بانتظار جائزة نوبل

بانتظار جائزة نوبل

أتى صباحًا.. لم نسمع دقات الباب المتتالية. الوقت مبكرًا.. الساعة الرابعة صباحا ثم.. سمعنا دقات الباب.. استغربنا.. خفنا.. تقدمنا إلى الباب.. كنت  أكثر جرأة من بقية العائلة.. فتحت الباب.. رأيته مبتسما.. يا للغرابة.. المفاجأة كانت سعيدة حزينة مخيفة.. لا.. لا هذا ولا ذاك.. هو صديقي العزيز.. أقول العزيز وهو اسمه.. اسمه «عزيز» صديق الدراسة.

بقي صديقا حتى الآن.. الآن أنا في سن الخمسين أو أكثر.. أعمل في وزارة الثقافة المملة.. المعدومة الثقافة.. هو شاعر همه أن يغيّر.. أن يطوّر الشعر ويدخله في باب الحداثة.. الحداثة الكلمة التي لم أهضمها يومًا وأراها غير معقولة.. وثقيلة.. هذا هو.. طبعًا لم أكن أوافقه.

‭***‬

- ما بك.. تأتي الآن.. هذه الساعة؟ أنت مجنون؟ ادخل.

عندها دخلت العائلة.. ودخل أفرادها إلى فراشهم.

- قل لي ماذا أتى بك الآن؟

- أتيت لأقرأ عليك ما كتبته.. ثورة في عالم الأدب والشعر..

أعتقد أني سأنال هذه المرة جائزة «نوبل».

- مازلت تفكر بجائزة نوبل؟ قلت هذا وضحكت.. أما هو.. فأخذ ورقة من جيبه وراح يقرأ عليّ تحفته.

‭***‬

كلهم‭ ‬يشبهون‭ ‬بعضهم‭..‬

كلهن‭ ‬يشبهن‭ ‬بعضهن‭..‬

الجميع‭.. ‬هم‭ ‬وهنّ‭..‬

لا‭ ‬فرق‭.. ‬كلهم‭ ‬منافقون‭..‬

صادقون‭..‬

متفائلون‭..‬

يائسون‭..‬

شرابهم‭ ‬يانسون‭..‬

أكلهم‭ ‬كمّون‭..‬

كلهم‭.. ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬واحد‭ ‬منهم

تراهم‭ ‬كلهم‭..‬

لا‭ ‬معنى‭ ‬لهم‭.. ‬الكل‭ ‬واحد

الواحد‭ ‬هو‭ ‬واحد

لا‭ ‬ثاني‭ ‬له‭..‬

الثاني‭ ‬لم‭ ‬ينوجد

بعدٌ‭ ‬لم‭ ‬يولد‭..‬

إن‭ ‬أتى‭ ‬إن‭ ‬وجد‭ ‬يومًا‭..‬

لا‭.. ‬لن‭ ‬ينوجد‭..‬

هم‭ ‬واحد‭..‬

أنا،‭ ‬أنت‭. ‬هو‭ ‬هم‭..‬

هم‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لهم‭..‬

هم‭ ‬أنا‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬اثنين

لا‭ ‬ثلاثة‭.. ‬كلهم‭..‬

كلهم‭ ‬واحد

لا‭ ‬التباس‭ ‬فيه‭..‬

هو‭ ‬الوضوح‭..‬

هو‭ ‬العالم

هو‭ ‬الكل.

‭***‬

سألني ما قولك؟ ما رأيك؟

أ..أ.. أ.. أنا نعسان.

 

 

مولدي

 

ولدت في ليلة من ليالي الصيف، في ساعة متأخرة، لست أدري، أهي قبل انتصاف الليل أم بعده أم أول بزوغ الفجر؟ أذكر أنها كانت ساعة لا يولد فيها أولاد إلا نادرًا.. واعتبرت في الوقت نفسه أني لست كبقية الأولاد الذين يولدون عند الصباح أو عند المساء أو بينهما، لهذا فأنا أسجّل يوم مولدي، وليل مولدي هو وقت غير اعتيادي. من يومها أو من ليلها، أو منذ ذلك الوقت أتتني فكرة، وهــي أن أدوّن كل ما يحصل لي عند خروجي نهائيا من بطن أمي.

 

‭***‬

أذكر أن الوالدة والولادة والــــولد، هذا الثالوث له مصدر واحد، هو الخروج من الماء إلى صحراء الدنيا، ومن الداخل إلى الخارج. المهم أني خرجت نهائيًا من بطن أمي التي جعلت مني ولدا مولودا منها، متدحرجًا باكيًا مشتاقًا إلى الداخل الدافئ حيث كنت أسبح في مياهه الملونة وأسمع أصواتًا لم أكن أفقه معناها، لكني أذكرها، وما أذكره أكثر هو صوت أمي.

.. ومرّت الأيام، أكاد أختنق، تمنّيت العودة، والدتي غابت عني صورتها وصوتها.. اختفت.. أين راحت؟

لم يبق منها سوى ذكراها. بكيت، بكيت لأن لا مناص لي إلا بالبقاء حيث رميت إلى الخارج الذي أصبحت لا أطيقه.

فكّرت مرارًا وكثيرًا أن أصمت ويختفي صوتي وتختفي معه صورتي وأعود ولدا لا صوت ولا صورة له، يصير ذكرى معلقة بذكرى أمي, ونصير كما كنا شخصًا واحدًا، نسرح ونمرح في أجواء جديدة عليّ.. كيف السبيل إلى هذا وقد مرّت أيام وسنون؟

‭***‬

كانت أمنيتي عندما ولدت في تلك الليلة، في تلك الساعة المتأخرة من تلك الليلة، كانت أمنيتي أن أحقق ما كنت أرغب في تحقيقه قبل خروجي من بطن أمي. بقيت أمنياتي، أمنيات، علمت أن الأمنيات تبقى أمنيات ولا يتحقق سوى الفعل. 

احترت ماذا أفعل. ليس عندي ما أفعله سوى الانتظار والتمني الذي لا يتحقق، وأكاد أقول إن التمني يبقى كما هو. 

وأكرّر أن الأمنية تبقى أمنية فارغة تأتي وتروح ولا تترك أثرًا سوى أثرها الذي ليس له ظل ولا نور، ولا تدوم سوى للحظات كلمح البصر ورفّة عين.

‭***‬

قلت إني كنت أتمنى عندما ولدت أن أحقق ما أود تحقيقه، الحقيقة هي أني لم أكن أملك أي فكرة لأحققها، أو لأحاول تحقيقها، فكانت حيرتي عندما خرجت من بطن أمي هي الجواب الذي طرحته على نفسي.. لماذا أتيت؟ لماذا جئت؟ لماذا خرجت من السكون إلى الفوضى؟ لا أبالغ إذا قلت إني لا أبالغ، فتجربتي في الخارج لم تكن سهلة أو ناجحة، أنجح بماذا وأنا لم أختر الطريق الذي أنا فيه؟ الطريق الذي يبدأ من أول الطريق ولا ينتهي إلا عند انتهائه.. ونهايته ليست واضحة ولا معلومة.

 فكما أتيت من الداخل إلى الخارج، فكــــأن الطــــريــــق يؤدي إلى داخل آخر يختلف عن الداخل الذي خرجت منه ذات ليلة من ليالي الصيف في ساعة متأخرة لا هي قبل انتصاف الليل أو بعده أو عند بزوغ الفجر أو طلوع الشمس .