الكنز المنسي في التعريب العلمي
يتذمر كثير من الدارسين والباحثين العرب مما يسمونه زورًا وبهتانًا «ضعف» اللغة العربية، ويتهمونها بالعجز والقصور، خاصة في مواكبة العلم الحديث والتطور السريع وصعوبة التعبير وقلة ملاءمتها للاختصار والاشتقاق العلمي، مقارنة مع اللغات اللاتينية. ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، مطالبًا باستبدالها بلغة أجنبية وجعل تلك اللغة لغة التدريس في الجامعات والمدارس العربية، ضاربين عرض الحائط بتاريخ اللغة العربية الناصع وقوتها ومرونتها، حالهم في ذلك كحال من يدعو إلى استعارة لباس جاره أو أدوات طبخه لبُرهةٍ من الزمن، ثم البحث عن مصدر آخر، أو كمن يُطعم الجائع مرة دون أن يُعلمه الصيد ليشبعه مرارًا.
أقل ما يقال عن تلك التهم إنها منحازة وبعيدة كل البعد عن المنطق والتفكير السليم لعدة أسباب.
أولًا، لا أحد ينكر أهمية إتقان لغة أخرى، مهما كانت تلك اللغة، جنبًا إلى جنب مع اللغة الأم وإن لم يكن لشيء إلا للفضول والتفاهم مع إنسان آخر فهو أمر كافٍ. إلا أن إتقان لغة جديدة يتعدى مستوى الفضول إلى إيجابيات أخرى كثيرة. فتعلم لغة جديدة هو بمنزلة «اكتساب شخصية جديدة»، وطريقة تفكير جديدة تثري وتغني صاحبها عندما يحسن استثمارها بالقراءة والاطلاع على ثقافات أخرى للانفتاح والخبرة. لكن هناك بونا شاسعا بين إتقان لغة، مع اللغة الأم، والدعوة إلى استبدال اللغة الأم بأخرى تحت ذرائع وهمية ليس لها من الموضوعية أي مرتكز علمي أو تاريخي. فاللغات في نهاية المطاف هي مهارات وليست مُستعارات أو مُستهلكات تُستورد وتستهلك لفترة، ثم تُرمى إذا توافر منتج آخر بديل.
ثانيًا، اللغة هي أداة مرنة، وضعفها وقوتها هما انعكاس لقوة أو ضعف أصحابها ومجتمعاتها. ورغم أن بعض اللغات توصف أحيانًا بأنها «لغات حية»، فإن اللغة في حد ذاتها ليست «كائنًا حيًا» مستقلًا عن الإنسان وليس له الخيار أن يكون ضعيفًا أو قويًا، مناسبًا أو غير مناسب للتعبير عن خلجات النفس أو منجزات العلم. وليس للغة أن تقرر أن تكون سهلة أو صعبة، منتشرة أو أقل انتشارًا، وإنما هي وسيلة تواصل تستمد قوتها وتأثيرها من قوة وتأثير من يتحدث بها ويستخدمها في كل شئونه وأغراضه. وغالبًا ما يكون مصدر شيوع لغة واستخدامها هو ثالوث القوى التالية: السياسية والاقتصادية والعلمية معًا. ولهذا السبب نجد أحيانًا أن بعض اللغات يتحدث بها كثير من الناس، ولكنها ضعيفة الانتشار خارج حدود بلدها بسبب ضعف المجتمع الذي يتحدث بها، سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا. وقد لخص ابن خلدون هذه الحقيقة في مقدمته قائلًا: «المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده...» فيضفي عليه كثيرا من الصفات المثالية إلى درجة اتباعه في كل شيء، في لغته وملبسه ومأكله ومشربه، ليتبنى كل ما يأتيه من المتبوع بما في ذلك اللغة. ومن الأمثلة على هذا التقليد، يمكن ذكر مثال بسيط جدًا يقع فيه كثيرا من المتراسلين العرب في ما بينهم تقليدًا لما تعلموه من غير لغات، ظنًا منهم أنه الأسلوب الصحيح، وهو استهلال التخاطب بكلمة «عزيزي فلان» (Dear…)، حتى أصبحت كلمة «عزيزي» بديلًا للتحية أو السلام في مستهل كل رسالة أو بريد إلكتروني. هذا طبعًا عدا عن التراسل باللغة الإنجليزية كنوع من التباهي أو علو المقام والشأن.
