العولمة.. اسم جديد لظاهرة قديمة

العولمة.. اسم جديد لظاهرة قديمة

في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والسنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬ذاع‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬العولمة‮»‬‭ ‬وانتشر‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬الدنيا‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوڤييتي،‭ ‬وظهور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬باعتبارها‭ ‬القطب‭ ‬الواحد‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬العالم‭. ‬وقد‭ ‬صك‭ ‬فلاسفة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬العالمية‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬ترويجا‭ ‬لفكرة‭ ‬عالم‭ ‬واحد‭ ‬تقوده‭ ‬الرأسمالية‭ ‬العالمية‭ ‬والشركات‭ ‬متخطية‭ ‬الجنسيات،‭ ‬وأخذت‭ ‬أجهزة‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬الجبارة،‭ ‬وتوابعها‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬التابعة‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬بلاد‭ ‬الدنيا،‭ ‬تروج‭ ‬لمصطلح‭ ‬العولمة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬بشير‭ ‬بحرية‭ ‬التجارة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬واحد‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬أو‭ ‬قيود،‭ ‬وما‭ ‬تستلزمه‭ ‬بالضرورة‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬السفر‭ ‬والانتقال‭ ‬والإقامة‭. ‬كما‭ ‬ركزت‭ ‬الدعاية‭ ‬التي‭ ‬بثتها‭ ‬هذه‭ ‬الأجهزة‭ ‬على‭ ‬الترويج‭ ‬لمفاهيم‭ ‬جديدة‭ ‬للهجرة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬واحد‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭ ‬والبضائع‭ ‬والأفكار‭ ‬حركة‭ ‬حرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بالعالم‭.‬

 

بيد أن المصطلح الذي جرى الترويج له على نطاق واسع طوال هذه السنوات كان شيئًا، على حين كان الواقع الذي شهده العالم في هذه الفترة شيئًا آخر مختلفا تمام الاختلاف. فبينما كان فلاسفة الرأسمالية العالمية يتحدثون عن «العولمة»، كانت حكومات الدول الغنية تزيد من تشديد القيود على حركة الناس القادمين من الدول الفقيرة للدرجة التي جعلت من محاولات الهجرة، مغامرات انتحارية تشهد عليها حوادث غرق سفن المهاجرين عن طريق البحر هنا وهناك، وبحيث ازدهرت تجارة الهجرة غير المشروعة. فقد اتضح أن ما تقصده الرأسمالية العالمية بالعولمة هيمنة القطب الواحد، والسيطرة على المواد الخام، والأسواق، والعمالة الرخيصة، والمقدرات الاقتصادية والتوجهات السياسية في بلاد العالم الفقير من خلال حرية حركة رأس المال الذي تملكه الشركات عابرة القارات والدول الكبرى على حساب الجزء الفقير من العالم.

وفي الوقت نفسه، لم تبد الدول الغنية ومؤسساتها أي مؤشرات أو بوادر على التساهل والتيسير في مسألة حرية التنقل والإقامة لمصلحة مواطني العالم الثالث والفقير؛ بل إن ما حدث كان في الاتجاه المضاد تماما. إذ إن الدول الرأسمالية الغنية، التي استأثرت منذ عقود من الزمان بالموارد الطبيعية والمواد الخام وأسواق العالم، فرضت مزيدًا من القيود الصارمة على السفر والإقامة والهجرة، على حين تزايدت الضغوط التي يتعرض لها الفقراء في بلاد تحكمها نظم دكتاتورية فاسدة يساندها الغرب خفية أو علانية. وكانت النتيجة تلك المحاولات شبه الانتحارية للهجرة غير المشروعة إلى البلدان الغنية.

هنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل ما يقال عن «العولمة» حديث صدق؟ وهل «العولمة» مفهوم حديث توصل إليه العالم في السنوات الأخيرة؟ وهل عرف العالم في العصور السابقة «العولمة»؟ وبأي صورة كانت؟

في السطور السابقة عرضنا بإيجاز شديد لرأينا في عدم صدق حديث «العولمة» في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الرأسمالية العالمية، ومدى التناقض بين «المفهوم» و«الفعل» على أرض الواقع الذي قسَّم الدنيا إلى المستغل (بكسر الغين) والمستغَل (بفتح الغين). وعلى أي حال، فإن هذا التقسيم حدث على المستويين الداخلي والخارجي في العالم كله.

ومن ناحية أخرى، لم تكن «العولمة» مفهومًا من ابتكار الفترة الحديثة أو المعاصرة في تاريخ الإنسانية. ذلك أنه منذ ظهور الإمبراطوريات التي ضمت شعوبًا ودولاً مختلفة، كان هناك نوع ما من العولمة. فقد عرف العالم القديم الإمبراطورية الرومانية التي وفرت للشعوب التي حكمتها في عالم البحر المتوسط نوعًا من الوحدة السياسية والاقتصادية على مدى قرون عدة، بحيث خلقت ما عرف في تاريخ هذه الإمبراطورية باسم «السلام الروماني» الذي كفل حرية انتقال التجارة والناس داخل حدود الإمبراطورية. واكتسبت البضائع والناس، في حركتهم داخل نطاق الإمبراطورية الرومانية صفة «عالمية» تحمل شبهًا غير مذكور لمفهوم العولمة الحديث، وإن لم تكن متشابهة في تطبيقها مع ما يجرى اليوم. فقد كانت «العولمة الرومانية» أكثر صدقًا في مفاهيمها
 وتطبيقاتها.

