جيروم فيراري وداليا سعودي.. كتابة الرواية هي اغتراب الذات عن الذات

جيروم فيراري وداليا سعودي.. كتابة الرواية هي اغتراب الذات عن الذات

لا‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬ﭼيروم‭ ‬فيراري‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬الحائز‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬جونكور‭ ‬العام‭ ‬قبل‭ ‬الماضي‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬‭. ‬فأستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬مستشاراً‭ ‬تربوياً‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬ليسيه‭ ‬أبوظبي‭ ‬تمكَّن‭ ‬عبر‭ ‬روايات‭ ‬سبع‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬عالم‭ ‬أدبي‭ ‬خاص،‭ ‬تسكنه‭ ‬شخوص‭ ‬تعاود‭ ‬الظهور‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬وتلوح‭ ‬فيه‭ ‬جزيرة‭ ‬كورسيكا،‭ ‬موطن‭ ‬فيراري‭ ‬الأصلي،‭ ‬تارة‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬وتارة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الأفق‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬المستكشف‭ ‬لأسباب‭ ‬هشاشة‭ ‬عوالمنا‭ ‬الدنيوية،‭ ‬تُطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬الصعبة،‭ ‬عبر‭ ‬كتابة‭ ‬قلَّ‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬مثيلتها‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬المعاصر،‭ ‬قدرةً‭ ‬وجمالاً‭.‬

ما بين الرياض وأبوظبي، وبمناسبة صدور الترجمة العربية لرواية ﭼيروم فيراري الفائزة، حاورته الناقدة المصرية الدكتورة داليا سعودي.   

‭< ‬كتابتك‭ ‬مشبعة‭ ‬بنزعة‭ ‬شاعرية‭ ‬روحانية‭ ‬أصدق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تؤخذ‭ ‬مأخذ‭ ‬الحيلة‭ ‬الأسلوبية‭. ‬فنصوصك‭ ‬تعج‭ ‬بالاستعارات‭ ‬الدينية،‭ ‬والإحالات‭ ‬التوراتية‭ ‬والإنجيلية،‭ ‬والأشعار‭ ‬الصوفية‭. ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬بنية‭ ‬الرواية،‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تستعين‭ ‬بشخصية‭ ‬أحد‭ ‬الأولياء‭ ‬أو‭ ‬القديسين‭ ‬كمحور‭ ‬للبناء‭. ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬اختياراتك‭ ‬تستلفت‭ ‬الانتباه‭:‬

الحلاج‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬‭ ‬إله‭ ‬وحيوان‮»‬،‭ ‬القديس‭ ‬أوغسطين‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬،‭ ‬المسيح‭ ‬وبيلاطس‭ ‬البنطي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حيث‭ ‬تركتُ‭ ‬روحي‮»‬،‭ ‬حدثني‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الاختيارات‭. ‬

- الحلاج والقديس. أوغسطين اختياران أصيلان في بناء الروايتين أما الثالث فليس كذلك. بمعنى أنهما قد مثَّلا الشرارة الأولى التي نتجت عنها الرواية. أدين بالفضل لزميلي رياض ﭼـيرو، أستاذ الرياضيات الذي عملتُ معه بالجزائر، لأنه هو من عرَّفني بالشعر الصوفي الإسلامي، وكان ذلك بمنزلة اكتشاف رائع بالنسبة لي، لما لمسته في هذه الأشعار من جمال فائق، جعلني آسَفُ على عدم تمكني من قراءتها باللغة العربية. وأظن أن مبعث ذلك هو أن التيمات الروحانية التي وجدتها في الشعر الصوفي قد مسَّتني مباشرةً. وأما السمة الأساسية التي تجذبني إليها فهي مقدرتها على الجمع بين النقائض والأضداد بصورة لا هي ديالكتيكية ولا هي تصالحية. هي المقاربة بين الأشياء مع المباعدة بينها، كالحديث مثلاً عن الحب الحسي والحب الفكري في الوقت نفسه، أو القول بأن الابتعاد والاقتراب ما هما إلا حركة واحدة، أو أن اليد التي تبارك هي نفسها اليد التي تقتل. تلك عناصر محورية في التصوف الإسلامي، بل وفي كل صور التصوف في الأديان السماوية. لكنها أوضح ما تكون في شعر الحلاج، حيث تحتد التوترات الناشئة عن الازدواجية. وبمثل ما كان الحلاج منشئ روايتي «إله وحيوان»، كذلك كان أوغسطين. ففكرة رواية «موعظة عن سقوط روما» واتتني عندما قرأت مواعظ القديس أو غسطين التي لم أكن أعرفها من قبل. وبالتحديد حين قرأت عبارة «العالم مثل الإنسان: يولد، ويكبر، ويموت». أي أنني في الحالتين، صادفتُ أشياءَ توافقت مع ذائقتي الروحانية. 