ثالثًا، صعوبة لغة أو سهولتها هي أمر نسبي يختلف باختلاف الشخص والمجتمع، وبالتالي فاللغة، أي لغة، بريئة من أي تهمة تُلصق بها أو تحط من شأنها، لأنه ليس هناك مقياس حيادي أو موضوعي، أو حتى مادي، لتحديد درجة صعوبة أو سهولة لغة ما. فاللغة ليست جسمًا طبيعيًا ذا أبعاد وحجوم قابلًا للقياس أو الوزن أو المقارنة، وإنما هي وسيلة اتصال مطواعة ومرنة بالدرجة التي يريدها لها مجتمعها والحريصون عليها. ولو كانت بعض اللغات أصعب من غيرها لما احتلت اليابان وكوريا الجنوبية - حيث تُوصف لغاتها بالصعوبة - مراكز متقدمة في التطور العلمي، رغم صغر مساحتيهما وقلة مواردهما وعدد سكانهما مقارنة مع أمم أخرى أكثر عددًا وأغنى موارد. وهذا لا يعني طبعًا إنكار وجود فروقات بين اللغات المختلفة، ولكن تلك الفروقات لا تعني بالضرورة صعوبة أو سهولة لغة ما بالنسبة لأخرى، بقدر ما تعني اختلاف درجة إتقان اللغة بين شخص وآخر. فمن يتقن لغة ما قد يجدها سهلة ومن لا يتقنها قد يجدها صعبة وهكذا، تمامًا كما هي الحال بالنسبة لأي نشاط إنساني آخر، كالسباحة مثلًا أو ركوب الدراجة... فمن لا يتقن السباحة يَهابُها ومن لا يتقن ركوب الدراجة يُعيبُها.
ما الدليل على ملاءمة اللغة العربية للمصطلحات العلمية؟
اللغات هي آيات من دلائل إبداع الخالق {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}، (سورة الروم/ 22). وإن كان لا بد من وجود لغة مفضلة على بقية اللغات وتستوجب دون غيرها التعلم والنطق والإتقان، فلابد أن تكون إحدى اللغات التي اصطفاها الباري عزّ وجلّ سجلًا لكلامه وبيانًا لكتبه ورسالاته ومن بينها وعلى رأسها اللغة العربية، لغة الرسالة الخاتمة. ولكن غايتنا هنا ليست حول تفضيل لغة ما على أخرى (لأن كل اللغات هي آيات ربانية)، وإنما عن مدى مطواعية اللغة العربية ومرونتها وقدرتها على مواكبة العلم الحديث بما لا يتعارض مع تعلُّم لغات أخرى، لأن اللغة العربية هي لغة اشتقاق وترميز علمي بامتياز، وفي ما يلي الدليل.
يزخر القرآن الكريم كما هو معلوم بكلمات رمزية كثيرة تُستهل بها بعض السور القرآنية مثل «الم»، «المص»، «الر»، «المر»، «كهيعص»، «طسم»، «حم»، «المر»، «حم»، «عسق» وحروف أخرى هي أسماء لسور مثل «ق» و«ص». وقد اختلفت الآراء والتفاسير حول معاني هذه الكلمات ودلالاتها اللغوية والعلمية دون أن يعلم أحد ما المقصود منها بالضبط. لكن، وبغضّ النظر عن المعنى الحقيقي لهذه التعابير، فإنها تعكس صفة مهمة جدًا من صفات اللغة العربية، والتي يغفل عنها كثير من المهتمين والباحثين، وهي صفة الاختصار والمصطلح العلمي الذي يمكن اعتماده في مختلف المجالات العلمية والأدبية، استنادًا إلى ما هو وارد في القرآن الكريم، وهو الكتاب الحاضن للغة العربية والمرجع الأول والأخير لها.
فلو سألنا مثلًا إنسانًا عربيًا سؤالًا عامًا مبهمًا عن كلمة «كهيعص» (وهي مستهل سورة مريم)، فسنكون أمام أحد الاحتمالات التالية: إن كان ذلك المسئول قارئًا إلى حد ما، فهناك احتمال أن يجيب بأنها كلمة وردت في القرآن الكريم. وإن كان مثقفًا بدرجة أعلى قليلًا، فسيقول إنها كلمة في القرآن الكريم في سورة مريم. وإن كان أعلى ثقافة مما سبق، فسيقول إنها كلمة في القرآن الكريم تبدأ بها سورة مريم ونزلت في سنة كذا، مكية أو مدنية، وأن معناها الحقيقي لا يعلمه إلا قليل. إذن، تبعًا للمستوى المعرفي للشخص، ودرجة اهتمامه وتخصصه يمكنه أن يربط مباشرة بين الكلمة الرمزية ودلالتها المكانية والزمانية والسياقية، كما هي الحال في الكلمات الرمزية الواردة في أكثر من مكان في سور القرآن. زد على ذلك، فإن السور التي تبدأ بكلمات رمزية أو حروف، تعرف أيضًا باسم الكلمة الرمزية أو الحرف الذي تبدأ به. فسورة الشعراء مثلًا تعرف أيضًا باسم «سورة طسم»، وسورة القلم تعرف أيضًا بسورة «نون» إلخ، عدا عن السور التي تعرف صراحة بحرف واحد فقط مثل سورتي (ق) و(ص). إن قراءة وترتيل هذه الكلمات مرارًا يجعلها شائعة ومعروفة الدلالة للقارئ والسامع.