وفي القرنين السابع والثامن الميلاديين، ظهرت الحضارة العربية الإسلامية التي قسمت عالم البحر المتوسط إلى ثلاث حضارات متمايزة: الحضارة، الرومانية المتدهورة، والحضارة البيزنطية التي تمثل القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية التي ورثت الكثير من أراضي الإمبراطوريتين ونظمهما. وفي رحاب «دار الإسلام» ساد مفهوم الوحدة السياسية والاقتصادية الذي تعززه الوحدة الدينية ليخلق نوعًا من العولمة الإسلامية (السلام الإسلامي) ومنذ ظهرت الحضارة العربية الإسلامية، تجلَّت ملامح العلاقات الاقتصادية المركبة المعقدة بين أوربا الغربية الكاثوليكية والعالم الإسلامي. ولم تكن الديانة لتقف حجر عثرة في سبيل التبادل التجاري وحرية تنقل الناس من المسلمين والمسيحيين واليهود آنذاك بأي حال من الأحوال. فقد عرفت دار الإسلام نوعًا من العولمة الذي يعني حركة حرة للناس والبضائع والأفكار على نحو أصدق من «عولمة» الرأسمالية العالمية التي نشهدها اليوم، وأكثر فعالية.

لقد كان العالم الإسلامي في ذلك الزمان يأخذ مأخذ الجد، المبدأ القائل «إن التجارة الحرة يجب أن تكون مصحوبة بحرية التنقل والحركة للناس، مهما كانت أعراقهم أو ألوانهم، أو حتى دياناتهم». وعلى الرغم من المزاعم الغربية اليوم بأن هذا مبدأ ليبرالي حديث؛ فإنه لم يوضع موضع الممارسة الفعلية في العصر الحديث على الإطلاق. وتشهد المصادر التاريخية المختلفة أن موقف الحضارة العربية الإسلامية من حرية التجارة والسفر وانتقال الأفراد والبضائع كان متقدمًا عن مواقف الغرب الأوربي والأمريكي من ناحية، وكان أقرب إلى مفهوم «العولمة» الصحيح من ناحية أخرى.

ففي عصور ازدهار هذه الحضارة كانت السفن فوق مياه البحار، والقوافل على الطرق التجارية، تنقل البضائع والناس إلى كل أنحاء الدنيا. كما أن المسافرين كانوا من المسلمين والمسيحيين واليهود وغيرهم، وكانت شركات التجارة تضم الجميع حسبما تشهد المصادر التاريخية، بل إن التجار الأوربيين كانت لهم أماكن إقامة خاصة بهم وشبه دائمة في البلاد الإسلامية - خاصة في عالم البحر المتوسط - عرفت باسم الفنادق (وهي غير الفنادق التي نعرفها اليوم) يخصص كل منها لإقامة تجار بلد بعينه. ومن المثير أن بعض المقيمين في هذه الفنادق كانوا من أبناء البلاد الأوربية التي شاركت في الحروب الصليبية التي دهمت المنطقة العربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

ولم يكن القادمون من هذه البلاد الصليبية، من المسيحيين واليهود، يجدون عائقًا يحول بينهم وبين الزيارة والإقامة المؤقتة أو الدائمة في بلاد العالم الإسلامي، على نحو ما تشهد كتب الرحالة الأوربيين الذين زاروا المنطقة في هذه الفترة. وإذا ما قرأ المرء المصادر التاريخية المعاصرة، فربما يظن أنه لم تكن هناك حدود سياسية قائمة في عالم ذلك الزمان؛ فقد كانت حرية السفر تتجاوز الديانة والوطن الأصلي للمسافر أو التاجر على متن سفينة في البحر، أو صحبة قافلة في الصحراء.

بيد أنه من المهم أن نلاحظ أن المسافرين في تلك الأيام لم يكونوا يسافرون بقصد التجارة واستجابة للدوافع الاقتصادية وحدها، بل منهم من كان يسافر سعيًا وراء العلم، أو هربًا من الظروف السياسية المعاكسة في بلاده الأصلية، أو رغبة في سماع أستاذ شهير. ويصدق هذا القول على الناس من كل جنس ودين. فقد عرف العالم الإسلامي في تلك العصور ما يمكن أن نسميه «ظاهرة العالم المتجول» من ناحية، أو «ظاهرة طالب العلم المتجول» من ناحية أخرى. فقد كان السفر في طلب العلم، أو التدريس، أو شغل منصب القضاء في بلد من بلاد المسلمين من الممارسات المألوفة في رحاب الحضارة العربية الإسلامية.

