التنوع الثقافي بين التهميش والإقصاء: د. حسين الأنصاري

التنوع الثقافي بين التهميش والإقصاء: د. حسين الأنصاري
        

          منذ أن بدأ الإنسان يعي علاقته بالجماعة وأهمية أن يكون فاعلاً مع الآخرين من أجل توفير ضروريات العيش المشترك راح يعمل على إيجاد سبل الاتصال، التي تمكنه من إبلاغ أفكاره والحصول على احتياجاته من خلال التعاون والتبادل وتحقيق المصالح وضمان تقاسم الثروات والأمكنة والمنجزات والسعي نحو مزيد من التطور والارتقاء، وصولاً إلى بناء المدنيات واستقرار المجتمعات وتطورها.

          ونتيجة لتشابك المصالح وتنوع الحاجات ازداد عنصر التبادل والتعاون بين مختلف فئات البشر، ومع بروز عامل المنافسة والانفتاح والتجارة والسفر والحروب والهجرة إلى مختلف قارات الكوكب نتج عن كل ذلك تضاعف حجم الاتصال والاحتكاك وتبادل الخبرات والمعلومات والمصالح، الأمر الذي أدى إلى تفرع الثقافة إلى ثقافات متعددة، منها ما واصل النمو والتطور ومنها ما أخذ بالتراجع والذوبان والانحسار بفعل عوامل مختلفة، منها السياسية التي تنحو إلى السيطرة والاستعمار وبناء الإمبراطوريات او الدول القطرية أو القومية أو التشبث بعقيدة دينية أحادية، مما جعلها تمارس نوعًا من التوحيد والدمج القسري والتهميش للثقافات الفرعية والمغايرة. وتجلى هذا الأسلوب واضحًا من قبل الدول الاستعمارية التي جعلت مستعمراتها تتخلى عن لغاتها الأصلية، بعد أن ربطت متطلبات الحياة الأساسية كالعمل والتعليم بلغتها ونظامها الإداري والثقافي، وهذا الأمر ينطبق على واقع الجاليات المهاجرة التي تفرض عليها ظروف الإقامة في بلدان المهجر إتقان لغاتها ومعرفة ثقافتها بغية إدامة التواصل والاندماج بجوانبه الأساسية والتفاعل والعيش المشترك، وهذا من شأنه أن يقود إلى تهميش اللغات الرئيسية الأم - لاسيما مع تقادم الأجيال، واليوم هناك أعداد كبيرة من أبناء المهاجرين لا يتقنون لغات بلدانهم الأصلية، مما يؤدي بمرور الوقت إلى إضعاف العلاقة والانتماء وبالتالي الذوبان بثقافة الآخر تمامًا.

          إضافة إلى هذا هناك عوامل أخرى جعلت الهيمنة اللغوية لصالح دولة عالمية دون أخرى، نتيجة النظام التداولي اللغوي المتبع من قبل المنظمات الدولية واليونسكو على سبيل التحديد، هذا النظام يعتمد اللغة الإنجليزية في جميع البرامج والمؤتمرات والأدبيات والبروتوكولات الرسمية.

          ولعل العامل الأبرز الذي فرض أحادية التداول اللغوي يعزو إلى الشبكة العالمية للمعلومات التي اتخذت من الإنجليزية أساسًا لمختلف برامجها الاتصالية، وهذا أدى إلى تراجع اللغات الأخرى وتحول العديد من الناس إلى تعلم هذه اللغة وتحصيل برامجها التعليمية كما حصل في بعض الدول الإفريقية لمسايرة التطور التقني والمعلوماتي.

