آفاق العولمة وخطر «الفوضى العالمية»

آفاق العولمة وخطر «الفوضى العالمية»

السمة‭ ‬المميزة‭ ‬للحقبة‭ ‬الراهنة‭ ‬التي‭ ‬نعيش،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬الشامل،‭ ‬في‭ ‬اهتزاز‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬المسلَّمات‭ ‬والأعراف‭ ‬والقوانين،‭ ‬التي‭ ‬نظمت‭ ‬حياة‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬مكوناته‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬القسم‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬المنصرم،‭ ‬والتي‭ ‬ترى‭ ‬وكأنها‭ ‬راسخة‭ ‬رسوخ‭ ‬قوانين‭ ‬الطبيعة‭.‬

نعيش اليوم مرحلة تجرى فيها محاولات قسرية لإلغاء كل ذلك، ولإبقاء العالم في عصر أحادية قطبية وهيمنة قوة عظمى واحدة، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي والسياسي والعسكري فحسب، بل وتسعى بقوة جارفة لفرض نمط حياة وتفكير واحد وثقافة كوسموبوليتية منمطة، وإلغاء التعددية الثقافية والحضارية والهوية الوطنية للشعوب، وطمس الفوارق في ما بينها، والسعي لإفقار الثقافات والحضارات بدلاً من تلاقحها وتكاملها في إطار التنوع والتعدد.

 لقد دخل العالم عصراً غير مسبوق، عصر المعلوماتية العظيم، مجتمع الإنترنت المعولم، حيث يجري تبادل متعاظم للأفكار والنظريات والابتكارات والمعلومات. وكل ذلك في خضم تطور متسارع للعلوم والتكنولوجيا في شتى الميادين، حيث يقترن هذا التطور المتسارع بتقادم كل إنجاز وابتكار أو جديد بوتائر متعاظمة. ولم يعد بوسع أحد، سواء أكان فرداً أم شركة أم تنظيما أم دولة، الركون ولو للحظة واحدة، لموقع حققه أو مستوى ارتقى إليه. بل يتعين عليه البقاء في سباق دائم مع التطور، وسعي دءوب لمواكبة التقدم المتواصل في مجال اختصاصه وميدان عمله. إن محاولة التقوقع والرضا بما تحقق، والانعزال عن التحولات الجارية هي بمنزلة الانتحار. والعزلة التامة تعني الهزيمة الشاملة. إن التعلم المستمر والبحث الدائم عن الجديد، وعن السبل الأكثر فاعلية للارتقاء والتقدم، إنما هو ببساطة المقدمة البديهية للصمود، للفوز في خضم المنافسة المحتدمة، لاجتياز العقبات والموانع، لتحقيق التقدم والازدهار.. وهذا ينطبق على الفرد والجماعات والشركات والشعوب والأوطان، على حد سواء.

ثمة متفائلون يؤمنون بقدرة البشرية على التغلب على المصاعب الهائلة التي تواجهها، معولين على عقلانية الجنس البشري ووعيه وتجربته، وعلى تطور العلوم والإنجازات المعرفية المحققة في شتى المجالات، وخصوصاً في العقود الأخيرة، ويتطلعون إلى تقارب الشعوب والأمم بفضل الثورة المعرفية وثورة المعلوماتية وشبكة الإنترنت، والتطور الهائل لوسائل المواصلات والاتصالات. ويؤمن هؤلاء بزوال الفوارق مستقبلاً بين الإثنيات والأمم والشعوب، حيث ستسود اللغة المشتركة والثقافة الكوسموبوليتية، وستتشابه أنماط الحياة اليومية، من حيث الزي والطعام وظروف المعيشة وأساليب اللهو والسلوك.. إلخ. ويعتبرون أن ذلك كله سوف يغير العالم نحو الأفضل، ويضمن استمراره وتقدمه.  

