مندوبة «الخارجية»

مندوبة «الخارجية»

لافتة كبيرة من الورق الأبيض المقوى مكتوب عليها بحروف إنجليزية سوداء بارزة: Mr. Baraka.. هذا هو الخبر السعيد الذي كان في انتظاري حين غادرت نقطة التفتيش وأنا في مطار واشنطن. 

اللافتة تحملها سيدة في منتصف الثلاثينيات، بيضاء، ممتلئة قليلًا، تتابع بعينيها في هدوء وتركيز عملية البحث عن شخص أجنبي لا تعرفه.

جاءت إلى هنا بتكليف من رئيسها المباشر في وزارة الخارجية، لتكون في انتظار هذا الشخص, الذي لا تعرف عنه سوى أنه من بلد إفريقي بعيد اسمه مصر، سترحب به حين يتعرف إليها، ستكون تلك اللافتة جواز المرور الحقيقي إلى بلاد «أنكل سام»، وسيكون التعارف دافئًا وبسيطًا، وخصوصًا حين تعرف أن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها بلادها.

على عكس توقعي، جاءت «إليزابيث» بسيارتها الخاصة، هوندا يابانية بيضاء، علقت على هذه الملاحظة، أعني النصف الثاني منها، فقالت وهي تطلب مني وضع حزام الأمان:

- ولمَ لا؟.. إن الثقة في التكنولوجيا اليابانية تقليد متوارث في عائلتنا!

لم أعرف إن كانت تمزح أم تتكلم بجدية، يبدو أنها لاحظت ذلك فقالت:

- هل يبدو كلامي غريبًا، أم لعلك كنت تتوقع أن أثرثر معك طويلًا عن روعة المنتج الأمريكي في السيارات، وكيف أنني أعشق «فورد» و«كاديلاك» و«شيفروليه», باعتبار أن هذا من صميم الوطنية، وربما زدت واخترعت قصة حول أن «هوندا» جاءتني هدية فلم أرفضها؟! الحقيقة أن السيارات الأمريكيـة ليست في حاجة إلى مجاملة أو نفاق مني، فمصانعنا في ديترويت أو كلورادو لن تحقق قفزة في مبيعاتها إذا تكلمت عنها على هذا النحو!

- حسنًا، سأستغل صراحتك هذه..

قاطعتني ضاحكة ومشجعة:

- أرجوك افعل هذا!

- هل تتحدرين من أصول يابانية؟

- واو! هذا حقيقي.. لكن كيف عرفت.. لا تقل لي إن «هوندا» هي السبب!

- لا.. بالقطع لا.. فلدينا في مصر عشرات الآلاف منها دون أن يعرف أصحابها أين تقع اليابان على الخريطة!

- ما السر إذن؟

  تساءلت وعيناها تلمعان بالفضول.. أجبت:

- لا أعرف بالضبط.. لكني شعرت بنبرة فخر خفية انتابتك حين ذُكر اسم اليابان؟ والحقيقة أن هذا يثير استغرابي!

(هنافقطبدأتأنتبهإلىأنملامحوجههاتحملمسحةآسيويةخفيفة).

- لماذا الاستغراب؟

  تساءلت كأنها توافقني على ملاحظتي.. قلت:

- أعني أنك موظفة في «الخارجية»، وبحكم المهنة من الطبيعي أن تكوني متحفظة قليلًا وأنت تتحدثين مع زائر أجنبي عن بلد هاجمكم بضراوة قبل ستين عامًا.

- تقصد الهجوم على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر؟

- وأقصد أيضًا ما فعلته سلطات بلادك بالمواطنين اليابانيين، لم يعـــودوا مواطنين بل جواسيس وخونة إلى أن يثبت العكس، أنت تذكريــن بالطبع عزلهم في معسكرات اعتقال وانتزاعهم بقوة السلاح من فراشــهم الدافئ.

- قالت ضاحكة:

- انتظر!.. انتظر..! ما الذي يحدث.. هل تُحرضني ضد بلادي.. هل تعــرف اسم هذه المسرحية «انظر خلفك في غضب»؟ أنا لا أفعل هذا أبدًا، ما حدث قـد حدث، لكنك فعلًا تثير دهشتي!

  اقترحت إليزابيث تغيير الموضوع.. قالت:

- لندع التاريخ لأهله ولا ننكأ الجراح، وبدأت تشرح لي أين نحن بالضبط!

مازلت أذكر إليزابيث.. أذكر نفقًا مضيئًا.. وتلالًا معشوشبة بالأخضر الداكن.. أذكر اتساعًا مدهشًا للطريق.. وحضورًا لطيفًا لسيارات أنيقة تنهبه في هدوء.

 

زرقاء‭ ‬العينين

منذ اللحظة الأولى يكشف لك هذا البلد عن سره: أراض واسعة، ومساحات شاسعة ينعم بها شعب متدين ويهـــز عجائزه رءوسهم في رضا وامتنان وهم يقولون لك: إنها نعمة لا تقدر بثمن، فعندما شاءت العناية الإلهية أن نكسب حرب الاستقلال في الرابع من يوليو، منحنا الله أرضًا لا نهاية لها، ربما نعاني أحيانًا بعض الشح في الوقود، ربما نبحث عن مصادر جديدة للطاقة، لكننا لا يمكن أبدًا أن نشكو مساحة، فالأرض الواسعة رفاهية أمريكية بامتياز!

