مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي: د. علي التركي

مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي: د. علي التركي
        

          استطاعت الدول المتقدمة أن توجد آليات وتعتمد على وسائل تمكّنها من توفير الميزانيات اللازمة للإنفاق على البحث العلمي وتنويع مصادره، إضافة إلى الإنفاق عليه بسخاء من ميزانياتها، بينما في البلدان العربية تواجه المؤسسات البحثية والجامعية الكثير والكثير من المعوقات والتحديات، ومن أهمها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهام القطاع الخاص في شئون التعليم العالي والبحث العلمي، إذ إن نسبة تمويل البحث العلمي لا تكاد تصل إلى 1% في الموازنات العامة.

          الناظر إلى واقع التمويل العربي للبحث العلمي، يجد أنه يختلف كثيرًا عن المعدل العالمي للإنفاق على البحث العلمي، ويتخلّف كثيرًا عامًا بعد عام، حتى لو تقدم معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي في الفترة من عام 1970م وحتى عام 2005م، إذ إن هذا التقدم حدث بشكل نسبي وضئيل جدًا مقارنة بالوضع العالمي المتسارع، فهذا الارتفاع الذي حدث خلال هذه الفترة الطويلة هو ببساطة شديدة عبارة عن ارتفاع نسبة الإنفاق على البحث العلمي قياسًا إلى الناتج المحلي من 0.31% عام 1970م إلى 0.67% عام 1990م. ومن ثم فلا تأثير لهذا الارتفاع الضئيل على الفجوة الكبيرة بين الأقطار العربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.

          وتختلف الأقطار العربية فيما بينها من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي، والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5% في الأقطار العربية كافة لعام 1992م، وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا، حيث بلغت 2.9%، و2.7% على التوالي.

          وفي عام 1999م كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مصر 0.4%، وفي الأردن 0.33%، وفي المغرب 0.2%، وفي كل من سورية ولبنان وتونس والسعودية 0.1% من إجمالي الناتج القومي، وتؤكد ذلك إحصائيات اليونسكو لعام 1999م. أما إحصائيات سنة 2004م لنفس المنظمة العالمية، فتقول إن الدول العربية مجتمعة خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3% من الناتج القومي الإجمالي.

مقارنة محرجة

          في حين نلاحظ أن الإنفاق على البحث العلمي في دولة الكيان الصهيوني (ما عدا العسكري) حوالي 9.8 مليارات شيكل، أي ما يوازي 2.6% من حجم إجمالي الناتج الوطني في عام 1999م، أما في عام 2004م، فقد وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي هناك إلى 4.7% من ناتجها القومي الإجمالي، علمًا بأن معدل ما تصرفه حكومة الكيان الصهيوني على البحث والتطوير المدني في مؤسسات التعليم العالي ما يوازي 30.6% من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله، ويصرف الباقي على التمويل الخاص بالرواتب، والمنشآت، والصيانة، والتجهيزات.. على العكس تمامًا ما يحدث في البلدان العربية، إذ إن أغلب الموازنة المخصصة للبحث العلمي تصرف على الرواتب والمكافآت والبدلات وغيرها. والجدير بالذكر أن المؤسسات التجارية والصناعية في دولة الكيان الصهيوني تنفق ضعفي ما تنفقه الحكومة الإسرائيلية على التعليم العالي.

          وإذا قورن وضع الكيان الصهيوني بالدول المتقدمة الأخرى، نجد أنه ينافس ويسبق كثيرًا من الدول الغنية والبلدان المتقدمة في هذا الميدان، فنجد أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الناتج الوطني في السويد وصلت إلى 3.3%، و2.7% في سويسرا واليابان، وهي تتراوح من 2 إلى 2.6% في كل من فرنسا والدنمارك والولايات المتحدة، وما يتراوح بين 0.5% إلى 1.9% في بقية الدول المتقدمة خلال العامين الأخيرين.

          هذا، ويتبين أن الكيان الصهيوني يعتمد بشكل كبير على المراكز البحثية القائمة داخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، وتبلغ معدلات الإنفاق الحكومي على البحوث داخل الجامعات أعلى نسبة في العالم أي حوالي 30.6%، بينما يصرف القطاع الخاص ما نسبته 52% من الإنفاق العام على الأبحاث والتطوير.

