ثورة تونس.. خريف الأباطرة

ثورة تونس.. خريف الأباطرة
        

          ليس من شكّ في أنّ الثورة التونسيّة تنتصر وتتقدّم بنجاح منذ يناير 2011 حتى الآن على الرغم من مخاوف الخائفين وتخويف المخوّفين، وكذلك الثورة المصريّة. وليس من شكٍّ أيضًا في أنّ تسونامي الحريّة هذا الذي أطاح بأكثر من طاغيةٍ عربيّ لن يلبث بعد قليل أن يغيّر ملامح سائر الدول العربيّة من الجرح إلى الجرح ومن الملح إلى الملح.

          هل هي ثورة؟ هكذا يسأل البعض شرقًا وغربًا، وفي البال الثورة الفرنسيّة سنة 1789 أو الثورة البلشفيّة سنة 1917، وكأنّ للثورات ثوابت جامدة ووصفات جاهزة لابدّ من القياس عليها للتأكّد من تطابق المواصفات! والحقّ أنّ الأسماء كائنات متحرّكة حيّة قد تبلى وتهرم وتموت وقد تنضج وتتجدّد وتتوالد، شأنها في ذلك شأن الكثير من المسمَّيات.

          والحقيقة أن البشريّة اليوم تستطيع أن تضيف مفردة أخرى إلى مُعجم الثورات، وأن تتحدّث عن الثورة وفي البال الثورة التونسيّة بوصفها اقتراحًا جديدًا ومختلفًا. والأكيد حتى كتابة هذه السطور أنّ ما حدث في تونس وبعد ذلك في مصر في مفتتح 2011 هو ثورة بحقّ. إلاّ أنّ على الثوّار أن يؤكّدوا ذلك ويبرهنوا عليه عن طريق ما يُنجزونه في المرحلة التالية لاندلاع الشرارة، مرحلة «اليوم التالي».

          حكَمَ بن علي تونس من خلال خطاب «توبيشيّ»، نسبة إلى الأوباش، حاول أن يزرعه في الجميع وأن يصنع منه ذهنيّةٍ من مقوّماتها: الفساد كقاعدة، وحجّة القوّة كأداة، والإرهاب الماديّ والرمزيّ كلغة، وتصفية الحسابات كمنهج، والإقصاء والتخوين والاحتراب على «الكعكة» كثقافة.

          ولعلّ أوكد ما يجب أن يُنْجَز في مرحلة «اليوم التالي»: القطيعة التامّة مع كلّ هذا، أي مع خطاب اليوم السابق وذهنيّته. فالاستبداد ليس رموزًا فحسب وليس مجرّد أجهزة وآليّات يتجسّد من خلالها النظام، بل خطاب وذهنيّة، وقد يرحل النظام برموزه وأجهزته لكنّه يظلّ باقيًا ما بقيت ذهنيّتُه وما بقي خطابُه. وعلى هذا وغيره يُقاس نجاح الثورة.

هل يمكن لهذه الثورة أن تفشل؟

          يقرأ البعض التاريخ فيغريه القول بفشل الثورات بشكل عامّ، مؤكّدًا أنّها على امتداد الجغرافيا والتاريخ لم تفض حتى الآن في أفضل الأحوال إلاّ إلى إنتاج مجتمعات هجينة، يحلّ فيها رأس المال المتوحّش محلّ الطاغية المستبدّ من وراء إكسسوارات يزداد في سياقها استفحال التمييز الاجتماعي وإفقار الأغلبيّة وتهميشها وإبعادها عن مراكز القرار.

          والحقّ أنّ فشل الثورات ممكن بشهادة التاريخ لكنّه ليس أمرًا حتميًّا كما يروّج البعض انطلاقًا من هذه القراءة السوداويّة. وكما كانت الثورة التونسيّة مختلفةً في معطيات انطلاقها وفي آليّات سيرورتها حتى الآن، فإنّ من الممكن لها أيضًا أن تتجنّب الفخاخ التي جعلت ثورتي فرنسا سنة 1789 وسنة 1848 تؤولان إلى عودة الملكيّة ثمّ إلى ظهور الإمبراطوريّة الثانية، وثورة روسيا سنة 1917 تؤدّي إلى قيام الدكتاتوريّة.