في سياق هذه النظرة التفاؤلية لمستقبل العالم في عصر العولمة المتزايدة، ثمة من يرى أن إمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات من دون عقبات، من شأنها أن تضعف دور الدولة وإمكاناتها الرقابية وأدواتها الفعالة، كالبنك المركزي والأجهزة الأمنية وغيرها، بل وقد تضعف دورها كوسيط بين الفرد والعالم الخارجي. فتتخلى الأمم طوعاً عن جزء من سيادتها لمصلحة المنظمات والهيئات فوق القومية، كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. فينشأ تدريجياً مجتمع مدني فوق قومي. ويأخذ عالم رأس المال المعولم على عاتقه عدداً من وظائف الحكومات. وعلى الساحة السياسية الداخلية، تختفي الفوارق بين يمين ويسار، نظراً لزوال الانقسامات الطبقية، وتلاشي الوعي الطبقي. فيغدو الانقسام الرئيس في المجتمع المعولم هو ذاك الانقسام العمودي بين أولئك السائرين في ركب التحولات، العاملين والمساهمين فيها والمستعدين لخوض غمارها، أي أصحاب النظرة المعولمة والشمولية من جهة، وأولئك الذين يبقون في أسر التقاليد، المتمسكين بالماضي والسلف الصالح، الرافضين للتحولات، من جهة أخرى. 

أصحاب هذه المقاربة يؤمنون إيماناً مطلقاً بالعولمة، بنجاحاتها وثمارها «الخيِّرة» بالنسبة للبشرية. إنهم مأخوذون بنجاحات تقنية الاتصالات التي تجعل الحدود الوطنية شفافة، مشرعة أمام تدفقات السلع ورءوس الأموال والابتكارات والخبرات، وأمام تبادل الأفكار وتلاقح الثقافات.. على هذا النحو يتم - وفق هذه المقاربة - حل مسألة الحداثة ومعضلاتها والتناقضات التي تقترن بها. فعلى حد قول فوكوياما: «سوف تدور السياسة العالمية حول الاقتصاد المعولم».

بعيداً عن هذه النظرة التفاؤلية، نستطيع القول إن ثمة أسساً ومسوغات أكثر للتشاؤم، فالعقل البشري قادر على التدمير بقوة لا تقل عن قدرته على الخلق والإبداع. ومسيرة المجتمع البشري خلال قرون طويلة (وخصوصاً في القرن العشرين المنصرم) تؤكد ذلك. ومن جهة أخرى، فإن تمسُّك الشعوب بتراثها وتقاليدها وثقافاتها وقيمها يجعلها أقل تقبلاً، لا بل في حالات كثيرة أشد رفضاً ومقاومة لأفكار ووصفات الكوسموبوليتيين وتطلعاتهم لمحو الفوارق وإقامة المجتمع الكوسموبوليتي المعولم. بل نجد حتى شخصيات بارزة هي في الأساس من نتاج «الاقتصاد المعولم» ومن أكثر المستفيدين منه، من أمثال رجل الأعمال الأمريكي جورج سوروس، الذي يرى أن أزمة آليات السوق واقعة حتماً، لكون هذه الآلية لا تلبي حاجات المجتمع، وينتقد من يؤمن إيماناً أعمى بـ «اليد السحرية للسوق».

إن السوق العالمية تستبعد من دائرة التعاون الاقتصادي الدولي الفعال نصف سكان الأرض تقريباً. وثمة ما يشبه «الأصولية السوقية» تكونت في العالم الأنجلوسكسوني. وهي تقوم على «أعمدة» أربعة، تتمثل بوزارة المالية في الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ترمي إلى إزالة كل عقبات ممكنة من أمام حرية التجارة الدولية وانسياب التدفقات السلعية والمالية وتوسع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في شتى أنحاء العالم. هذه «الأصولية السوقية» تمثل خطراً كبيراً بالنسبة لسيادة الدول الأخرى، وللأنظمة والقوانين والمبادئ والأعراف التي سار عليها المجتمع الدولي منذ أن استقرت الدولة- الأمة، بوصفها النموذج والإطار الذي يجسد سيادة الأمم والشعوب على أرضها. فالسوق عنصر بالغ الأهمية لابد منه، لإنتاج السلع والخدمات ولتحقيق الفاعلية الاقتصادية، ولكنه لا يمكن أن يقدم الحلول لكل المعضلات التي تواجهها المجتمعات والدول. فهو عرضة للأزمات الدورية والعرضية، الفعلية والمفتعلة، ولحالات الإفلاس والذعر والصراعات، والتنافس اللاأخلاقي في كثير من الأحيان.. إلخ. 