          لكن في المقابل نلمس أن معطيات ظاهرة العولمة والانفتاح الكوني وتصاعد موجات الهجرة وغيرها أدت إلى تطور تدريجي في خلق كيانات لغوية وكيتوات اجتماعية وتنوع ثقافي محدود وسط مراكز الدول التي باتت واثقة من صعوبة تسيد ثقافة ما أو هيمنة لغة واحدة، بل بالعكس أخذت بعض الدول تسعى لاستخدام لغات مختلفة وتمارس ثقافات متنوعة انطلاقًا من أن التنوع الثقافي يجعل المجتمعات أكثر نشاطًا وأقوى إبداعًا وابتكارًا وسط عالمنا الذي بات بلا حدود.

الثقافة واللغة والاتصال

          اللغة وسيلة تعبير مكّنت الإنسان من الاتصال والاجتماع مع الآخرين والحديث والتخاطب معهم، مما ساهم في تطوير العلاقات الاجتماعية، وقد لاحظ الإنسان أن الأفكار التي ينتجها ذهنيًا لا تدوم طويلاً بل إنها تذهب وتضيع بعد انتهاء كلامه، فاللغة المنطوقة وحدها زائلة ولا يمكن أن تحافظ على إنتاجه الفكري، لذا كان لابد من إيجاد وسيلة أخرى تحفظ له أفكاره لفترة طويلة بل تمكنه من نقل أفكاره من جيل إلى جيل.

          وهكذا اهتدى إلى وسائل أخرى منها الفنون التشكيلية باعتبارها وسيلة أولية لتجسيد الأفكار فلجأ للرسم والنحت، ولكن هذه الفنون لم تتمكن من تحويل كامل الطاقة الفكرية للإنسان إلى أشياء مادية كون الفنون التشكيلية كان لها بعدان إذا كانت رسمًا وثلاثة أبعاد إذا كانت نحتًا، لذا حاول الإنسان تطوير هذه الوسائل وتحويلها إلى فن آخر له أربعة أبعاد، فوجد ضالته بابتكار فن الكتابة التي ظهرت منذ أكثر من خمسة آلاف سنة من قبل السومريين في بلاد الرافدين وعرفت بالكتابة المسمارية وكذلك عند المصريين وقد عرفت بالكتابة الهيروغليفية، ثم تطورت عند الصينيين وقبائل المايا بشكل مستقل عما كانت عليه. ثم تطورت مع العصور اللاحقة وشهدت انتشارها في عصر الثورة الصناعية، حيث اختراع الطباعة وانتشار الكتاب وكان عصر التحول الاتصالي الذي استمر في تطوره من خلال انتشار وسائل الاتصال بداية من وسائل النقل في القرن الثامن عشر التي تطورت بحرًا وبرًا وصولاً إلى النقلة الأخرى التي جاءت بفعل الثورة التقنية والإلكترونية، حيث التطور في استخدام الاتصالات السلكية واللاسلكية وصولاً إلى اختراع الإنترنت وانفتاح الفضاءات الكونية وسرعة انتقال المعلومات وهيمنة عصر الصورة عبر الفضائيات، وأتفق مع ما ذهب إليه العالمان مارشال ماكلوهان وهارولد أنيس حين ربطا محركات التطور المعاصر بعلم الاتصال وما ينتج عنه من معطيات سرعان ما تنعكس على حياة البشر.

          ويؤكد الواقع أن من السهل على المختصين والمهنيين إثبات أن تطور وسائل الاتصالات العملاقة والمعقدة كالإنترنت وغيرها إنما هو تطور جرى بصورة تدريجية ابتداء من عمليات إرسال واستقبال بسيطة ومن أجهزة سلكية, ثم تطورت إلى لاسلكية, ثم إلى شبكات وأقمار اصطناعية وهكذا مثلما نراها اليوم, وهذا التطور الكبير الذي جرى على علم الاتصالات كان تطورًا شاملاً جرى على الناس أيضًا, فغير من وعيهم وثقافتهم وتنوع مصالحهم وعلاقاتهم وأسلوب خطابهم.