          بل إنّ القول بفشل هذه الثورات يظلّ هو نفسه في حاجة إلى تدقيق، فالعالم كلّه اليوم انطلاقًا من فرنسا مرورًا بروسيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وصولاً إلى جانب كبير من بلاد الشرق الأدنى والأقصى، مدين لتلك الثورات «الفاشلة» بالكثير من معالم حداثته وتقدُّمه ومكتسباته الاجتماعيّة والسياسيّة. من هذه الناحية قد لا يكون من المبالغة في شيء الزعم بأنّ هذه الثورات نجحت على الرغم من فشلها، وأنّ كلّ ثورة مهما فشلت في تحقيق كلّ أهدافها، هي ثورة ناجحة إلى حدٍّ ما بما تتركه من أثر لا يُمحَى.

          ولعلّ القول بفشل الثورات راجع في أحيان أخرى عديدة إلى خطأ في التشخيص. مثلما حدث حين ظنّ البعض أنّ مجيء القذافي إلى حكم ليبيا كان ثورة، بينما هو مجرّد انقلاب استمرّ عقودًا، مستعملاً مفردات الثورة وشعاراتها بوصفها مجرّد إكسسوارات لا علاقة لها بالواقع.

          تظلّ الثورات معرّضةً للفشل شأنها في ذلك شأن كلّ مشروع، ما لم يُثبت «اليوم التالي» نجاحها. إنّ مرحلة «اليوم التالي» هي التي تمنح الثورة هويّتها كثورة حقيقيّة ناجحة، بعيدًا عمّا يتهدّدها من ثورات مُضادّة وعمّا يلتبس بها أحيانًا من زراعة أعضاء تُدار عن بعد أو انتفاضات ترقيعيّة أو جراحات موضعيّة أو عمليّات شدّ جلد لأنظمة مترهّلة.

          مصيرُ الثورتين التونسيّة والمصريّة اليوم بأيدي الثوّار، وهم ناجحون حتى الآن. وفي وسعهم أن يجعلوا هذا النجاح دائمًا ونهائيّا إذا هم أحسنوا إدارة مرحلة «اليوم التالي»، وإذا هم جعلوا حساب «بيدرهم» مختلفًا عن حسابات «الحقل» التي يخطّط لها أعداؤهم دهاقِنةُ الداخل والخارج.

هل هي ثورة شباب؟

          «في العشرين نكونُ مشعلي حرائق وفي الخمسين نتحوّل إلى إطفائيّين». هكذا خيّل لكثيرين «هرموا» في انتظار لحظةٍ كادوا يعتقدون أنّها لن تأتي كما قال أحد «كهول» ثورة 14يناير 2011 التونسيّة، في ندائه الشهير اليوم «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية».

          من هذه الناحية تكتسب عبارة «ثورة الشباب» شرعيّة حضورها عنوانًا على ما حدث في تونس ومصر وعلى ما يحدث حتى كتابة هذه السطور في ليبيا واليمن وغيرهما من البلاد العربيّة.

          إلاّ أنّ الواقع سرعان ما يجابه هذه العبارة بحدودها، فليس من ثورة تحدث إلاّ إذا التحمت أغلب فئات المجتمع في لحظة شبيهة بتلك التي أشار إليها بودلير بتاريخ 20 أكتوبر 1848 حين قال إنّ الثورة الفرنسيّة كانت في بُعْدٍ من أبعادها «مرحلةً أو يومًا أو ساعة أمكن فيها لمشاعر متناقضة لعدد كبير من الأفراد أن تتجسّد في محض رجاء هائل..».

          إنّ توحُّدَ الجميع في محضِ «رجاء هائل» هو الذي جعل المستحيل ممكنًا، وهو ما أتاح لأكثر من بلد عربيّ أن يشهد ما يمكن أن نطلق عليه اسم «خريف البطارقة العرب» أو «تسونامي الحريّة». ومن هذه الناحية نستطيع القول إنّها لم تكن ثورة شباب فحسب بل ثورة شعوب بجميع أجيالها.

          ما كان للأبناء أن يتحرّكوا لو لم يكن الآباء قد أحسنوا تربيتهم وحافظوا فيهم على شعلة المُقاومة على امتداد عقود.