وهناك كثير من الأمثلة الواضحة تحفل بها المصادر التاريخية ويجسدها رجال مثل ابن بطوطة، وابن خلدون، والعبدري، وابن جبير ... وغيرهم ؛ ولكن هذه الحقيقة لا تحجب حقيقة أن عشرات من أبناء الغرب الكاثوليكي، من المسيحيين واليهود، كانوا يجوبون أنحاء العالم الإسلامي ويقيمون فيه لأسباب غير اقتصادية، مثل زيارة أماكنهم المقدسة، أو الاتصال بعلمائهم المشهورين ... وما إلى ذلك. إذا تحدثنا أوراق الجنيزا عن قاض يهودي من جزيرة صقلية ارتحل إلى مصر وفلسطين والعراق لدراسة المزامير مع علماء من دينه اشتهروا وذاع صيتهم في هذا المجال. ومن اليهود تتجلى أمثلة موسى بن ميمون الذي عمل مع صلاح الدين الأيوبي في مصر فترة، ثم تنقل إلى بلاد إسلامية أخرى؛ وسعديا الفيومي، والرحالة اليهود الذين كتبوا عن المنطقة مثل بنيامين التطيلي وعوبديا وغيرهم.

ومن الواضح أن الكتب، والأفكار، والمعارف؛ بل والأذواق كانت تنتقل على نطاق واسع في عالم ذلك الزمان. وبطبيعة الحال، كانت هذه الأشياء كلها تنتقل بصحبة الناس من العلماء والتجار والحجاج... وغيرهم من المسافرين. ومن ناحية أخرى، كانت الوظائف متاحة في مراكز التعليم الشهيرة في عواصم العالم الإسلامي المختلفة مثل القاهرة، أو دمشق، أو بغداد، أو القدس أو المدينة المنورة. وكان العلماء المسلمون يعملون بالتدريس أو القضاء ما داموا مؤهلين لهذا العمل أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، كان الزعماء الدينيون للطوائف غير المسلمة يتولون وظائف التدريس، أو القضاء، أو غيرها من الوظائف في خدمة أبناء طوائفهم في شتى أنحاء العالم الإسلامي. ولم نجد مثالاً واحدًا على تدخل الحكومة لمنعهم من تولي هذه الوظائف في المدن والقرى التي يقيم بها هؤلاء.

لقد كانت «العولمة» التي عرفها ذلك الزمان تؤمن بمبدأ الحرية والمساواة في فرص العمل لجميع الناس بغضّ النظر عن العرق، أو اللون، أو الدين، أو الموطن الأصلي؛ وكان الشرط الوحيد الكفاءة والتميز. ولم تكن هناك «وظائف ممتازة» خاصة بالمواطنين، «ووظائف حقيرة» خاصة بالأجانب والمهاجرين، كما يحدث عامة في الغرب الذي لا يفسح مجالاً سوى لأصحاب المؤهلات والخبرات الاستثنائية من المهاجرين. ومن الأمور المتواترة في المصادر التاريخية لتلك الفترة، أن تجد الطبيب اليهودي، أو المسيحي، يعمل في أحد المستشفيات بالقاهرة، أو بغداد أو ضمن حاشية الخليفة أو السلطان المسلم (مثل اليهودي موسى بن ميمون الذي كان طبيبًا في خدمة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي). ومن المهم أن نلاحظ أن الطبيب المسلم، أو المسيحي، أو اليهودي لم يكن في ذلك الزمان يمثل دينه بقدر ما كان يمثل مهنة الطب، ويصدق هذا على مهن أخرى مثل الفلك، والبيطرة، والعطارة ... وغيرها.

وقياسًا على هذا، كان الصانع أو الحرفي اليهودي أو المسيحي، يعيش الظروف نفسها التي يعيشها أبناء حرفته، ويشغل المكانة الاجتماعية نفسها التي يشغلها رفاقه من الحرفيين؛ بغض النظر عن ديانته وبلده الأصلي. كما كانت المساعدات المتبادلة بين أبناء الحرفة الواحدة من أتباع الديانات الثلاث من الأمور التي تشهد عليها المصادر التاريخية في تلك العصور.

وفي مجال التجارة قامت شركات عالمية كان بعضها يضم تجارًا مسلمين ويهودًا أو مسيحيين، عملوا في مجال التجارة العالمية وفق شروطها الاقتصادية؛ ولم يكن للدين أو العرق، أو اللون، أو الوطن دخل في نشاطها. وفي كثير من الموانئ والمراكز التجارية، كانت هناك بعثات تجارية دائمة لمتابعة النشاط التجاري الخاص بهم، كما كان يوجد الوكلاء التجاريون يمارسون نشاطهم بشكل مستمر. حقيقة أنه كان يحدث في بعض الأحيان، وبسبب الحروب، مضايقات من السلطات المحلية ضد التجار الأجانب المقيمين، ولكن السياسة العامة كانت تسير وفق مبدأ حرية التجارة وحرية السفر والإقامة للناس.

هل كانت تلك «عولمة» حقيقية على الرغم من عدم وجود شعارات أو دعاية صاخبة تهلل لها؟ أم أن «عولمة» اليوم دعاية بلا مضمون، وشعارات فارغة وتبرير رأسمالي للسيطرة على العالم؟ .