‭< ‬فماذا‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حيثُ‭ ‬تركتُ‭ ‬روحي‮»‬؟

- هنا اختلف الأمر. إذ كنت قد بنيتُ الرواية مستنداً إلى قصة المناضل الجزائري «العربي بن مهيدي»، غير أنني لم أكن أريد أن أكتب رواية تاريخية، ولا رواية ذات مفتاح، بل كنتُ أريد إضافة بُـعد يجعل من تلك القصة أمثولة تنطق بالحكمة. فإذا بالمواجهة التي تتم بين السجان الفرنسي وسجينه الجزائري تذكرني بالمواجهة التي تمت بين بيلاطس والمسيح، كما أوردتها الأناجيل، وكما أعاد تصورها الأديب الروسي ميخائيل بولجاكوڤ في رواية «المعلم ومارجريت»، التي اقتبستُ منها العبارة التي صدّرت بها الرواية. أي أنني هنا تعمدت توجيه الرواية نحو منحنى روحاني، لم يكن موجوداً في البداية، لكنني استعنتُ به كمحرك أساسي، فهو الذي جعلني أقرر أن تدور الرواية في ثلاثة أيام، وهو الذي حدد كثيرًا من ملامح العلاقة بين طاهر المناضل وسجانه القائد دوجورس، وهو أيضاً الذي ساعدني على رسم نهاية الرواية.

‭< ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حيثُ‭ ‬تركتُ‭ ‬روحي‮»‬،‭ ‬تناولتَ‭ ‬قضية‭ ‬التعذيب‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬الجزائر،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬،‭ ‬ألمحتَ‭ ‬لانهيار‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الفرنسية‭ ‬ولاستغلال‭ ‬الكورسيكيين‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬فرنسا‭... ‬هل‭ ‬تعني‭ ‬جائزة‭ ‬جونكور‭ ‬التي‭ ‬نلتها‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬قرر‭ ‬أخيراً‭ ‬الاعتراف‭ ‬بآثام‭ ‬الماضي‭ ‬الكولونيالي‭ ‬المسكوت‭ ‬عنها؟

هذا ما اعتقدته على الأقل عند صدور روايتي «حيث تركتُ روحي» في 2010، ففيما كنت أكتبها صدرت رواية لوران موﭬينييه «رجال»، وبعدها بعام صدرت رواية أليكسيس ﭼيني «فن الحرب على الطريقة الفرنسية» التي حصدت جائزة جونكور في 2011. وبالمصادفة البحتة، تناولنا ثلاثتنا موضوع الحرب في الجزائر. وهو ما جعلني أتصور وقتها أن طرح هذه الموضوعات على الساحة الأدبية قد حان بعد أن تأخر كثيراً.

‭< ‬هل‭ ‬هو‭ ‬محض‭ ‬تصور؟‭ ‬مقارنةً‭ ‬بالحالة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬سنجد‭ ‬روائيين‭ ‬مثل‭ ‬فيليب‭ ‬روث،‭ ‬وتوني‭ ‬موريسون،‭ ‬ودينيس‭ ‬جونسون‭ ‬وجين‭ ‬آن‭ ‬فيليبس،‭ ‬ممن‭ ‬سارعوا‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬مخازي‭ ‬حرب‭ ‬ﭬيتنام‭. ‬فلماذا‭ ‬توارت‭ ‬حرب‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الفرنسية؟

- بالفعل، لا يمكننا عقد مقارنة مع رد فعل الأمريكيين إزاء حرب ﭬيتنام الذي كان سريعاً جداً، حتى أن فيلم «نهاية العالم الآن» (1979) عُرض بعد نهاية الحرب بأقل من أربعة أعوام. لكن هنا ثمة ظاهرتيْن جديرتيْن بالاهتمام: أولاهما هي أنه لسبب أجهله ويجدر البحث عنه، اكتسبت تيمات الحرب أخيراً أهمية كبرى في الأدب الفرنسي المعاصر؛ وثانيتهما هي أن تلك التيمات لم تكن غائبة في حقيقة الأمر. فقد اكتشفتُ بعد صدور روايتي «حيث تركتُ روحي»، أن العديد من الروايات والأفلام التي تناولت حرب الجزائر قد صدرت بدءًا من نهاية الستينيات، لكن أحداً لم يسمع بها أو يشعر بوجودها. أخبرني بذلك المؤرخ بنجامين ستورا.

‭< ‬فلمَ‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬الطويل؟

- ربما لأن تلك الأعمال لم تكن بالغة الأهمية، أو ربما لأن المجتمع الفرنسي لم يكن مهيأً بعد لتلقيها، ففي كل ما يخص حرب الجزائر، ثمة صمت مطبق يلف الأجواء، فكل من شاركوا فيها يكرهون ذكرها. فلما أردتُ جمع الشهادات لروايتي، طلبتُ مقابلة أحد الضباط الذين خاضوا حرب الهند الصينية وحرب الجزائر، فأجابني الرجل بأنه موافق على الحديث عن الأولى دون الثانية. والثابت أنه إلى يومنا هذا، بعد انقضاء أكثر من خمسين عاماً على الحرب، مازالت تلك الأحداث تولِّد شحنة عاطفية هائلة في فرنسا. الشيء الوحيد الذي تغيَّر - بلا شك - هو أن حدة تلك العاطفة قد خفّت بعض الشيء، وإلا لقوبلت روايتي ورواية موﭬينييه بالرفض، وهو ما لم يحدث لحُسن الحظ، لأن الجدل حين ينشب يُنسي الناس طبيعة الرواية كعمل أدبي.