          يقول ماكلوهان: إن الأشياء التي نكتب عليها كلماتنا, لها أهمية أكبر من الكلمات ذاتها, بمعنى أن وسائل الاتصالات هي وسيلة وليست هدفا, ونجاحنا في استخدامها يتوقف على الدقة في اختيارنا المناسب لها لتحقيق الهدف المطلوب, فهذا الاستخدام هو الذي سيصبح أكثر تأثيرًا من الوسائل والأهداف المطلوبة الأخرى، فنحن حينما نطبق استخدام التكنولوجيا الجديدة فهي التي ستخلق لنا ظروفًا وأنماطًا جديدة في حياتنا، برغم أن البعض يعتبر لأول وهلة أن هذه الاستخدامات فاسدة وتحط من شأن الإنسان لعجز تلك الآلة عن تحقيق الطموح بشكل مباشر, ولكننا فيما بعد نتعود عليها ونستشعر بلذتها, ونعترف بأن الجديد سيمكننا من تحويل ما سبقه من قديم إلى فلكلور فني من الماضي ويبقى من أفدح الأخطاء وأكثرها ضررًا وجريمة التمسك بالماضي والجمود عليه وتكفير كل من يستخدمه لأغراض تطوير الحياة كما يفعل السلفيون المعاصرون، فحينما اكتشفت الكتابة حوّل أفلاطون الحوار الشفهي القديم إلى شكل فني, وحينما كانت الطباعة جديدة, أصبحت العصور الوسطى برمتها شكلاً فنيًا من التراث, وبرغم ذلك فإن الخوف والقلق بدآ يراودان البعض في أواخر هذه المرحلة التاريخية, بسبب سرعة وتغلغل التطور التكنولوجي، وقد تم التعبير عن هذا الخوف بفكرة مسرحية رقصة الموت المعروفة.

          وجريًا على تحول القديم إلى فلكلور على نمط الأفكار الأفلاطونية تلك, ونظرًا لأن التكنولوجيا الحديثة قد تغلغلت في جميع مقومات الحياة, فقد خلقت سلسلة كاملة من الظروف الجديدة المربكة التي يتم التعبير من خلالها عن القلق والمخاوف منها بحذر مشابه للمخاوف من العولمة المعاصرة.

          إن التواصل يعني الاستمرارية في الحياة والعطاء وخلافه اللاتواصل ويعني الانقطاع والانفصال.

          والتواصل مفهوم واسع ومصطلح حاضر في كل زمان ومكان تحققه مختلف الوسائل والتقنيات وهذا يجعل منه مفهومًا بالغ الأهمية والتأثير كونه أضحى مفهومًا متداولاً وملحًا.

          التواصل هو البلاغ والتبليغ والدعوة والتبشير والدعاية والإرجاع كما أنه فعل المشاركة والتقاسم، إنه كل علاقة ديناميكية ضمن حركية ما.
--------------------------
* باحث وأكاديمي عراقي مقيم في هولندا.

---------------------------------

لعَمْرُكَ، ما الدّنيا بدارِ بَقَاءِ؛
                              كَفَاكَ بدارِ المَوْتِ دارَ فَنَاءِ
فلا تَعشَقِ الدّنْيا، أُخيَّ، فإنّما
                              يُرَى عاشِقُ الدُّنيَا بجُهْدِ بَلاَءِ
حَلاَوَتُهَا ممزَوجَةٌ بمرارةٍ
                              ورَاحتُهَا ممزوجَةٌ بِعَناءِ
فَلا تَمشِ يَوْماً في ثِيابِ مَخيلَةٍ
                              فإنَّكَ من طينٍ خلقتَ ومَاءِ
لَقَلّ امرُؤٌ تَلقاهُ لله شاكِراً؛
                              وقلَّ امرؤٌ يرضَى لهُ بقضَاءِ
وللّهِ نَعْمَاءٌ عَلَينا عَظيمَةٌ،
                              وللهِ إحسانٌ وفضلُ عطاءِ

أبوالعتاهية

 

 

حسين الأنصاري*