          ويحتل الكيان الصهيوني المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد «وادي السيليكون» في كاليفورنيا وبوسطن، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. أما بالنسبة إلى عدد سكان دولة الكيان الصهيوني قياسًا إلى مساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية. وفي تحقيق أجراه المحرر الاقتصادي لمجلة «ديرشبيغل» الألمانية «إيش فولات» حول أثر المهاجرين الروس في الاقتصاد الإسرائيلي والتقدم التكنولوجي الكبير الذي بلغته بفضلهم، يتبين أنه يتم تداول أسهم أكثر من 100 شركة إسرائيلية في البورصة التكنولوجية تجاريها كندا فقط في هذا المجال. وأن الكيان الصهيوني يصدر اليوم من بضائع التكنولوجيا العالية 40% من إجمالي صادراته.

          إن إلقاء نظرة متأنية إلى ما يجري في قطاع البحث العلمي لدى الكيان الصهيوني ومراقبة التطور المذهل لصناعة التكنولوجيا العالية هناك، واستغلاله، وعمله المتنامي على توسيع أسواق لمنتجاته وجذب رءوس أمول أجنبية، يجعلنا نعي أي تحد سوف نواجه في حال تحقق السلام مع الكيان الصهيوني، فالمواجهة العلمية - الاقتصادية لزمن السلم، ربما قد تكون أصعب بكثير من المواجهة في زمن الحرب!

          في الآونة الأخيرة ظهرت بعض الدراسات التي تصف واقع تمويل البحث العلمي الجامعي، موضحة أهم الأسباب المؤدية إلى ضآلة حجم الإنفاق المالي عليه، مقارنة بالواقع العالمي، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:

المخصصات المالية الضعيفة:

          يعود قصور الجامعات العربية في البحث العلمي إلى عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية، إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة مع قلة في الجهات المانحة، كما أن معظم الجامعات في الدول النامية تركز على عملية التدريس أكثر من تركيزها على البحوث العلمية لأسباب عدة. كما أن الدول المتقدمة ترصد الميزانيات الضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد الضخمة التي تغطي أضعاف ما أنفقته، في حين يتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذي تنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات.

          هذا، ولقد أنفق العالم في عام 1990م مبلغ 450 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، وكان إسهام الدول النامية أقل من 4%. ومن جانب آخر، فإن مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تزداد عامًا بعد آخر، إذ تتضاعف كل ثلاث سنوات تقريبًا، وتتجاوز نسبة مخصصات البحث العلمي في بعض الدول المتقدمة 4% من إجمالي الناتج القومي.

غياب القطاع الخاص عن المساهمة:

          يعد القطاع الحكومي الممول الرئيسي لنظم البحث العلمي في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80% من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة بـ3% للقطاع الخاص، و7% من مصادر مختلفة، وذلك على عكس الدول المتقدمة ودولة الكيان الصهيوني حيث تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي ما بين 70% في اليابان و52% في دولة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.

          وهذا الإسهام الضعيف من قبل القطاع الخاص للمؤسسات البحثية يرجع إلى عدم تقدير القطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه، إضافة إلى عدم كفاية الميزانيات التي ترصدها المراكز والجامعات ومؤسسات المجتمع للبحث العلمي، وإلى الفساد المالي والإداري الملحوظ في الجامعات ومراكز البحوث العربية.

          ومن النماذج العربية الجيدة في دعم البحث العلمي، نموذج دولة الكويت، التي فرضت نسبة معينة من أرباح الشركات لدعم «مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية» تقدم كمعونة من القطاع الخاص، كمورد إضافي لحركة البحث العلمي في جامعاتها ومراكزها البحثية. وينبغي هنا أن نؤكد أن القطاع الخاص عند دعمه للبحث العلمي سيكون هو أول المستفيدين من نتائجه على المدى الطويل، وأمثلة ذلك كثيرة في العالم، فكم من الشركات الكبرى التي تبنّت ودعمت بحثًا ما في إحدى الجامعات وعند الوصول إلى النتائج كانت هي أول المستفيدين من هذا البحث. ومن ثم يعود عليها عائد مادي كبير لامتلاكها حق الاكتشاف والتبنّي. ونجد في أغلب جامعات العالم أن هنالك مراكز بحثية يقوم على تمويلها ودعمها الشركات الكبرى أو القطاع الخاص عامة، وقد توصلت هذه المراكز (نتيجة لهذا الدعم) إلى حلول لمشكلات أو طوّرت اختراعًا عاد بالمردود الجيد على الشركات الداعمة، كما أن هذه الشركات قد تبيع نتائج البحوث التي دعمتها لقطاعات أخرى. بل (وليس بالضرورة) امتلاك هذه الشركات لنتائج البحث، ففي كثير من الحالات يشارك عدد من الشركات لدعم بحث ما، ولا تستفيد من ذلك سوى أن يذكر اسمها من ضمن الداعمين، وهذا له مردود دعائي كبير على مستهلكي منتج الشركة، وذلك على المدى الطويل، فهو يدلل على مركز الشركة الرفيع وتقديرها للبحث العلمي ويعطيها السمعة الحسنة والمتميزة أمام عملائها.

