبعة بالمرح والمزاح.
وبهذا فإن حوار الأجيال الذي يتيحه البيت الدمشقي، لا يقتصر على تلاقح أفكار الكبار والصغار وحسب، بل يتصل أيضًا بنقل الخبرات وتوارثها في شتى مجالات الحياة، والتي تبدأ من تعلم الطبخ وتحضير الطعام، ولا تنتهي عند التدرب على التسوق، واكتشاف الأماكن المثلى للحصول على الحاجيات والمواد الغذائية المختلفة من الأسواق المختصة، بالنسبة للأحفاد الذين شبوا عن الطوق، ودخلوا سن اليفاعة، وباتوا مطالبين بالتدرب على تحمل المسئولية المعنوية، والمساهمة في تأمين حاجيات البيت الكثيرة، والقيام بمهمات يومية وخدمية أخرى.
أما على الصعيد التربوي، فالبيت الدمشقي يحقق صلة حية بين الجد والحفيد، وبين الأخ وابن العم، وبين العمة التي لم تتزوج بعد وابن الأخ الذي تتفتح مداركه الأولى، وبين الكنة أو زوجة الابن القادمة من عائلة أخرى، وأهلها الجدد الذين ينظرون لها نظرة نقدية ترصد العثرات والهفوات بهدف تطوير حالة التأقلم لديها مع الوسط الجديد ومع العرف العام السائد في العائلة.
ويمكن القول إن النظرة النقدية ذاتها تنطبق على تنشئة أطفال العائلة.. إذ يساهم كل أبناء الأسرة من المقيمين في البيت في تقويم سلوك الأحفاد، وفي منحهم جرعة الرعاية والحنان التي يفيض بها الانتماء الأسري الواحد، وينميها تقارب الأمزجة والميول بين هذه الطفلة أو ذاك الطفل، وبين الجد أو الجدة أو العمة و العم وأبناء العمومة، فتنشأ صداقات قائمة على صلات تفاهم ثنائية وخاصة، تجمعها الأمزجة أو الاهتمامات المشتركة.. فتجد ابنة الأخ التي تهوى تعلم فن الخياطة، أقرب إلى عمتها التي تتقن المهنة وأكثر التصاقًا بها، والحفيدة التي تحب العمل في المطبخ أقرب إلى جدتها التي ستعلمها من فنون الطبخ ما لا تتقنه ربما والدتها.. وابن الأخ الذي يهوى التجارة أقرب إلى عمه او جده التاجر، من ذاك الذي قرر الانصراف إلى تحصيل العلم أو ظهرت لديه اهتمامات أدبية مختلفة.
وقد لخص الشيخ علي الطنطاوي صورة الألفة العائلية التي تضج بها الحياة اليومية داخل البيت الدمشقي في كتابه: (من حديث النفس) فكتب يقول:
« في كل دار أسرة كاملة يجمعها الحب والإخلاص، وقد يختلف من فيها ويتنازعون، ولكنه اختلافٌ لا يمحو المحبة، وتنازع لايولد البغضاء، وإنما هو كاصطدام الغصن بالغصن بالروض الممرع من النسيم الأصيل. يأكلون جميعًا من قدر واحدة على مائدة واحدة، فإذا كان العصر غُسلت أرض الصحن حتى صار رخامها وبلاطها كالمرايا، ورُشّت الأشجار حتى قطر منها الماء، وزقزقت العصافير التي تأوي كل عشية، واصطفت الأسرة على الإيوان: الجد وأولاده وبناته وكناته وأحفاده، ونصب (سماوَر) الشاي وأديرت الكئوس، وقفز الأولاد ولعبوا، وتحدث الكبار وضحكوا، لا تصل إلى الجيران أصواتهم ولو صاحوا وغنوا، ولا تصل أصوات الجيران إليهم، لا يراهم أحد ولو تعرّوا ولا يرون أحدًا، فهي مملكة مستقلة يحس ساكنها أنها له وحده، لا يؤذي جارًا ولا يؤذيه جاره».