ولم تكن المطارات الدليل الوحيد على صدق هذه المقولة، فالشوارع والميادين والمولات ودور السينما تنطق هي الأخرى بتلك الحقيقة الصارخة التي تلمسها في كل شيء من حولك، حقيقة لا يوازيها سوى النصف الآخر من السر وهو ضرورة الانتظام في الطابور!

عبارة: Stay in line! تطاردك في كل مكان، وأنت تشتري ساندوتشًا من «برجر كنج» أو تقطع تذكرة، أو تقف أمام ضابط جوازات، فأنت في النهاية مصري، أي أنك تعادي بالفطرة فكرة الانتظام في طابور، وإذا امتلكت وعيًا مغايرًا أو حسًا حضاريًا مختلفًا، فالحركات «نصف الكم» كفيلة بشدك إلى الواقع!

في طابور طويل إذن انتظمنا أمام ضابط شاب، الطابور متعرج يحدد اتجاهه شريط كحلي طويل مثبت فوق قوائم معدنية، والإجراءات رغم دقتها سلسة وسريعة، وتفاءلت خيرًا بأن يد الله لن تدخلني التجربة، تجربة السيناريو الأسوأ الذي هيأتني نفسيًا له وأنا في القاهرة مساعدة الملحق الثقافي بالسفارة حين قالت بإنجليزية تحمل تلك النكهة الأمريكاني المحببة: كل الإجراءات تسير بشكل رائع، وهذا الخطاب، وأشارت إلى مظروف أبيض أنيق ستسلمه لضباط الجوازات في المطار، لا تفتح المظروف مطلقًا، هو فقط المخول بفتحه، سيقرأ كل التفاصيل وسيدعك تمر على الفور كما هو مخطط، لا تقلق، وفي أسوأ الاحتمالات سيطلب منك أن تتوجه معه إلى مكتب خاص، وهناك سيلقي عليك بعض الأسئلة الروتينية حول الهدف من زيارتك، ومدة الإقامة، وطبيعة البرنامج الذي تشارك فيه، لا تأخذ الأمر على محمل شخصي، ليست هناك أي إساءة متعمّدة، إنه مجرد إجراء أمني روتيني، عليك فقط أن تتحلى بالصبر والهدوء، وأن تبدي تفهّما للموقف، فهذا الضابط لا يتعمد مضايقتك إطلاقًا، هو فقط يريد أن يؤدي واجبه على أحسن وجه ممكن من وجهة نظره.. وسكتت فجأة «مارجريت»!

وقتها كنت قد أفقت من شــــرودي على معجزة الأزرق في عينيها، درجة عميقة وداكنة لم أر لها مثيلا من هذا اللون، كانت ترتدي «تاييورًا» رماديًا وصندلًا بكعب عال، وكنت أحاول جاهدًا ألا أستغرق أكثر في ثنايا زرقة العينين والبياض الثلجي الناصع للبشرة الذي يكشف عن عروق في العنق، متناهية الرقة والصغر!

تذكرت كيف في المكتب نفسه بالسفارة، قبل عام كامل كانت مارجريت قد أجرت معي نقاشًا مطولًا وفي يدها قلم رصاص تدون به ملاحظات سريعة.. سألتني: لماذا تعتقد أنك ستستفيد إذا شاركت في برنامج الزائر الدولي الذي تنظمه «الخارجية» الأمريكية؟ أجبت على الفور: بالنسبة لي على الأقل، أمريكا صداع أتداوى منه بمشروب النسكافيه السادة كل صباح دون إضافة أي سكر!

اتسعت عيناها ورددت ورائي وهي مندهشة:

- صداع!

واصلت أنا في جدية:

- صدقيني نوع النسكافيه الذي أطلبه دومًا جيد للغاية، وطريقة التحضير سليمة ومضمونة، لكن الصداع لايزال مستمرًا!

أغمضت عينيها وتراجعت برأسها قليلًا وهي تفرد أصابعها الخمس في وجهي وقالت بهدوء:

- انتظر! انتظر! هل يمكن أن تتكلم بوضوح من فضلك؟ قد تكون كاتبًا مميزًا، ولكني قد لا أكون معتادة على هذا المستوى من النقاش!

قلت:

- أوكيه، برغم آلاف الأميال التي تفصلنا هنا في مصر عنها، فإن الولايات المتحدة تسللت إلى هوائنا، وذابت في مياه النيل، نصطحبها معًا إلى غرف النوم، ونهيئ لها وسادة مريحة لتستند إليها برأسها، أمريكا لم تعد دولة عظمى فقط، بل أصبحت سيفًا بتارًا يقشر به البعض التفاح، أما البعض الآخر فيستخدمه لشق صدور خصومه ومعارضيه واستخراج دليل العمالة والخيانة!

وما أريده بكل بساطة هو أن أرى هذا البلد وجهًا لوجه، أن أعرف عن قرب وليس بالسمع أي أقراط تضعها بأذنيها، أي برفان تفضل، وما هو لون ملابسها في الصيف..

ضحكت مارجريت في رقة وهزت رأسها وهي تقول كمن يهمس لنفسه:

- يا للكُتاب! .