‭< ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬تدريس‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالجزائر‭ ‬للكتابة‭ ‬عن‭ ‬الجزائر؟

- إلى أبعد حد. فرغم عمل أجدادي في الإدارة الاستعمارية، فلم يكن لأحد من عائلتي أي علاقة بالجزائر، لحسن الحظ. ولم تكن لي أي دراية بالحرب هناك. لكن مدخلي الأهم إليها كان إقامتي بها وإشرافي في المدرسة الثانوية على ورشة عمل للكتابة الإبداعية، شارك فيها الطلاب. كان المطلوب فيها هو الحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل. فكان الحديث عن الماضي بالنسبة لهم هو حديث عن حرب التحرير والاستقلال التي شارك فيها أجدادهم. وقد أحضروا كمّا كبيراً من الصور التذكارية، وقصوا العديد من الحكايات، وكتب بعضهم قصصاً قصيرة مدهشة. ولما كنا في العام 2003، فقد حكى بعضهم عن عشرية التسعينيات، وما شهدته من أحداث جسام. وقد تأثرتُ تأثراً بالغاً بما رواه لي طلابي الذين لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة ممن شهدوا أهوالاً لا يملك أستاذهم حتى تخيلها. كان ذلك هو السبيل الذي سلكته وانتهى بكتابة هذه الرواية.  

‭< ‬‮«‬ماسينيسا‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬تختاره‭ ‬لشاب‭ ‬جزائري‭ ‬تربطه‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬مستحيل‭ ‬بـ«أوريلي‮»‬‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬‭. ‬لماذا‭ ‬اخترت‭ ‬لبطلك‭ ‬المعاصر‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬العتيق‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬به‭ ‬ملك‭ ‬دولة‭ ‬نوميديا‭ ‬الأمازيغية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا؟

- واتتني هذه الفكرة أثناء كتابة الرواية. فلكي أمهد لظهور القديس أوغسطين في نهاية الكتاب، بعد أن كانت معظم الرواية قد دارت في العصر الحديث، أردتُ أن يكون هناك وجود للتاريخ القديم وله هو نفسه من دون أن أخصص له فصولاً بعينها. فما كان منّي إلا أن استعنت بكمٍّ هائل من التفاصيل الدقيقة لنسج شبكة خفية من الإحالات لتلك الحقبة الزمنية القديمة. وقد استعنت بهذا الاسم العتيق لمعرفتي بأن كثيراً من العائلات القبائلية في الجزائر مازالت تمنحه لأبنائها الذكور.

‭< ‬أنت‭ ‬إذن‭ ‬لم‭ ‬تستعن‭ ‬باسم‭ ‬هذا‭ ‬الملك‭ ‬لأنه‭ ‬صاحب‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬إفريقيا‭ ‬للأفارقة»؟

- لا، ليس لذاك السبب. في طفولتي، قرأتُ سلسلة من الكتب عنوانها «حكايات وأساطير»، وأذكر منها الجزء الخاص بـ «حكايا وأساطير قرطاج». قرأت فيه بشغف كبير قصة خطيبة «ماسينيسا» الأميرة «سوفونيسب»، التي تزوجت غريمه الملك «صفاقس». وحين أردتُ كتابة روايتي لم يصعب على مخيلتي الربط بين قرطاج وأساطيرها وبين أوغسطين الذي دأب على الذهاب إلى تلك المدينة لإلقاء مواعظه.

‭< ‬مارسيل‭ ‬وماتيو‭ ‬وماسينيسا‭ ‬هم‭ ‬المأزومون‭ ‬الثلاثة‭ ‬الذين‭ ‬تقوم‭ ‬عليهم‭ ‬الخطوط‭ ‬السردية‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬هذا‭ ‬التكرار‭ ‬الفونولوجي‭ ‬لتأكيدها؟   

- (ضاحكاً) هنا، عليّ أن أفتش في لاوعيي، لأنه تكرار غير مقصود. لكن سؤالك يضع أمام عيني تفسيرات مشروعة تماماً. وهو أمر متواتر عند كتابة الرواية، إذ ترد في النص أشياءً لم يفكر فيها الكاتب بصورة واضحة، لكن يبقى مناطها اللاوعي والمستوى الأعمق لعملية الكتابة.

