كلاسيكيات السينما «الڤيتارة البورميزية» (1956) .. تحفة المخرج كون إتشيكاوا عن الفردالذي يتحدّى الحياة بفنّه

كلاسيكيات السينما «الڤيتارة البورميزية» (1956) .. تحفة المخرج كون إتشيكاوا عن الفردالذي يتحدّى الحياة بفنّه

إذا‭ ‬كان‭ ‬متابعو‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬كما‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬أقل‭ ‬دراية‭ ‬بسينما‭ ‬المخرج‭ ‬الياباني‭ ‬كون‭ ‬إتشيكاوا‭ ‬من‭ ‬سينما‭ ‬مواطنه‭ ‬أكيرا‭ ‬كوروساوا،‭ ‬فإنه‭ ‬يمكن‭ ‬إرجاعه‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬مهم‭ ‬وهو‭ ‬نقاد‭ ‬جيل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬تم‭ ‬التعرّف‭ ‬على‭ ‬سينما‭ ‬كوروساوا‭ ‬بفعل‭ ‬قيام‭ ‬المخرج‭ ‬بالتوجّـه‭ ‬إلى‭ ‬المهرجانات‭ ‬الأوربية‭ ‬تباعاً‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬فكان‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬النقاد‭ ‬وبين‭ ‬السينما‭ ‬اليابانية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ثابت‭ ‬وعريض‭ ‬‭(‬أي‭ ‬باستثناء‭ ‬عدد‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الأول‭ ‬الذين‭ ‬ألمـوا‭ ‬بالسينما‭ ‬اليابانية‭ ‬منذ‭ ‬بداياتها‭ ‬الصامتة‭ ‬وحتى‭ ‬نهاية‭ ‬الثلاثينيات‭). ‬

بذلك سبق كوروساوا سواه من مخرجي موطنه في تثبيث مكانته عالمياً باهراً المثقّـفين وهواة السينما عموماً، بأعماله الأولى مثل «كلب ضال» Stray Dog، سنة 1949 وقبله بعام «الملاك السكير» The Drunken Angel وبعده «راشومون» Rashomon سنة 1950 و«الأبله» The Idiat العام 1951، ثم حلّـق أكثر مع روائعه الثلاث المتتابعة «إكيرو» Ekiru، العام 1952 و«الساموراي السبعة» Seven Samurai سنة 1954 وفي العام 1957 «شوكة الدم» Throne of Blood.

في الحقيقة أفضل أعمال كوروساوا الكلاسيكية هي تلك التي وردت في الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات. هذا قبل أن يقل إنتاجه في السبعينيات فيقدم على محاولة الانتحار (ويفشل). عودته إلى العمل السينمائي في سنة 1975 بفيلم «درسو أوزالا» Dersu Uzala تمّت بمعونة إنتاجية روسية، لكن لم ينتج عنها تسارع المنتجين اليابانيين لتمويل أفلامه. رغم ذلك، عرف كيف ينجز خمسة أعمال ما بين 1980 و1993 (قبل أربع سنوات من وفاته) هي «ظل المحارب» Kagemusha في 1980 و«ران» Ran بعد خمس سنوات، ثم «أحلام» (بعد خمس سنوات أخرى- أي سنة 1990) و«قصيدة في أوغست» Rhapsody in August العام 1991 وأخيراً «مادادايو» Madadayo سنة 1993.

 

نهاية‭ ‬حرب‭ ‬

عامل آخر ساعد في شيوع كوروساوا عنوة على أترابه من المخرجين اليابانيين هو ثقافته غير اليابانية واعتماد عدد كبير من هذه الأفلام على مصادرها الأدبية تأثّراً أو اقتباساً. نجد ذلك في أفلامه الأولى مثل «الأبله» المأخوذ عن رواية فيودور دستويفسكي، ولاحقاً في «ران» المأخوذ عن مسرحية وليام شكسبير «الملك لير».

كل ذلك غطّـى على عدد كبير من المخرجين اليابانيين الجادّين والملتزمين، وأحدهم كان كون إتشيكاوا التي واتته الشهرة العالمية لاحقاً، ليس لكونه لم يحذُ حذو كوروساوا فيشترك في مهرجان «فينسيا» الإيطالي سنة 1956 لكن اكتشاف إتشيكاوا على صعيد واسع لم يتم فور اشتراكه في دورة ذلك العام بل تأخر حتى السبعينيات وما بعد. 

الفيلم المشارك كان «الڤيتارة البورميزية» The Burmese Harp أو كما عنوانه الأصلي Biruma no tategoto  دراما ذات محيط إنساني بالغ التأثير يتبع علاقة شخصياته عموماً، وشخصية محددة على نحو خاص، بالدين والفن على حد سواء.

