«اقتلوهم جميعاً»

«اقتلوهم جميعاً»

عرفت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التجاذبات‭ ‬والصراعات‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تكاد‭ ‬تهدأ‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬حتى‭ ‬تشتعل‭ ‬نيرانها‭ ‬وتستعر‭ ‬لفترات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التنويه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مناخ‭ ‬التوجس‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬لأطوار‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬بالاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬استعمال‭ ‬أدوات‭ ‬العنف‭ ‬ووسائل‭ ‬الدمار‭ ‬المتنوعة‭ ‬لغرض‭ ‬تحقيق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الرعب‭ ‬الموجه‭ ‬للطرف‭ ‬الآخر‭ ‬أحد‭ ‬مداخله‭ ‬الجوهرية‭.‬

لسنا هنا بصدد الرجوع إلى مسارب التاريخ والوقوف على كل التفاصيل والجزئيات التي ميزت نظرة كل طرف إلى الآخر في ظل علاقة مأزومة تميزت بمواقف الرفض والصدام في أغلب الأحيان، بقدر ما نهدف من وراء هذا المدخل إلى تحليل ونقد واقع هذه العلاقة في عصرنا الحالي.  

لقد دفع مناخ الشك والريبة السائد بين الشرق والغرب، الذي يتغذى على تاريخ مليء بالأحقاد والعقد المتعددة، في اتجاه زيادة تأزم الوضع أكثر، كما ساهم ببروز الكثير من صور تشويه كل طرف للآخر، خصوصا الغرب الذي لم يدخر أي جهد ممكن أو فرصة متاحة أمامه في تشويه صورة الفرد العربي المسلم؛ فوضع كل إمكاناته رهنا في خدمة حملة التزييف والإدانه للإنسان العربي المسلم بتهم العنف والإرهاب والتخلف والجهل، وأنه إنسان غارق في غرائزه وشهواته، خصوصا بعد تحطيم جدار برلين وانتهاء الخطر الشيوعي الأحمر، فالغرب لا يستطيع أن يبقى ويستمر من دون عدو محتمل، وبذلك قام بعملية إحلال العدو الأخضر مكان العدو الأحمر. ويمكن اعتبار اتساع فلسفة الكراهية في علاقة الشرق بالغرب أحد الأسباب الرئيسة في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، حيث إنه بعد تلك الأحداث تزايدت بصفة كبيرة جدا حملات التشويه وإلصاق تهم التعصب والتطرف والإرهاب بالمسلمين دون غيرهم. ويمكننا تصنيف رواية سليم باشي، التي حملت عنوان «اقتلوهم جميعا»
(Tuez-les tous)، والتي صدرت عن دار النشر الفرنسية المعروفة غاليمار (Gallimard)، في سياق أهم الأعمال الإبداعية التي تعرضت إلى تحليل العديد من متغيرات بيئة التجاذب والصدام بين الشرق والغرب في ما يعرف بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر.

يضعنا سليم باشي في عوالم الحقد والانتقام وأقاليم الإرهاب والخوف، وهذا المناخ يفرض علينا طرح أسئلة مختلفة نوعيا عن تلك الأسئلة غير الموضوعية (وغير البريئة) التي يطرحها الغرب باستمرار وبتكرار فج وممل، وبالطبع لا يعني تحليلنا تنزيه الإنسان العربي المسلم من كل الأخطاء ووضعه في مكانة القديسين، كما لا يعني كذلك الرضوخ لكل التصنيفات المسبقة والتسليم بكل التوصيفات الجاهزة التي تضعها الدوائر الغربية. لا يمكننا أن نتجاهل الكلمات المفتاحية والعبارات الدالة على مناخ الاضطراب والخوف التي تختفي خلف الأحداث والصور في هذا العمل الأدبي، على اعتبار أن الرواية غنية بالكثير من الرموز والدلالات التي تعتبر بمنزلة عناصر تأسيسية يتوقف عليها تحليل وتفسير تلك العلاقة المأزومة.