‭< ‬قد‭ ‬أفسر‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الصوتية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تدعم‭ ‬وحدة‭ ‬الرواية،‭ ‬فهي‭ ‬تؤكد‭ ‬وحدة‭ ‬البدايات‭ ‬التي‭ ‬تشي‭ ‬بوحدة‭ ‬النهايات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬عبارة‭ ‬من‭ ‬روايتك‭: ‬وحدة‭ ‬البدايات‭ ‬هي‭ ‬وحدة‭ ‬النهايات‭. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬آلية‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬الثلاث؟

- هي آلية واحدة، طبقتُ فيها جدياً عبارة القديس أوغسطين التي صدَّرتُ بها الرواية : «العالم مثل الإنسان: يولد، ويكبر، ويموت». تعاملتُ مع هذه المقولة على أنها تصف قانوناً كونياً أهم وأقوى من الظروف النفسية التي قد تعتري الشخصيات. وهو قانون مخيف، يقرّ بوجود أسباب السقوط والفناء في قلب الأشياء الدنيوية، بلاحاجة لسبب خارجي طارئ لاستحداث زوالها. وهو ما يبدو لي صحيحاً تماماً. فحين يمضي أي شيء في الانحدار نحو نهايته، يبدو وكأن آلية رهيبة واحدة تأخذ مجراها، لا نملك إيقافها ولا نستطيع معها تحديد العامل المسئول. وهو أمر واضح على مدار التاريخ: فالعملية الطويلة التي تمخضت عن سقوط الإمبراطورية الرومانية والتي لا أكاد أذكرها في روايتي، بدأت بحدث تافه هو حصار ألاريك لروما، لتصل قبائل الفنداليين الجرمانية بعد سبعين عاماً إلى إفريقيا في ما يعد إيذاناً بالسقوط. وكأن الإمبراطوريات تنهار تحت وطأتها الذاتية. تسكنني تلك الخاطرة منذ مدة طويلة، حين طالعتُ البساطة التي تهاوت بها الكتلة السوﭬييتية عام 1989، التي كانت بالنسبة لأبناء جيلي أشبه بناموس كوني، رأيناها تترنح وتسقط وتذهب هباءً. من هنا، وعلى هذا المنوال، نسجتُ فكرة سقوط البار في «موعظة عن سقوط روما»، فهنا حركة عارمة لا قِبل للشخصيات بإيقافها بقدر ما هم غير مسئولين عن إحداثها، كأنهم فيها غثاء السيل أو زبد البحر. ولكي أعبِّر عن ذلك، جعلتُ لأفعال ماتيو وليبرو عواقب تتجاوز إرادتهم أو حتى خواطرهم.

‭< ‬بالفعل،‭ ‬فالبطل‭ ‬يقتل‭ ‬صاحبه‭ ‬لينقذ‭ ‬عدوه،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬حرية‭ ‬الإرادة‭ ‬الفلسفية‭ ‬منتفية‭.‬

- نعم، حرية الإرادة مسألة فلسفية معقدة. لكن بناء التراجيديا يقوم على ضعف الإرادة وعلى شخصيات تتصرف عكس ما تريده، وتتحمل عواقب أفعال لا يسعنا القول بأنهم مسئولون عنها. بالنسبة لي، عند اختيار نسق التحليل، أفضل النسق التراجيدي والنسق الروحاني على النسق السيكولوجي الذي يسعى للتحليل النفسي للشخصيات.

‭< ‬كتبتَ‭ ‬في‭ ‬‮«‬حيث‭ ‬تركتُ‭ ‬روحي‮»‬‭: ‬‮«‬ما‭ ‬من‭ ‬ضحية‭ ‬تجد‭ ‬أدنى‭ ‬غضاضة‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬جلاد،‭ ‬لو‭ ‬تغيرت‭ ‬الظروف‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬تردد،‭ ‬وإن‭ ‬بصورة‭ ‬عامة،‭ ‬المعنى‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬عبارة‭ ‬روائي‭ ‬آخر‭ ‬حائز‭ ‬جائزة‭ ‬جونكور،‭ ‬هو‭ ‬جوناثان‭ ‬ليتل،‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ربات‭ ‬القصاص‮»‬‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ : ‬‮«‬لو‭ ‬نجا‭ ‬اليهود،‭ ‬وانهزمت‭ ‬ألمانيا،‭ ‬فسينسى‭ ‬اليهود‭ ‬معنى‭ ‬كلمة‭ ‬يهودي،‭ ‬وسيتحولون‭ ‬إلى‭ ‬ألمان‮»‬‭. ‬فهل‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬مساحة‭ ‬للتـناص‭ ‬بين‭ ‬الروايتين؟