والمرأة؟

          ليس من شكّ في أنّ المرأة التونسيّة تتطلّع إلى تحقيق الكثير ممّا ينقصها، إلاّ أنّ من الواضح أيضًا أنّها حقّقت الكثير مقارنة بشقيقاتها العربيّات، وأنّها امتلكت بذلك أسبقيّة في طريق التحرّر، لعلّ فيها ما يفسّر بعض أسباب السبق الذي حقّقه الشعب التونسيّ في التحرّك للإطاحة بطاغيته. لكن هذه الثورة ما كانت لتقوم وما كانت لتحقّق ما حقّقته حتى الآن لولا الدور الذي لعبته قبلَها وخلالها المرأة، بكلّ ما تعنيه هذه العبارة من وجوه الدلالة. ومن ثمّ جاء إلحاحي على القول إنّ الثورة التونسيّة كانت في جانب كبير وعميق منها، هي ثورة المرأة التونسيّة.

          اعتادت المرأة التونسيّة على امتداد التاريخ أن تمارس حياتها اليوميّة بما يرقى إلى مستوى الأسطورة، حتى كاد يصحّ القول إنّ البطولة في صيغتها الأنثويّة حاضرة بامتياز ضمن مفردات الخصوصيّة التونسيّة منذ عليسة والكاهنة والجازية الهلاليّة. بل منذ صرخة «النار ولا العار» التي استحضرها الوجدان العام بشكل منقطع النظير لحظة اندلاع ثورة 14 يناير 2011.

          ليس من ثورة في التاريخ إلاّ وللمرأة فيها أكبر الأدوار. إلاّ أنّ دورها لم يُقابل دائمًا بما يستحقّ من تقدير وإنصاف. فقد تطوّر وضع المرأة كثيرًا على الرغم من أنّه لم يبلغ المستوى المنشود مقارنة بما يجب أن يتحقّق. وصار للمرأة وعيٌ بحقوقها السياسيّة. وها هي المرأة التي عانت على امتداد السنوات دون أن تغفل لحظة عن حماية الشعلة، المرأة التي وقفت في المقدّمة منذ الشرارة الأولى، في الأرياف والقرى والمُدن، في الشوارع والأزقّة والساحات، في صفوف التعليم والمحاماة والطبّ والإعلام والفنّ والثقافة والعمل النقابيّ، في التنظيمات المعارضة وفي مؤسّسات المجتمع المدنيّ، ها هي تواصل اليوم السعي إلى الحضور في موقعها الطبيعيّ المستحقّ في كلّ فضاءات بناء تونس الجديدة.

          لكنّ هذا الحضور الذي لا يمكن إنكاره، يبدو حتى الآن دونَ ما هو مطلوبٌ ومُستحقٌّ في مؤسّسات هذه المرحلة الانتقاليّة التي تشهدها الثورة، وفي المواقع واللجان التي تسهر على تحديد معالم مستقبل هذا الشعب، مقارنة بنسبة حضور المرأة في تركيبة المجتمع التونسيّ، ومقارنة بما قدّمته من تضحيات وما تتحلّى به من صفات. ولعلّ في ذلك، أي في حضور المرأة بشكل أكبر وأوضح، ما يدفع إلى الاطمئنان على المستقبل. فالمرأة من هذه الناحية ضمانة من أهمّ ضمانات النجاح، وعنصر من أهمّ عناصر حماية الثورة.

وما نصيب نظريّة المؤامرة؟

          الكلمات التي لا تُقال في العلن تُزهرُ في الصمت، هكذا يقول المثل اليابانيّ السائر. إلاّ أنّ من الصمت، العربيّ تحديدًا، ما لا يمكن أن يزهر فيه شيء غير الأزهار السامّة. وثمّة صمت كثير من هذا النوع هذه الأيّام يتعلّق بكواليس الثورة، ممّا جعل الكثيرين يروّجون لعدد من السيناريوهات وكأنّهم يستكثرون على الشعوب أن تثور بمحض إرادتها.

          من هذه السيناريوهات ما يؤكّد على أهميّة «العامل الداخليّ» المتعلّق بوجود خطط انقلابيّة داخل النظام نفسه، حرّكها بلوغُ الفساد حدّه وخرَفُ رأس النظام ودخول العائلات والورثة على الخطّ. ممّا جعل بارونات النظام الذين كانوا ينتظرون دورهم يشعرون بأنّ الغنيمة ستفوتهم، فإذا هم ينشقّون إلى عصابات ويعقدون تحالفات مع بعض الأجهزة الأمنيّة ويتّصلون بالسفارات الأجنبيّة ويعدّون خططًا انقلابيّة في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة. ولعلّهم رأوا تلك اللحظة في أحداث سيدي بوزيد واعتصامات ميدان التحرير، إلاّ أنّ اللغم انفجر بين أيديهم وأصبح خارج السيطرة، لأنّ انفجاره تزامن مع عدم تماسُك النظام، ممّا مكّن الشعب من الإمساك بزمام أمره وتفويت الفرصة على متآمري الداخل وحلفائهم في الخارج.