إنها الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. المعارك مازالت ناشبة في جزيرة بورما. لا انتصارات كبيرة هنا للجيش الياباني، بل مجرّد امتثال لأوامر تقتضي بمتابعة القتال. للقيام بالمهمّـة على خير وجه يقوم الكابتن إنويي (رنتارو ميكوني) بتدريب جنوده على الغناء تجاوباً مع عزف المجنّـد ميتزوشيما (شوجي ياسوي) على آلة «الهارب» وهي ڤيتارة من تراث آلات الموسيقى في تلك الأنحاء من البلاد. 

تنتهي الحرب. القنبلة النووية تُـلقى على ناجازاكي وهيروشيما (لا نراهما) والجنود اليابانيون فوق الجزيرة يستسلمون باستثناء وحدة أخرى مازالت تقاتل في غارة تقع في أعالي جبل. تقوم حامية بريطانية مزوّدة بالمدفعية بإرسال ميتزوشيما إلى تلك الوحدة. حال وصوله يحذّر قائد تلك المجموعة مغبّـة استمرارهم في القتال. حين يدرك أن المجموعة لا تنوي الإذعان يحاول الهرب من المكان قبل أن تنفد المدّة الموقوتة التي حددتها الحامية البريطانية لمواصلة القصف. لكن القصف يبدأ سريعاً ويشمل كل شيء. ميتزوشيما يُـعتبر في عِـداد الموتى.

بعد ذلك ننتقل إلى الحامية اليابانية التي يقودها الكابتن إنويي والتي باتت تعيش الآن في معسكر بريطاني وتقوم بأعمال الطرق بانتظار موعد الإفراج عنها. يختار المخرج إتشيكاوا الانتقال بين ميتزوشيما (الذي نجا بنفسه وعالج جراحه ناسك بوذي) والحامية اليابانية. الأول يبدأ ترحالاً فوق براري بورما مستفيداً من معرفته اللغة. يتوقّـف عند مناطق دارت فيها المعارك. وحيداً إلا من رفش صغير، يبدأ بحفر القبور لجثث الجنود اليابانيين الذين قضوا وتُـركوا مكشوفين للكواسر. لاحقاً يعاونه بعض البورميين قبل أن يستمر في تجواله. في الوقت ذاته تنتقل الحامية البريطانية بين المعسكر وأماكن العمل، وفي إحدى المرّات يمر بها ميتزوشيما، لكن أحداً لا يستطيع التكهّـن ما إذا كان هو أم لا. لاحقاً ما يسمع الجنود موسيقاه فيدركون أنه رفيقهم السابق. يتسللون إلى معبد قريب حيث يرونه واقفاً هناك. ينادونه ثم يبدأون الغناء. حين يصدر العفو العام ويستعد الجنود للعودة إلى بلادهم يدركون أن ميتزوشيما سيبقى في بورما. يناشدونه العودة معهم، لكنه يكتفي بالنظر إليهم مودّعاً. بالنسبة إليه لم تعد هناك أراض وأوطان، إنما هي حياة على الأرض تستورد أنفاسها من التديّن الروحاني والموسيقا.

 

الروح‭ ‬الإنساني

إنه من الصعب، إلى اليوم، وهذا الفيلم من أعمال العام 1956 كما تقدّم، أن تجد فيلماً يشبهه في أي مضمون أو شكل ما حققه إتشيكاوا في عمله هذا. إذ تنظر حولك بحثاً عن فيلم شبيه، قبل أن تدرك أنه لايزال منفرداً اليوم كما كان منفرداً بالأمس، تجد أن الغالب في الأفلام التي تتناول مراحل وحكايات من الحرب العالمية الثانية، هو تقسيم الشخصيات بحسب موقعها من هويّة الإنتاج. إذا ما كان الفيلم أمريكياً، على سبيل المثال، فإن التنميط من نصيب الياباني أو الألماني. وفي أفلام عدّة يتم إنتاجها في الصين اليوم، فإن الصيني هو البطل والياباني هو العدو، والعدو - في غالبها- ليس إنساناً بل شكلاً نمطياً معادياً.

فور أن أقدم إتشيكاوا على التخلّـي عن هذه النظرة والمعالجة، ساوى بين الجميع. ليس هناك من ياباني أفضل من بورمي أو بريطاني، وحتى رئيس الحرس الهندي مديد القامة هو هناك تبعاً للأوامر ورمزاً للانضباط. السائد على الفيلم بأسره هو معالجة الموضوع بجوهر إنساني بحت لا تميّـز فيه، وإلا لما أوصل مفاده وجوهره إلى العلن بنقاء ضروري. الحرب هي العدو والفن هو السمو والتديّـن هو رصيد روحاني يرفع شأن صاحبه أكثر وأكثر.