- نعم ولا ! لأنه ليس تناصاً واعياً لسبب بسيط هو أنني لم أكن قد قرأت «ربات القصاص» عندما كتبت «حيث تركتُ روحي». قرأتها بعد ذلك، وكنتُ قد شرعتُ في قراءتها بشيء من المشاعر السلبية المسبقة، نظراً للدوي الصاخب الذي أحدثته عند صدورها. لكن، رغم العيوب التي قد تشوب أي رواية بهذا العدد الضخم من الصفحات، فقد أسرتني رواية ليتل. ورغم أنني لم أقرأها كما أسلفت وقت كتابة روايتي، فأنا أرى أن ثمة نوعاً من التناص يتجاوز إرادة الكُـتّاب، سببه على الأرجح هو الانتماء إلى الحقبة الزمنية نفسها، والانغماس في الهموم نفسها، والانشغال بالنوع نفسه من التأملات. لذا فكثير مما وجدته في رواية جوناثان ليتل قد لقي هوى في نفسي، ولاسيما تأملاته حول أسئلة الخير والشر والبراءة والإجرام. وكأنه تناص لاإرادي، ولا ضرر في ذلك، لأنه في كل فترة زمنية تكون هناك موضوعات رائجة في الأجواء وتساؤلات مشتركة ماثلة في الألباب، ولعلنا نحن لسنا إلا أدوات للتعبير عنها.

‭< ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ﭬاسيلي‭ ‬جروسمان‭ ‬مثلاً‭ ‬الذي‭ ‬تقمص‭ ‬صوت‭ ‬الضحية‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬ومصير‮»‬،‭ ‬تتحدث‭ ‬أنت‭ ‬وجوناثان‭ ‬ليتل‭ ‬بصوت‭ ‬الجلاد،‭ ‬فأي‭ ‬التوجهيْن‭ ‬هو‭ ‬الأقدر‭ ‬على‭ ‬إدانة‭ ‬الشر؟

- كلاهما يضيء الحقيقة بطريقته. رواية جروسمان نص عظيم، يدهشني فيها نجاحه في ما لا ينجح فيه عادة الروائيون العاديون. إذ يقضي عمل الروائي بأن يغترب عن ذاته لكي يتقمص شخصيات مغايرة لطبيعته أو لمبادئه. فالروائي لا ينطق بلسان حاله. مع ذلك، عند كتابة «حيث تركتُ روحي»، بدا لي أنه من الممكن الانطلاق من وجهة نظر الجلاد استعانةً بالمساحات المظلمة في كوامن الذات، فالشر ليس مستبعدًا تماماً من النفس الإنسانية، ورغم صعوبة الوصول لتلك المساحات، يظل من الممكن استحضارها والتعبير عنها. أما الصدق الذي عبَّر به جروسمان عن وجهة نظر الضحية، فهو لندرته أشبه بمعجزة!

‭< ‬يقول‭ ‬جورج‭ ‬باتاي‭: ‬‮«‬حين‭ ‬تبتعد‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬الشر‭ ‬تصبح‭ ‬مملة‮»‬‭. ‬بالنسبة‭ ‬لك،‭ ‬هل‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬الشر‭ ‬ضرورة‭ ‬روائية،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬نزعة‭ ‬تشاؤمية؟‭    

- في رأيي، ما من ضرورة روائية مطلقة عموماً. فكل رواية تفرض ضروراتها الخاصة. كما أن كل روائي يختار موضوعاته بمنتهى الحرية. بالنسبة لي، يعكس تصوير الشر ضرورة تخصني أنا، وتتوافق في رأيي مع نزعة كاملة إلى الميتافيزيقا، وهي نزعة تحركني سواءً في الفلسفة أو الأدب، مع العلم بأنني لا أعد نفسي متشائماً أبداً. فاعتبار الشر بمنزلة مكون ملازم للطبيعة البشرية لا يبدو لي موقفاً تشاؤمياً بقدر ما هو موقف واقعي.

‭< ‬يقول‭ ‬القائد‭ ‬دوجورس،‭ ‬بطل‭ ‬روايتك‭ ‬الكاره‭ ‬لما‭ ‬تقترفه‭ ‬يداه‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬باسم‭ ‬بلاده‭:  ‬‮«‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬مشوشة‭. ‬فهما‭ ‬يتمازجان‭ ‬حتى‭ ‬ليتعذر‭ ‬التمييز‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬الرتابة‭ ‬الرمادية‭ ‬الكئيبة‭ ‬التي‭ ‬تغشى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وذاك‭ ‬هو‭ ‬الشر‭ ‬بعينه‮»‬‭. ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬يُصعّب‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬الكاتب؟

- كان من الممكن لمهمة الكاتب أن تكون أيسر لو كان بوسعنا أن نصنع كما في الأفلام الأمريكية الضخمة، فنفصل بين الخير والشر، ونميز بينهما تمييزنا بين النور الباهر والظلام الحالك. لكن مع الأسف، لو كانت تلك هي الحقيقة لكان وجه العالم مغايراً لما هو عليه. وبالنسبة للجزائر على وجه الخصوص، بدا لي أنه يستحيل فهم كيف استطاع ضباط من ذوي الماضي المشرِّف أن يمارسوا التعذيب على هذا المستوى المنهجي الموسع إلا إذا فهمنا أنه - بالنسبة لهؤلاء الرجال - لم تكن تلك الممارسات تتراءى لهم مباشرة في هيئة الشر. فلا أحد على هذه البسيطة يستيقظ في الصباح قائلاً لنفسه: «اليوم سأقترف شراً». فكل شيء يتم باسم الخير، أو على الأقل باسم الأقل شراً. وقد استلهمت تلك العبارة من فقرة في رواية «اختيار صوفي» للأديب الأمريكي ويليام ستايرون، وصف فيها الحياة اليومية في المعسكر النازي بأنها لم تكن براقة أو شيطانية، بل كانت كئيبة وباهتة كأنها لوحة بدرجات اللون الرمادي الغائم، حيث لا مجال لتبيُّن العتمة من النور. لذلك، تصبح مهمة الكاتب صعبة للغاية، لأن عليه أن يعبِّر عن هذا الواقع الملتبس المركَّب في كتاباته.