طبعا قد يبدو هذا الكلام مختلفًا في معايير قيم الحياة العصرية، التي تعززت فيها الخصوصية الفردية إلى درجة اصطدمت أحيانًا بروح التواصل الجماعي داخل الأسرة الواحدة، فما بالكم بالأسرة المتعددة الأجيال.. وقد يبدو البيت الدمشقي غير قادر على استيعاب أنماط التغيير التي طرأت على سلوك البشر وثقافتهم.. لكنها في كل الأحوال تدعونا للتأمل في ما خسرناه من تلك الحياة، وما جنيناه في الحياة العصرية.. ولعل هذا التأمل هو ما ظل يقود الأسر الدمشقية التي هجر أبناؤها بيت العائلة التقليدي، لتخصيص يوم أسبوعي لاجتماع أبناء الأسرة وأحفادها كافة، أو لممارسة تلك الطقوس في المناسبات والأعياد.. حيث تبدو الكثير من قيم الماضي قادرة على الحياة، رغم بعض التحفظات على تلك القيم، التي قد تتضخم أو تتضاءل، تبعًا لتوجهات أصحابها وتبدلات معاييرهم.
بيت يعتني بجيرانه!
العلاقة مع الجيران قيمة مهمة من قيم البيت الدمشقي، في إطار مفهوم (الحارة) التي كانت تشكل نسيجًا مجتمعيًا يتقاطع في مسئولياته وواجباته في حماية أفراده، مع النسيج الأسري بل وينوب عنه في بعض الحالات. كانت الحارة مجتمعًا ديمقراطيًا، لا يميز في تجمعاته بين الفقراء والأغنياء، كما جرى لاحقًا في أحياء دمشق الحديثة، حيث تم الفرز في الأحياء الراقية على أسس الثراء.
طبيعة البيت الدمشقي الملتصق ببيوت أخرى للجوار، والمتكئ على كتف جاره، حيث تداخل أجزاء البيت الواحد أحيانًا مع بيوت الجيران، في ما يسمى حالة (الركوب) أي ركوب جزء من هذا البيت على جزء من بيت جار آخر.. هذه الطبيعة رسخت قيمًا حقيقية لمفهوم حسن الجوار.
ومما لا شك فيه أن هذه القيم مستمدة أساسًا من قيم الإسلام، الذي حض على حسن معاملة الجوار حتى من أبناء الديانات الأخرى.. لكن معمار البيت الدمشقي ترجم هذه التعاليم وفق نسق معماري، يتصل حين الحاجة، وينفصل عندما يصل الأمر إلى المس بخصوصية بيت الجار.
يتصل البيت الدمشقي مع جيرانه عبر نوافذ صغيرة، تفتح في الطبقات العليا، في الفسحة السماوية المسماة (المشرقة) أو في أي نقطة تماس أو تداخل أخرى، لتتبادل سيدات البيوت (سكب) الطعام في ما بينهن، أو ليتم استعارة بعض الأدوات المطبخية أو المواد الغذائية، بما يغنيهن عن الخروج إلى الأبواب الرئيسة لتلك البيوت. وقد يحدث أثناء ذلك تبادل الأحاديث اليومية النسائية، في زمن لم تكن فيه الهواتف والجوالات قد انتشرت.
للجار على جاره حق غض البصر حين الصعود إلى سطح بيته الذي قد يطل على بيوت جيرانه، وللجار حقوق في الأفراح والأحزان، ففي الفرح قد يستضيف البيت الأوسع في الحارة أعراس جيرانه، وفي الحزن يغدو بيت الجيران مفتوحًا كما القلوب.. فيستضيف أماسي العزاء، أو يتكفل بعصريات عزاء النساء في حال ضيق البيت.