          ومن هذه السيناريوهات ما يؤكّد على أهميّة «العامل الخارجيّ» من خلال خطّة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكُتّاب هذا السيناريو يعتمدون على قراءة بعض الأحداث والوقائع وعلى تسريبات «ويكيليكس» وغيرها ليزعموا أن القوى الدوليّة كانت تستعدّ لاستبدال بيادقها التي احترقت وانتهت مدّة صلاحيّتها، وأنّ استخباراتها فوجئت بلحظة اندلاع الثورة لكنّها سرعان ما أصبحت تقود مرحلة «اليوم التالي» وفق أَجَنْدَتِها وخارطة طريقها. وينقسم أصحاب هذه النظريّة إلى قسمين: قسم يرجّح أنّ بعض القوى الخارجيّة يسعى إلى صناعة الفراغ كي يصبح التدخّل الخارجيّ مطلبًا داخليّا! وقسم يرجّح أنّ بعض هذه القوى يسعى إلى تعميم النموذج التركي، اقتناعًا بضرورة التعامل مع الإسلام السياسيّ المعتدل.

          سيناريوهات لن نعرف نصيبها من الحقيقة والخيال إلاّ في المستقبل، حين تظهر الوثائق والمعلومات التي تتيح الفرز بين ما ينتمي منها إلى نظريّات المؤامرة وما ينتمي منها إلى مؤامرات الواقع. لكنّها لا تعني شيئًا في منطق الثورات. فلكلّ ثورة ما يغذّي نارها من عوامل خارجيّة وداخليّة. وليس من ثورة إلاّ وهي ثورة ضدّ هذه العوامل الخارجيّة والداخليّة.

هل هي ثورة بلا قيادة؟

          «إذا اعترض رجلٌ طريقك ولم ترَ إلاّ قدميه فهذا لا يعني أنّه بلا رأس». حكمةٌ منسوبة إلى الآباش إحدى قبائل الهنود الحمر، استحضرتُها أكثر من مرّة هذه الأيّام وأنا أقرأ لكثيرين يُلِحُّون على عفويّة الثورة التونسيّة تحديدًا، مشيرين إلى أنّها كانت ثورة بلا قيادة، بلا أحزاب، بلا زعماء.

          وهو كلامٌ يحتاج إلى تصحيح ولا يخلو من ظلم للثورة ولأجيال عديدة من المناضلين. معارضون كثيرون من شتّى المشارب وعلى مختلف الجبهات كانوا يتوقّعون حدوث هذه الثورة ويعدّون لها العدّة كلٌّ على طريقته. وإذا كانت قد فاجأت الجميع حقّا في كلّ ما يتعلّق بلحظة اندلاعها إلاّ أنّها سرعان ما وجدت في صفوفها الآلاف من هؤلاء الذين قاموا بدورهم كاملاً، لا فرق في ذلك بين عامل وعاطل عن العمل، بين رجل وامرأة، بين شابّ وشيخ.

          كانت ثورة من نوع جديد لذلك كان من الطبيعيّ أن تكون ذات قيادة من نوع جديد، لا مكان فيها لاحتكار البطولة ولا مجال فيها للانفراد بالزعامة. وإذا كان من متطلّبات مرحلة «اليوم التالي» أن تفرز أعلامها وأسماءها وقياداتها، فإنّ من الضروريّ الإلحاح على أنّ ما حدث حتى الآن ما كان ليحدث لولا وعي عميق متأصّل ظلّ يتوهّج على امتداد خمسين عامًا.