‭< ‬ألهذا‭ ‬السبب‭ ‬يبدو‭ ‬الشر‭ ‬الذي‭ ‬تصفه‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬موعظة‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬روما‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حانة‭ ‬ليبرو‭ ‬وماتيو‭ ‬الصغيرة‭ ‬روتيني‭ ‬الطابع‭ ‬عادي‭ ‬الملامح؟

- نعم، بالفعل! فهو ليس بالشر المستطير المتوهج، إنما هو أشبه برتابة الحياة اليومية المعتادة.

‭< ‬أهذا‭ ‬تجسيد‭ ‬لفكرة‭ ‬اعتيادية‭ ‬الشر‭ ‬كما‭ ‬طرحتها‭ ‬الفيلسوفة‭ ‬حنا‭ ‬أرندت؟

- نعم، بالضبط! هذه طريقة صحيحة لفهم نص حنا أرندت المتميز «آيخـمـان في القدس»، فهي لم تكن تعني أن الشر شيء عادي، وإنما هو يختبئ بالأحرى وراء الأشخاص والمواقف الأكثر تفاهةً وابتذالاً.

‭< ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬وهمي‭ ‬وجهته‭ ‬إلى‭ ‬الروائي‭ ‬الراحل‭ ‬جورج‭ ‬برنانوس،‭ ‬تظاهرت‭ ‬بأنك‭ ‬تعتب‭ ‬عليه‭ ‬تعنُّته‭ ‬في‭ ‬رفض‭ ‬الظلم،‭ ‬واستخدامه‭ ‬عبارات‭ ‬صادمة‭ ‬لإعلان‭ ‬هذا‭ ‬الرفض،‭ ‬ونصحته‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬يحسب‭ ‬حساب‭ ‬ما‭ ‬يقول‮»‬‭. ‬فهل‭ ‬تحسب‭ ‬أنت‭ ‬حساب‭ ‬ما‭ ‬تقول؟‭  

- نعم، ولكن ليس بالمعنى المراد في ذلك الخطاب. فأنا أشعر بمسئولية أخلاقية تجاه كل ما أكتب. فعندما أتناول مثلاً حرب الجزائر، تلك المأساة التي شهدت هذا الكم من القتلى ومن الآلام، فأنا أحرص على ألا أتذاكى أو أستهين بما أحكيه! لكنني في المقابل لا أمارس الرقابة الذاتية، ولا أسعى لكسب استحسان كائن من كان. وأفضل سبيل لذلك هو ألا أفكر في القراء ساعة الكتابة، بل أفكر في ما أكتب. وأعد ذلك مبدأ من مبادئ المهنة.

‭< ‬أنت‭ ‬أيضاً‭ ‬تستخدم‭ ‬عبارات‭ ‬صادمة‭ ‬لرفض‭ ‬الظلم،‭ ‬وصفت‭ ‬بطلتك‭ ‬الفرنسية‭ ‬‮«‬أوريلي‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬قنصلية‭ ‬بلادها‭ ‬بالجزائر‭ ‬بأنها‭ ‬شعرت‭ ‬‮«‬بالعار‭ ‬لكونها‭ ‬فرنسية»؟‭ ‬هل‭ ‬شعرت‭ ‬بهذا‭ ‬العار‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬حياتك؟

- نعم، في قنصلية بلادي في الجزائر، في موقف مماثل لما أحكيه في الرواية، لكنني لم أكن أشعر بالعار لأنني أنا فرنسي، وإنما لكون الشخص الذي كان يتعامل بفظاظة مع المتقدمين لطلب التأشيرة هو الذي كان يجدر به أن يشعر بالخجل وبالعار لإساءته لبلاده، وأن يدرك أنه في موقعه هذا إنما يمثِّل دولة بأكملها. فأنا أمقت تلك الأماكن الصغيرة التي تمارس من خلالها السلطة بمعزل عن أي رقابة أو مراجعة. وأظن أن أي بلد حريص على صورته في الخارج عليه أن يبذل بعض الجهد بهذا الصدد. أتفهَّم أن يتم رفض بعض التأشيرات، لكن ينبغي أن يتم ذلك بطريقة بعيدة كل البعد عن الإهانة والتحقير. فهذا خطأ فادح، أخلاقياً وسياسياً.