ومن نافل القول أن بيوت الجيران المفتوحة لأهل الحارة، باحاتها ملاعب للأطفال الذين تربطهم صداقات المدرسة، أو للشبان الذين تربطهم صداقات العمل والسوق، أما أكثر ما ترسيه قيم الحارة الدمشقية في تلك البيوت، فهي الابتعاد عن استعراض مظاهر الغنى والثراء، وخصوصًا في الأعياد والمناسبات.. حيث للجيران الفقراء حق في أضحية العيد، أو في مذاق اللحم المشوي إذا وصلت الرائحة إلى البيت المجاور.
بيت يفيض بالماء!
من أكثر ما يلفت النظر في معمار البيت الدمشقي، إلى جانب الخضرة التي تزين أرجاءه وزواياه، وغناه بروائح الطبيعة، والزخارف والنقوش التي تضفي ذوقًا خاصًا على فن العمارة فيه، كثرة جريان الماء.
في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي زار الرحالة الإيطالي جورجو غوتشي دمشق، فكتب عن كثرة مياه بيوتها يقول:
«وفي كل منزل يوجد بحرة في صحن الجار، وينتقل الماء من بيت إلى بيت بأنابيب تحت الأرض، وقد شيّدت تلك الأنابيب بطريقة رائعة. وكما أن هناك أنابيب للماء العذب، فهناك أنابيب تجر الماء غير النظيف إلى خارج المدينة لري الأراضي، وبإمكان الماء الفائض أن يدير عددًا من أرحاء الطواحين».جرت مياه بردى والفيجة منذ عهد الرومان، ومازال في دمشق قرب باب الجابية الغربي، حي يحمل اسم (القنوات) نسبة إلى القنوات الحجرية التي حفرت في العهد الروماني. أما في العصر الحديث فقد تم جر مياه نبع الفيجة إلى دمشق عام 1908، في عهد واليها التركي ناظم باشا، وقد تم توزيع المياه على 400 سبيل، كانت تملأ حارات وشوارع دمشق؛ أما داخل الأحياء فقد كانت المياه آنذاك تتوزع عبر (طوالع) جمع طالع، وهي خزانات صغيرة من الحجر.. في قاعدتها فوهة تتدفق منها مياه النهر، وفي أطرافه فتحات صغيرة تنساب منها المياه عبر قساطل صغيرة، تصل إلى البيوت والمرافق العامة.. وكان في دمشق آلاف الطوالع لتوزيع المياه إلى البيوت، واستمرت هذه التقنية حتى عام 1932 حين فكر وجهاء وتجار دمشق في جر مياه الفيجة، عبر نفق بعد أن كانت المياه تصل إلى دمشق عبر أنبوب من الفونت بقطر 250 مم، فأسسوا ما سمي «لجنة مياه عين الفيجة»، قررت تنفيذ نفق من البيتون المسلح.. ومولوها من اشتراكات الأهالي.
وهكذا أمكن للبيت الدمشقي أن ينعم بكمية وافرة من الماء الجاري الذي كان يستخدم للشرب ولكل احتياجات الحياة اليومية، ثم يتدفق من نوافير البحرات، وتنظف به باحات البيوت، وترش به النباتات العطرية في ليالي الصيف لتطلق عطرها الفواح. ومن الطريف أن الدمشقيين أطلقوا اسم (بيت الميْ) على أماكن قضاء الحاجة، لأن الماء الذي يتدفق في إناء حجري صغير، لا ينقطع فيها أبدا!
كان البيت الدمشقي مهرجانا للخضرة والماء، تفوح منه رائحة النظافة، وألق الحياة المتقنة التنظيم في كل تفاصيلها الصغيرة.
بيت مسكون بالعمل!