طبعاً الدين المتداول في تلك البقاع، أكثر من سواه، «البوذية» ولا يعقل أن يغيّـره المخرج إتشيكاوا (الذي ربما كان بوذياً بدوره ولو أن هذا ليس شرطاً لتحقيق الفيلم بالنسبة إليه) إلى دين شرقي أو غربي وافد. ما يهمّـه ليس ما ومن يعبد البوذي ولا حتى طقس العبادة، بل روحانيّـتها وانسجام تلك الروحانية مع جمال الموسيقى ورهافتها. هذا ما يجعله أبعد بكثير من أن يكون فيلماً ترويجياً لدين أو مذهب، لأن ما يروّج له هو الفن كجزء من الروح الإنساني وليس البوذية أو سواها. إتشيكاوا يستخدم المكان والزمان في تألّـق وجداني. يترك للكاميرا التقاط ما تعصف به مشاهده من تفاصيل بأسلوب هادئ يماثل روحانية ما ينساب من المضمون.

هذا بأجمعه لا يتم بمجرد سرد حكاية متتابعة. كون إتشيكاوا ليس بوارد سرد القصّـة لأجل أن يحضر المشاهد أحداثاً تبدأ من نقطة وتنتهي في نقطة أخرى. على العكس يمزج الحدث ببعض المشاهد المسترجعة (فلاش باك) كما ينتقل بين حكاية عازف وجنود. الأول ينهل من المشاعر والطبيعة ما يدفع الآخرين إلى التجاوب. في مشهد مبكر من الفيلم يكون العزف (برمزه للفن) الطريقة الوحيدة لسبر غور مخاطرة وتحقيق الأمان عندما يتم إرسال ذلك العازف لاستكشاف الطريق حذراً من وقوع الجنود اليابانيين في فخ. والفن هو الطريقة التي يتوخاها العازف حين يتم اختياره لصعود الجبل لحمل جنود آخرين على رمي السلاح. يأخذ ڤيتارته معه التي ستصحبه لاحقاً كلغة تواصل بينه وبين الموتى الذين يجد جثثهم منتشرة على الأرض الخلاء، ولغة تواصل بينه وبين وحدته كما بينه وبين عالمه كلّـه.

 

جماليات‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود

الفيلم بالأبيض والأسود والحكمة الثابتة بسيطة في هذا المجال: أي مدير تصوير يستطيع التصوير جيداً بالألوان. فقط الفنان يستطيع التصوير جيّداً بالأبيض والأسود. يتضح ذلك في «الڤيتارة البورميزية» جيّداً (ولو أن المخرج فكّـر أساساً بتحقيق فيلمه هذا ملوّناً قبل أن يعدل عن الفكرة).  مدير التصوير هنا هو مينورو يوكوياما وما صنعه هو منح الفيلم ذلك اللون الداكن مختاراً أوقات التصوير من النهار بعناية. المشهد الذي نرى فيه الموسيقار- الناسك على ساحل البحر وهو يؤم دفن الموتى (وقبله المشاهد التي تعترض رحلته الطويلة مشياً على القدمين حتى سقوطه على حافة الموت جوعاً وتعباً) من تلك التي تجعل المرء يعيش عالماً مسكوناً بالمخاوف. رسم بالكاميرا لا يبتعد عن منحى الرسّام الياباني الكلاسيكي سيشو تويو (1420 - 1508) الذي اشتهر بلونه في الرسم الطبيعي وبعضها وإن كان ملوّناً، إلا أنه حمل ميزتين نراهما في الفيلم: ألوان رمادية وبنيّـة فاتحة وسوداء وشعور بالعزلة بحيث إن المنقول إلى اللوحة لم يكن جمال الطبيعة بل وحشتها.

«الڤيتارة البورميزية» مأخوذ عن كتاب كان وُضع قبل نحو عشر سنوات من الفيلم واستلهمته زوجة المخرج وكان، أيامها، واحداً من الكتب القليلة التي حاولت أن تسبر غور ما حدث في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية بالنسبة للجنود اليابانيين وما عنته الهزيمة بالنسبة إليهم. البحث في الفيلم ليس في مواقف منطوقة أو خطابات مباشرة أو مشاهد مختارة لكي تعكس على نحو بيّـن لما كان عليه الوضع. عوض ذلك، فإن المخرج حوّل عمله إلى تداول لمفهوم يظهر في عدد من أفلامه وهو تحدّي المرء الواحد لآفاقه المحدودة. الرغبة في التغلّـب على وضع معيّـن هو ليس مسئولاً عنه (هزيمة عسكرية) باللجوء إلى فعل آخر بعيد (الفن في هذه الحالة). والمخرج، عبر اختياراته الفنية الكاملة (التصوير، الصوت، التمثيل، المونتاج مشكّـلاً الإيقاع) يوظف عناصره لخدمة هذا المضمون من دون أن يخونه بمعالجة ميلودرامية. السكينة التي يودعها في شخصياته هي ذاتها السكينة التي في المنظر العام وفي الفيلم على نحو شامل. بلاغته تنجلى في قدرته الفائقة على التأثير الحسّي بقيمة كل ما هو معروض فناً ومضموناً .