تظهر الكثير من الدلالات والرموز التي تعكس واقع العلاقة المأزومة بين الشرق والغرب، والتي كانت دافعا قويا خلف أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ هل كل أمريكي على علم بكل المآسي التي ارتكبها ذووه عبر العالم؟ هذا تساؤل من بين العديد من التساؤلات التي طرحها أحد منفذي تفجيرات البرجين التوأمين في نيويورك كلما شاهد مواطنا من أمريكا. إن السياسة الأمريكية المتحيزة في التعامل مع اليهود، وتغاضيها عن جرائمهم في فلسطين، وعدم الإحساس والاهتمام بمآسي المسلمين ضاعفت من مشاعر الحقد والكراهية ضد الغرب الظالم وفق منظور الطيار (بطل الرواية)، الذي نفذ إحدى هجمات الحادي عشر من سبتمبر، هذا المناخ الموبوء تستغله الجماعات المتطرفة في استقطاب وتجنيد الشباب وصغار السن. الجرائم التي تسبب فيها الغرب في أقاليم كثيرة من العالم؛ في إفريقيا، رواندا، فيتنام، الهند الصينية، لبنان، الجزائر، شيلي، الأرجنتين، الشيشان، إبادة الهنود الحمر والزنوج، هيروشيما، كل ضحاياها يتحمل مسئوليتهم الغرب، وهو ما توظفه تلك الجماعات المتطرفة في حربها المقدسة على الغرب، والتي لا تستثني فيها قتل الأطفال والنساء، فكل شيء مباح أمام عظمة الغاية الربانية والرسالة المقدسة التي تقودهم إلى الخلود (وفق رؤية وفلسفة هذه الجماعات الميكافيلية)، كما أنه يحمل في جيبه الكثير من أنواع الحبوب والأقراص كي يضفي نوعا من المرح والبهجة، ويبعد عنه شبح الخوف الذي قد يحول دون تحقيق هدفه المقدس على أتم وجه.  

بالإضافة إلى المبررات السابقة، يمكن أيضا إرجاع تراكم الحقد في نفسية البطل - الذي يعتبر محور العمل الروائي لسليم باشي - إلى حالة الضياع التي عاشها في المهجر، وإلى الظروف الاجتماعية الصعبة التي مر بها، فبعد رحلة التيه والضياع في شوارع باريس، التي لم يكن البطل يملك فيها مسكنا يأويه ولا موقدا يقيه من قسوة البرد، فقد مات والده وفقد عمله، لذلك كان مهددا بالطرد من قبل السلطات وإرجاعه إلى بلده بعد إنهاء دراساته الجامعية، كما تزامن هذا الوضع البائس مع صدمة «أوفيليا» التي التقى بها على طريق الصدفة في مدرجات الجامعة، تلك المرأة الفرنسية التي عاش معها في شقة ضيقة واعتبرها بمنزلة وطن، فأحبها كزوجة لكنها لم ترض بالإنجاب منه (قامت بعملية إجهاض) ولا الزواج منه، لأنها لم تكن تبادله الشعور نفسه، فأطفأت كل أحلامه المتأججة وقتلت فيه كل شعور جميل يساهم في استمراره في الحياة. هذا الفشل ساهم في هروب البطل من عالم كئيب وبائس إلى عالم اليأس والعدم، فهذا الضياع والتيه عجل بصورة مهمة
في استدراجه للولوج إلى عوالم الانتقام والعنف.

لم يضيّع الكاتب وقته في البحث عن المبررات، بقدر ما حاول الولوج إلى نفسيات وعوالم مرتكبي العنف، لكشف أهم الدوافع التي تقف خلف سلوكياتهم الشاذة، والتي لا يمكن تعميمها بالطبع على جميع العرب والمسلمين، من خلال محاولة الغرب ترسيخ الاعتقاد الخاطئ بخطورة الإسلام على كل العالم، وأن جميع المسلمين لديهم ميول نحو العنف والإرهاب. 

 هناك العديد من العناصر الدالة التي يؤسس من خلالها سليم باشي عمله الإبداعي؛ كره البطل لليهود نتيجة نكرانهم للمعروف، فبعد أن استقبلهم العرب طوال قرون متضامنين معهم في وقت كان المسيحيون يطردونهم من إسبانيا، ها هم اليهود يتحولون إلى جلادين لضحاياهم العرب في فلسطين، بالإضافة إلى اعتباره أن نيويورك مدينة المظالم، المدينة الأكثر غطرسة على وجه الأرض، التي تحتوي على رمز غرور أمريكا المفرط (مركز التجارة العالمي...)، وهو أداتها في نهب ثروات العالم، لذلك ينبغي تدمير هذه الرموز وتحويلها إلى ركام، ولكي تستوعب أمريكا الدرس، عليها أن تذوق لباس الجوع والخوف. في حين كان يعيش في مرحلة ما قبل التفجيرات في غيبوبة أشبه بالحلم، وخصوصا بفعل الحبوب والأقراص التي أصبح مدمنا على تعاطيها، لأن حياته لم يصبح لها معنى، الحياة تسرطنت ومآلها العدم، كل شيء بالنسبة له عبث في عبث، فقد كان في هذه الفترة لا يشعر بشيء، لكنه دائم التفكير في الموت مجسدا بالكفن الأبيض، مستعدا لحرق كل البشر وتدمير كل شيء، يريد الهرب من حياته القصيرة والخالية من أي معنى ومن عذاب القبر بتفجير جسمه مع تفجير البرج والطائرة معا. وبكل هذا اليأس والحقد، انقضّ بالطائرة على مرايا البرج ودخل العالم منذ تلك اللحظة في ليل أعمى حالك الظلام .