          وليس من شكّ في أنّ وعيًا شعبيّا بهذا التوهّج ما كان ليحصل لو لم يساهم في بنائه أجيال من المناضلات والمناضلين السياسيّين والنقابيّين والحقوقيّين ونشطاء المجتمع المدنيّ والمثقّفين والمبدعين والإعلاميّين والمعلّمين وأساتذة الجامعة والمعاهد الثانويّة والطلبة والتلاميذ وحتى المواطنون الصامدون في مختلف فضاءاتهم المهنيّة والأُسَريّة، دون أن ننسى مناضلي الداخل والخارج الذين واجهوا آلة البطش والقمع والسجن والمنفى والإقصاء والتهميش، وكذلك الذين خاضوا حرب المواقع في مختلف مجالات عملهم، حارسين الشعلة من خلال ما يكتبونه أو ما يقولونه.

الثقافة التونسية والثورة

          لم يدّخر النظام التونسيّ السابق جهدًا على امتداد عقود لتهميش المثقّفين محاولاً تلهيةَ بعضهم ببعض وتغليب التهريج على الإبداع واختزال الثقافة في «فُرجة» شبيهة بمهرجانات الحلبات الرومانيّة. إلاّ أنّه فشل في تحقيق أهدافه. وباستثناء عدد محدود من أبواق الدعاية فإنّ في وسع المراقب المنصف أن يقرّ بأنّه كان نظامًا بلا مثقّفين.

          في المقابل ظلّت الساحة خصبة بأجيال من المثقّفين المبدعين الصامدين كلّ على طريقته، من المفكرين والمسرحيّين والسينمائيّين والفنّانين الموسيقيّين والتشكيليّين والأدباء والشعراء، فضلاً عن المربّين وأساتذة الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها من المجالات، حيث نمت قِيَمُ المقاومة والحريّة والكرامة التي أتاحت لشعلة الثورة أن تصمد وأن تنضج.

          إنّ من حقّ هؤلاء المثقّفين بل من واجبهم أحيانًا أن يختاروا التحرّك من الهامش، لكن من الظلم أن يُهمَّشُوا قبل الثورة وبعدَها، وكأنّ الشأن الثقافيّ يتيم العائلة الأبديّ وأوّل ما يُضحّى به بعلّة الظروف والأولويّات.

          الثقافة في وجه من وجوهها هي النظر إلى الأمر الواحد من زوايا متعدّدة، وهي من ثمّ مدرسة للحوار مشروطة بتعدّد الرؤى والأطروحات بينما الطاغية لا يؤمن إلاّ بالرأي الواحد وبأطروحته هو تحديدًا. الطاغيةُ يَقْمَعُ لأنّه عاجزٌ عن أن يُقنِع، بل لعلّه لا يهتمّ بالإقناع أصلاً مادام معتزّا بالاستبداد، متوهّمًا أنّه غير محتاج إلى ثقافةٍ غير الفساد.

          الثقافة ذاكرة المجتمع ومخيّلته في الوقت نفسه. وهي رحِمُ القِيَم. ولا يمكن للسياسيّ أن يطوّر مجتمعًا وأن يحصّنه إذا لم يول أهميّة قصوى كلّ ما يجعل الذاكرة في خدمة مخيّلة متحرّرة في حاضرها قادرة على إبداع مستقبلها بارعةٍ في تحويل الجذور إلى أجنحة. والثقافة من هذا المنظور وقود الحريّة والكرامة.

          والحقّ أنّ النظام التونسيّ شأنه شأن الأنظمة الاستبداديّة عمومًا، حاولَ فعلاً تدجين المثقّفين واستغلّ احتلاله لأجهزة الدولة كي يظهر بمظهر النظام المُثقَّف، إلاّ أنّه لم يُفلح إلاّ في استقطاب قلّة هزيلة منهم، لا مفرّ لهم من المحاسبة أمام التاريخ والشعب، فالمُحاسبة جزءٌ من المُواطَنة شرْطَ أن تتمّ ضمنَ الأطر المستجيبة لقيم الثورة، بعيدًا عن مخلّفات الاستبداد وبعيدًا عن ذهنيّة محاكم التفتيش.

          أمّا الباقون فقد اشتغلوا في فضاءات الثقافة والتربية والإعلام ونشروا الكتب وألّفوا المسرحيّات وأخرجوا الأفلام وأحيوا الأمسيات ونشطوا حيثما أمكن لهم في ربوع البلاد التونسيّة لأنّهم لا يستطيعون فعل ذلك في المرّيخ، وتعاملوا مع مختلف هذه الفضاءات بوصفها ملكًا للشعب وبوصفها أجهزة دولتهم المُحتلّة من طرف النظام، وظلّوا ينشطون داخلها من منطلق حرب المواقع لتحريرها كلٌّ حسب قدراته.