إن كل من يتطلع إلى المستقبل لابد أن يأخذ في الحسبان أن حصة 20 في المائة من سكان العالم الأكثر فقراً لا تتجاوز 1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في العالم، وأن النسبة بين الخُمس الأكثر ثراء من سكان العالم، والخُمس الأكثر فقراً هي واحد إلى 75 (1 : 75)، وأن ثمانية مليارات إنسان (الحد الأدنى للنمو الديموغرافي في العالم بحلول العام 2050)، لن يكون في وسعهم تأمين متطلبات الحياة، في حال اقترب مستوى استهلاك موارد الأرض لدى البلدان الفقيرة والحديثة التطور، من المستوى الراهن للاستهلاك في الولايات المتحدة والبلدان الغربية الأخرى الأكثر تقدماً. فلكي يصل الفقراء إلى مستوى الاستهلاك الأمريكي مثلاً، سيحتاج الأمر إلى أربعة كواكب مماثلة لكوكب الأرض. وثمة هنا خيار واحد من اثنين: إما أن يعي الأغنياء خطر التبذير ويتصرفوا على هذا الأساس، وإما أن تؤدي الحداثة لدى الأغنياء والفقراء على حد سواء إلى استنزاف ثروات الأرض.

لابد هنا من إبداء قدر كبير من الحذر لدى تقييم حجم تأثير التكنولوجيا المتقدمة، واتساع نطاق وأطر التبادل المعلوماتي– التكنولوجي على الدول والمجتمعات. إذ إن القسم الأكبر من سكان العالم (نتيجة الفقر والأمية وضعف التطور) يبقى إلى حد بعيد خارج التفاعل النشيط مع الثورتين العلمية - التكنولوجية والمعلوماتية، وخارج التعامل الواعي مع نتائجهما وإنجازاتهما، وإن كان يقع حتماً تحت تأثيراتهما وانعكاساتهما. فثمة «فجوة معرفية» متنامية بوتائر مخيفة بين المجتمعات الأكثر تطوراً من جهة، وتلك المتوسطة المتطور والأكثر تخلفاً، حيث تكتفي الأخيرة بدور المتلقي السلبي لبعض نتاجات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، فتستهلكها وتستفيد منها وتستخدمها في حياتها اليومية، إلى حد أنها تكاد تغير بالكامل نمط هذه الحياة، لكن دون أن تساهم في خلق المعرفة التي تثمر تلك النتاجات. إن الوضع الراهن الذي يتسم بعدم المساواة وانعدام التكافؤ بين شطري العالم، ينطوي على خطر تفجُّر موجات الاعتراض والاحتجاج، وتحولها تدريجاً من مقاومة صامتة وسلبية في الغالب، إلى اعتراضات ذات طابع عنفي بهدف تغيير هذا الوضع، تنذر بفوضى عالمية. وهذا ما نشهد بعض إرهاصاته وتجلياته اليوم، بما في ذلك في منطقتنا العربية. 