عدم وجود إستراتيجية للتسويق:

          من أسباب ضآلة حجم الإنفاق على البحث العلمي افتقار أغلب المؤسسات العلمية والجامعات العربية إلى أجهزة متخصصة بتسويق الأبحاث ونتائجها وفق خطة اقتصادية إلى الجهات المستفيدة مما يدل على ضعف التنسيق بين مراكز البحوث والقطاع الخاص، كذلك غياب المؤسسات الاستشارية المختصة بتوظيف نتائج البحث العلمي وتمويله من أجل تحويل تلك النتائج إلى مشروعات اقتصادية مربحة، إضافة إلى ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة واعتمادها على شراء المعرفة.

غياب التعاون والتنسيق:

          أشارت بعض الدراسات إلى أن المؤسسات البحثية العربية تعاني مشكلات عدة، من بينها انفصام الصلة بين الجامعات وحقل الإنتاج، وابتعاد الجامعات عن إجراء البحوث المساهمة في حل المشكلات الوطنية، إضافة إلى عدم مشاركة المؤسسات الكبرى والشركات والأثرياء من الأفراد في نفقات البحث العلمي، فمراكز البحوث والجامعات العربية تعاني انفصالاً شبه كامل بينها وبين المجالات التطبيقية خارج أسوارها أو معاملها، فالبحوث التي تجرى بين جدرانها من جانب أساتذتها إنما هي بحوث فردية لأساتذة يحاولون الإنتاج العلمي بغية الترقّي، أو النشر، أو السمعة! وهي بحوث أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع أو تعمل على تقدمه.

ندرة الباحثين:

          إن أنشطة البحث العلمي التي تجرى في إطار المراكز والجامعات العربية من أضعف الأنشطة البحثية في العالم، بسبب قلة عدد الباحثين والمختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، وانشغال عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في العمل الإضافي، وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيب الأوفر من المخصصات الجامعية.

انخفاض معدل الإنتاجية العلمية:

          أظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنويًا من البحوث في الوطن العربي لا يتعدى 15 ألف بحث. ولما كان عدد أعضاء هيئة التدريس نحو 55 ألفًا، فإن معدل الإنتاجية هو في حدود 0.3% وهو وضع يرثى له من حيث الإمكانات العلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ 10% من معدلات الإنتاجية في الدول المتقدمة.

          وهذا من الأمور التي تجعل من الحكومات العربية غير مهتمة بدعم البحث العلمي بالشكل اللائق، ولعلك تسمع بعض المسئولين يبررون إخفاقهم في دعم البحث العلمي بقلة إنتاج الباحثين، وضعف همّتهم العلمية.

نظرة المجتمع:

          ينظر المجتمع العربي الحالي نظرة لا تليق بالبحث العلمي من حيث أولوياته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلك بالتنشئة الاجتماعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السالبة نحو البحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتأخّره عن ركب الحضارة. إن المجتمعات في الدول المتقدمة تدعم الموسسات البحثية ماديًا ومعنويًا، ولا يمكن أن تبخل عليها بالمال أو الإمكانات، أو حتى الدعم اللفظي، حتى إنه في كثير من الأحيان تنظم المسيرات والتجمعات مطالبة الحكومة بالإنفاق بسخاء لإجراء المزيد من البحوث العلمية في مجالات التنمية التي ينشدها الوطن.
-----------------------------
* أكاديمي من الكويت.

 

 

علي التركي*