‭< ‬‮«‬العالم‭ ‬مثل‭ ‬الإنسان‭: ‬يولد،‭ ‬ويكبر،‭ ‬ويموت‮»‬‭. ‬هل‭ ‬يفلت‭ ‬الأدب‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬مقصلة‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬الصارم؟‭ ‬هل‭ ‬الأدب‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬يتيح‭ ‬خلوداً‭ ‬نسبياً؟

- لا أعتقد! وإن كنتُ لأتمنى ذلك. وتحضرني هنا فكرة عبَّرت عنها حنا أرندت وأتفق معها تماماً، مفادها أن كل ما يمت بصلة إلى عالم الفن يعد خالداً نظرياً، لكنه ليس كذلك عملياً. وربما كانت كتبنا اليوم مكتظة بهموم عصرنا بدرجة تجعلها تزول بزوال عصرنا. لكن نسبياً يمكن القول بأن الأدب قد ينجو ويخلّد. فما كان لمبدع أن يقدم عملاً إبداعياً لو لم يكن يحلم بأن يقبض بيده على شيء يتجاوز به زمانه. لكن لا يملك أحد أن يتنبأ بالمستقبل. فما كان لمجايلي هوميروس أن يعرفوا أن الإلياذة والأوديسا ستنعمان بهذا الخلود. 

‭< ‬في‭ ‬تصورك،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬الخلود؟

- يصعب عليَّ اختيار رواية واحدة. لكن قد أختار رواية «الشياطين» لدوستويفسكي.

‭< ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الحلاج،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬اختياراتك‭ ‬المفضلة‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬العربي؟

- مع الأسف، لا أعرف الكثير عن الأدب العربي. قرأت فقط بعض الشعراء مثل: الحلاج، وابن عربي، والمتنبي، وامرئ القيس، والنفري. وقد اقتبست العبارة التي سأصدر بها روايتي المقبلة من كتاب «الوقفات والمخاطبات» للنفري، يقول فيها: «بين النطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء». عبارة بديعة حقاً.

‭< ‬عبارات‭ ‬النفري‭ ‬كانت‭ ‬شديدة‭ ‬الاختصار،‭ ‬أما‭ ‬عباراتك‭ ‬فطويلة‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬عادية‭. ‬فجملك‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬جمل‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست،‭ ‬مضرب‭ ‬الأمثال‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬العابرة‭ ‬للصفحات‭. ‬كيف‭ ‬تتشكل‭ ‬هذه‭ ‬الجمل‭ ‬‮«‬الفيرارية‮»‬‭ ‬الشديدة‭ ‬الخصوصية؟‭ ‬وعمَّ‭ ‬تعبِّر؟‭ ‬

- بدايةً، لا يعتمد هذا الأمر على الاختيار المسبق، كأن يكون لديَّ عدة خيارات أتبع أكثرها توافقاً مع هواي. فالكاتب يمتـح من مادة عفوية، وإن كانت غير فطرية، فهي مادة تكونت عبر تاريخه ليس كـكاتب وإنما كقارئ، وتعتمد على عملية تَمَثُّل واستيعاب طويلة. صحيح أن جُملي لم تكن يوماً قصيرة، وصحيح أنها تزداد طولاً مع الوقت، بصورة تلقائية. كما أن هناك اعتبارات تفرض نفسها عليَّ. لكي أعطيك مثلاً، في بداية رواية «موعظة عن سقوط روما»، كانت جميع الجمل قصيرة ومقطعة. ولما كنتُ أنقح دائماً نصوصي بإعادة قراءتها بصوت مسموع، فقد قررتُ أن أستخدم الفواصل بدلاً من النقط. وذلك لاعتبارات إيقاعية بحتة. لذلك فقراءة النص بصوت عالٍ مهمة جداً بالنسبة لي. ففي الرواية، كما في سائر الأشكال الإبداعية المتعاملة مع اللغة، يعد الإيقاع وتآلف الأنغام من الأمور البالغة الأهمية، وأسعى دائماً لأن تكون متوافقة مع المحتوى. فمثلاً، في الرواية نفسها، في الفصول الخاصة بمارسيل، أعرض سنوات طويلة وعقودا عديدة في مساحة لا تتخطى بضع صفحات، وكان على شكل الكتابة أن يتوافق مع هذا الوصف الذي يشبه سيلاً مسترسلاً، حيث تتسلسل الأحداث سراعاً. وأكثر ما أجتهد فيه وأواجه لأجله كثيرًا من العنت عند كتابة الرواية هو إحكام الطريقة التي يسترسل بها السرد بصورة انسيابية لا انقطاع فيها، والمرة الأولى التي أصبت فيها نجاحاً في تحقيق ذلك، بصورة تامة، بل بالصورة الأتم والأمثل على مستوى كل رواياتي، فكانت في رواية «إله وحيوان». فنظراً لأنه لم يكن بها أي وقفات من البداية إلى النهاية، كان عليَّ أن أقوم بعملية أشبه بالنسج على مستوى السرد، لكي تتم المراوحة بين زمن وآخر وبين شخصية وأخرى، من دون أن يشعر القارئ بأدنى انقطاع. ولم يكن ذلك ليتسنى لي إلا عبر الجملة الطويلة، التي تجعل من السرد نسيجاً أملس لا تفاوت فيه. وقد لجأت لأفكار عديدة لتحقيق ذلك، لكن أصعب جزء كان أثناء وصفي لتعذيب الحلاج حين كان عليَّ أن أراوح بين عراق اليوم وعراق القرن الرابع الهجري.