 وثمة مصدر آخر للخطر يتمثل في تزايد الفوضى التي تعم الكثير من الدول والأقاليم، حيث يتعرض نسيج البنى الاجتماعية التقليدية للتمزق، نتيجة الدخول الزاحف والتغلغل المطرد لأساليب وأنماط المعيشة والاستهلاك والثقافة المعولمة، والتدخل السياسي، وغير السياسي أيضاً، القسري في حياة المجتمعات والشعوب والبلدان المختلفة لفرض قيم ومفاهيم الديمقراطية والحرية الغربية النمط.. إلخ، وذلك على نحو يتعارض مع مثلها وتقاليدها ومع الأنماط الثقافية والحياتية والمفاهيم المتوارثة لتنظيم لحياة الاجتماعية والسياسية. فمن إندونيسيا إلى أسكتلندا، ومن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق إلى الجنوب الإفريقي، مروراً بمناطق آسيا والشرق الأوسط، نشهد تراجعاً عشوائياً متسارعاً لتلك التقاليد والقيم والأنماط والمفاهيم، وتشرذماً سياسياً وتفككاً للقوى المركزية الجاذبة، وتفتتاً وانقسامات إلى دويلات وكيانات صغيرة ضعيفة ومتصارعة. إن عملية التفتت هذه تجري على حساب البنى الدولية، أو ما يسمى الدولة- الأمة التي تمثل أحد أبرز ثمار الحداثة، وتؤدي في المقابل إلى تعزيز نفوذ وقوة المنظمات الدولية (وخصوصاً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) والشركات العابرة للقوميات، وتأثير وسائل الإعلام والاتصالات العالمية ذات الطابع فوق القومي، العابر للحدود والجنسيات.

إن ما يحدث اليوم ليس عولمة للعالم، وفق التصور الوردي المتفائل لدعاة العولمة، وإنما هو أمركة على جميع المستويات. وفي هذا الصدد يقول رئيس إحدى كبريات شركات الاتصالات العالمية م.سوريل، في مقالة بعنوان «سمات العصر الجديد»، نشرت في عدد صيف العام 2000 من مجلة «فورين بوليسي»: «إن العالم لا يتعولم، بل يتأمرك. ففي كثير من فروع الصناعة تبلغ حصة الولايات المتحدة قرابة 50 في المائة. وفي مجال الإعلان والتسويق تصل هذه الحصة إلى الثلثين. أما في ميدان الاستثمارات فتهيمن الشركات الأمريكية العملاقة: ميريل لنش، مورغان ستنلي، دين ويتر، غولدمان ساكس، سولومون سميث بارتي وج.ب.مورغان». أما جورج سوروس فيشير في مقال بعنوان «عصر المجتمع المفتوح» نشر في العدد نفسه من المجلة ذاتها، إلى الجوانب السلبية للهيمنة الأمريكية، إذ يقول «إن الولايات المتحدة مفتونة بنجاحها. فهي لا ترى ضرورة لإخضاع مصالحها لمبدأ عام ما مطلق. إنها تحرص على سيادتها بغيرة ومغالاة، وتتصرف وكأنها الحكم الوحيد الذي يفصل بين الصحيح والخطأ. إن قيادة مجتمع الأمم المفتوح يفترض أن تشهد واشنطن انقلابا داخلياً حقيقياً». هذا الكلام يقوله رجل لا يمكن أبداً اتهامه بالعداء للولايات المتحدة ولمبادئ اقتصاد السوق الليبرالي ولظاهرة العولمة، فهو أحد أبرز المستفيدين من هذه الظاهرة والذين كدسوا ثرواتهم الطائلة على موجتها، وبفضل التحولات الجذرية التي أدخلتها على آليات عمل الرأسمالية الجديدة. أما فوكوياما، صاحب نظرية «نهاية التاريخ»، فيؤكد أن الحكمة لن تسود إلا عندما يكف العالم عن الانقسام بين البلدان المنخرطة في العولمة والبلدان المنبوذة خارجها.

إن المسألة الأكثر خطورة التي يواجهها العالم اليوم وفي المستقبل المنظور، هي: كيف يمكن وضح حد لهيمنة القطب الواحد وتكريس التعددية السياسية والحضارية على مستوى العالم، كيف يتحقق التوازن الإقليمي في كل من آسيا وأوربا والشرق الأوسط، كيف يمكن مواجهة قوى العولمة غير المنظمة، كيف يتم إيقاف عملية التفتيت والشرذمة والهجمة المتواصلة على الهوية القومية والحضارية للمجتمعات والشعوب والسعي لإقامة ثقافة كوسموبوليتية على حساب هذه الهوية...؟ .