          من هذه الناحية شهدت تونس عقودًا من العصيان الثقافي في المسرح والسينما والفكر والرواية والشعر والموسيقى والفنون التشكيليّة وغيرها من المجالات. وما كان لشعلة الثورة أن تصمد لولا نجاحُ كثيرين في خوض حرب المواقع الشرسة، للشهادة على الرغم من التعتيم، وللاختلاف على الرغم من قبضة الرأي الواحد، وللذود عن الحريّة على الرغم من الرقابة، وللدفاع عن الجمال على الرغم من رياح الرداءة.

          وإذا كان على المثقّفين تحديدًا أن يلملموا صفوفهم بسرعة كي لا يهونوا على غيرهم وكي لا يستمرّ البعض في محاربتهم بالأدوات نفسها التي استعملها الطاغية من الإقصاء والتخوين والثلب والابتزاز ومحاكمة النوايا وكتابة التقارير وترويج الشائعات وإلقاء التّهم جزافًا، فإنّ من واجب الساسة الجُدُد أن يثبتوا هم أيضًا أنّهم يتعاملون مع الشأن الثقافيّ وفق قطيعة تامّة مع سياسة ما قبْل الثورة.

          ولعلّ الأوان قد آن كي يسجّل الشأن الثقافيّ حضوره الذي هو به جدير في الخطاب السياسيّ الجديد، وأن تشرع الأحزاب الجديدة في الإجابة عن عدد من الأسئلة الثقافيّة التي يطرحها عليها المواطن عمومًا، ومن بينها:

          ما رؤية هذه الأحزاب للثقافةِ في علاقتها بالتربية، وفي صلتها ببناءِ هُويّةٍ غير أصوليّة، أي هويّة تعرف كيف تحوّل جذورها إلى أجنحة؟

          ما التدابير والحلول التي تقترحها هذه الأحزاب لإعادة الاعتبار إلى الثقافة المنتجة للمعنى في غمرة التحديّات الاستهلاكيّة والفرجويّة المكرّسة لقتل المعنى؟

          أيّ حجم لحضور المثقّفين والمبدعين في تشكيلات هذه الأحزاب الجديدة، بصفتهم تلك، لا بصفتهم محترفي سياسة، أي في سياق من نوع جديد، لا يضطرُّ أحدًا إلى المفاضلة بين وعيه النقديّ والانضباط.. بين الاستقلاليّة والاستقالة؟

          وإذا كانت الثقافة «خبز الفقراء» كما يُقال، فما الحلول التي تقترحها هذه الأحزاب كي لا يظلّ هذا «الخبز» أغلى من أن يستطيع الفقراء شراءه؟

خاتمة

          هنا وهناك من تونس إلى مصر، تحفر الثورة مجراها في أرضٍ من الطبيعيّ أن تكون مزروعة بالكثير من المحاذير وبالكثير من التجاذب الذي يسمّيه البعض أزمات. والأزمات في هذا السياق عنصر ضروريّ من عناصر حركة التاريخ ما لم تغلب عليها الجوانب السلبيّة المنتجة للثورات المضادّة. ولن يتحوّل هذا التجاذب إلى أزمة بالمعنى السلبيّ للكلمة إلاّ إذا خرج على القيم التي بذل الشهداء في سبيلها أرواحهم وتلقّى باسمها الأبطال رصاص القنّاصة بصدورهم. من حقّنا إذنْ أن نسعدَ بكوننا نعيش هذه اللحظة النادرة في تاريخ البشريّة، لحظة ميلاد ثورة وانتصارها. من حقّنا أن نسعد بأنّنا حلمنا بها وسعينا إليها كلّ بطريقته. ومن واجبنا أن ننخرط في دفعها إلى الأمام بكلّ ما نملك من حماسة. إلاّ أنّ الحماسة ليست في غنًى عن الفطنة، كما أنّ الانخراط اليوميّ في تحقيق الحلم لا ينفي ضرورة التسلّح بوعيٍ نقديّ يتيح التفكّر والتمحيص والتوقّف عند الأسئلة التي تطرحها علينا الأحداث يومًا بيوم ولحظةً بلحظة.
----------------
* كاتب وإعلامي من تونس.

 

 

آدم فتحي*