‭< ‬وهل‭ ‬عليك‭ ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬المنافي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬مرفأ‭ ‬للإبداع؟‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬كورسيكا‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭ ‬وأخيراً‭ ‬أبوظبي،‭ ‬ماذا‭ ‬اكتسبت‭ ‬من‭ ‬الترحال؟‭                     

- كان لأسفاري أثرٌ عظيم في حياتي، ولاسيما إقامتي بالجزائر. فقد أكسبتني انفتاحاً حقيقياً على العالم كان له أثر عميق في كل ما كتبت من بعد. كما منحتني تجربة أعتز بها كثيراً، يصعب عليّ وصفها، إذ هي ليست محض تبديل عوالم بقدر ما هي الوصول إلى أماكن أتفاعل معها بقدر ما أبقى غريباً عنها. وأعتقد أن وضعية الوجود داخل مكان وخارجه في الوقت نفسه تساعد على اتساع الرؤية. إذ لا يتأتى ثراء التجربة بتقليد الآخر الذي أحل عليه ضيفاً أو بالذوبان فيه، بل بالتقارب معه والتفاعل معه. هكذا تغيرت كتابتي بعد إقامتي بالجزائر. ولحسن حظي أن مصادفات حياتي المهنية قد رمت بي إلى بلدان لم أحلم أبداً بزيارتها، الأمر الذي جعلني أصل إليها بغير رغبات أو توقـــعـــات مسبقة، وهو أمــــر ضـــــروري للكاتب، لأنه يمنحه نظرة بكر وبصيرة ثاقبة. أعد ذلك الموقف من أدبيات مهنة الكاتب، وعليه أن يطبقه حتى لو كان يعيش في بلده. فكتابة الرواية هي اغتراب الذات عن الذات، وإلا كان نتاج الكتابة مذكرات أو يوميات.

‭< ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬أم‭ ‬تدريس‭ ‬الفلسفة‭.. ‬أيهما‭ ‬أقدر‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬في‭ ‬روايتك‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬غباء‭ ‬العالم»؟

- لا أرى لأي من الاثنين تأثيراً فعلياً على النسيج العميق للمجتمع. فهما لا ينتميان إلى النشاطات الأكثر توافقاً مع أبجديات عالمنا المعاصر أو شعاراته الأكثر رواجاً. فهما يشغلان فئة محدودة من الناس...

‭< ‬فهل‭ ‬بِتَّ‭ ‬ترى،‭ ‬مثل‭ ‬بطل‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬ليبرو‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هجر‭ ‬دراسة‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬‮«‬السوربون‮»‬‭ ‬ليدير‭ ‬حانة‭ ‬في‭ ‬كورسيكا،‭ ‬أن‭ ‬الفلسفة‭ ‬عُملة‭ ‬فقدت‭ ‬قيمتها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم؟

- نعم ولا، فقد يشعر المشتغل بالفسلفة أو بالأدب أنه سائر ضد التيار. لكن على عكس ليبرو، لا يصيبني هذا الوضع بالضيق ولا بالحزن. فأنا على يقين بأن الفلسفة والأدب لم يكونا في يوم من الأيام أموراً يتشاطرها سواد الناس. فلقد كانا دوما من الأنشطة المستترة. وما تغير اليوم، هو أنهما قد صارا في أسفل سلَّم نشاطات البشر. لكن ذلك لا يهمني ولا يحزنني. بل أنا في تمام الرضا.

‭< ‬حين‭ ‬سُئل‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬عما‭ ‬تعنيه‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬بعد‭ ‬عشرة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬تلقيها،‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬نسيها‭. ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬لجائزة‭ ‬جونكور‭ ‬أن‭ ‬تُنسى؟

- اللحظة التي مُنحتُ فيها الـ«جونكور»، لن أنساها أبداً. هذا أكيد. لكن الناس قد ينسون الفائز بالجائزة بمنتهى البساطة. إذ يجدر إرجاع الأمور إلى نصابها، فالجائزة فرحة عارمة، وحدثٌ مشهود، ورواج في مبيعات الكتاب، وبوابة إلى الترجمة، لكنها أيضاً تكريم لحظي يسديه بشر ليسوا بعرَّافين ولا هم بأرباب الأولمب الأدبي المخلدين. لذا لا أجد سبباً لعدم احتفاظ صاحبها بقدميه على الأرض .