وداخل كل بيت دمشقي، أسس الدمشقيون ممالكهم الخاصة، وعاشوا تقلبات الفصول وخيرات المواسم، ولعل مواسم تخزين المؤن الغذائية لا تكاد تنقطع على مدار العام، فمن موسم تموين ورق العنب الآتي من بساتين داريا، إلى تجفيف البامياء والملوخية الآتية من بساتين العدوي وبرزة، إلى تحضير (المكدوس) الذي يترافق مع موسم الباذنجان، حيث تسلق ثماره وتحشى بالجوز والفلفل الأحمر، وتكدس في الأواني الزجاجية المملوءة بزيت الزيتون، لتؤكل في وجبات الفطور والعشاء... إلى مواسم صنع المٌربيّات من مشمش غوطة دمشق بأصنافه المتعددة التي طبقت شهرتها الآفاق، وصولا إلى مربى التفاح والتين والورد البلدي.. ومواسم صنع مشروبات الصيف وأشهرها (التوت الشامي) أرقى المشروبات الدمشقية وأكثرها تعبيرًا عن خصوصية ضيافة البيت الدمشقي في الصيف.. والذي يعصر ويغلى ويحلى ليتحول إلى مشروب مكثف، يتطلب مهارة في عقده، ومن بقايا ثمار التوت المعصورة تصنع (التوتيّة) وهي حلوى خفيفة تؤكل مع الأجبان أحيانًا، وشبيــــهة بحلويات الحليب (الأرز بحليب- الألماسية- البالوظة) وليس انتهاء بمواسم الأعياد حيث تصنع حلويات العيد المعروفة باسم (المعمول) المحشو بالجوز البلدي الآتي من الغوطة أو سهل الزبداني، أو الفستق الحلبي العاشوري المجلوب من حلب، أو خلاصة التمر الآتي من بلاد الحرمين والعراق، وفي أحيان أخرى بجوز الهند. وكان (المعمول) يزيّن قديمًا بحلوى (الناطف) التي تصنع من زيت السمسم والسكر، فتصير مستحلبًا أبيض.. أما شوي المعمول، فكان مواسم مباراة بين فتيان العائلة الذين يذهبون بصواني المعمول إلى الفرن أو (المخبز) القريب في الحارة، وينتظرونها كي لا تختلط مع صواني الجيران. قبل أن يتحول هذا الطقس إلى طقس داخلي، مع انتشار الأفران المنزلية. وكانت سيدات دمشق يتبارين في زياراتهن المتبادلة في العيد، أيهن كان معمولها أشهى وأكثر نجاحًا في مكوناته ونسبة السكر فيه؛ فيتبادلن الخبرات والنصائح في ما بينهن للأعياد المقبلة.
لقد كان البيت الدمشقي عنوان الحياة المتوارثة من جيل إلى آخر، والصلات الممتلئة بالمودة والتراحم، بين أبناء الأسرة الواحدة وجيران الحارة الواحدة.. ومازال هذا البيت الذي حمله الأمويون إلى الأندلس، وألهم عبر قرطبة وإشبيلية وغرناطة ذائقة أهل المغرب فاستوحوه في عمارة بيوتهم منذ قرون، مازال عنوان فرادة دمشق مقارنة بسائر مدن الشرق القديمة، فقد كتبت صحيفة الجارديان البريطانية، تحت عنوان: «دمشق لن تهزم» تقول:
«تتفرد دمشق أيضا، بمجموعة منازلها الأثرية الخاصة. فقد حافظت مدن مثل القاهرة واسطنبول على مساجدها ومدارسها الدينية وسورها، ولكنها فقدت كل عمارتها السكنية القديمة تقريبا. وفي عام 1900، سجّل الكتاب السنوي العثماني 16832 منزلا داخل مدينة دمشق القديمة، لا يزال نصفها قائما، ولا يزال العديد منها يضم غرفا وساحات غنية بديكوراتها. وبصرف النظر عن الدمار المادي الذي ينتظر هذه المدينة، فإن نسيجها التاريخي والثقافي والروحي العميق والمعقد، سينجو كما سينجو نسيجها الاجتماعي - المشقوق، ولكن غير الممزق إلى أشلاء».
لقد كان البيت الدمشقي بحق عنوان دمشق التي تؤسس لحياة الاستقرار العائلي، وروح التعاون الجماعي، والألفة التي تسكن أوقات العمل، وليالي السمر، وآمال وأحزان الناس .