الأمر نفسه يمكن أن ينطبق تمامًا على كلمات علمية تُشتق من جمل أو عبارات مترجمة، يستطيع من خلالها الدارس أن يربط مباشرة بينها وبين المعنى الحقيقي للجملة التي اشتقت منها، فتكون بذلك مصطلحًا علميًا يمكن اعتماده في الأوساط العلمية العربية المتخصصة، مهما كانت غرابته أو صعوبته في بداية الأمر، لأن التكرار كفيل بترويضه لاحقًا لمن يقرؤه أو يسمعه مرارًا.
إن الكلمات المختصرة أو الرمزية في بدايات السور القرآنية لهي إذن دليل ناجع وبرهان قاطع على إمكان الاختصار والتشفير العلمي في اللغة العربية، أيًا كان المجال وأيًا كان اللفظ غريبًا على السامع على غرار ما هو وارد في بعض كلمِ القرآن. فليس هناك أقل اختصارًا من حرف واحد كحروف بعض السور (ق) و(ص)، أو ألغز ترميزًا من «كهيعص»، «طسم»،...الخ. فهذه الكلمات قد تشبه، شكلًا لا مضمونًا، كلمات قد تشتق من ضم أوائل الحروف في جمل علمية مترجمة لتصبح مصطلحات علمية معتمدة. فلو أخذنا مثلًا أي مصطلح عربي، وجمعنا أوائل حروفه يمكن أن نحصل على كلمات مشابهة من حيث اللفظ والشكل فقط، لا من حيث المضمون والدلالة، مما يدل على إمكان الترميز في اللغة العربية للمختصين، والذين سيتعرفون على دلالات الرمز الذي يشتقونه ويتداولونه كلٌ في مجال عمله.
من الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق، كلمة DNA المعرّبة في كثير من المراجع العربية بـ «دنا» اعتمادًا على اختصاره باللغة الإنجليزية DNA المشتقة من العبارة الإنجليزية Deoxy ribo Nucleic Acid، وهناك أيضًا الحمض النووي الريبي (RNA) والذي يرمز له (RiboNucleic Acid) المعرب بـ «رنا».
إن الترجمة العربية الحرفية لـ (DNA) بصيغته الطويلة هي «الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين» ولكن المتداول في كثير من المراجع العربية هو تعريب الاختصار بـ «دنا» وليس اختصار التعريب كما هو واضح. والسؤال المطروح بداهة: لماذا لا يتم اختصار التعريب من النص العربي بدلًا من تعريب الاختصار الأجنبي كما في كلمة «دنا»؟
إن ثقل وغرابة الكلمات المختصرة أو المشتقة عربيًا قد يثيران استغراب القارئ العادي أو حتى المختص نفسه عند أول وهلة، لأنه غير متعود على سماعها بالتواتر نفسه الذي يسمعها به في محيطه المهني، علمًا بأن اختصار التعريب أو اشتقاق مصطلح علمي جديد قد ينتج عنه كلمات على غرار «طسم» أو «كهيعص»، مما يؤكد إمكان المصطلح أو الترميز العلمي في اللغة العربية بحيث يفهمه المتخصصون كل في مجال اختصاصه. فعند تطبيق هذا المبدأ مثلًا من أوائل حروف الترجمة السابقة
لـDNA سنحصل على كلمة «حرما» («حمض ريبي منقوص الأكسجين») كبديل لكلمة «دنا». لا شك في أن كلمة «حرما» تبدو غريبة جدًا لي وللقارئ، لكن لو تداولناها مرارًا وتكرارًا لزالت غرابتها وأصبح مجرد لفظها يذكرنا بتلك المادة الوراثية الموجودة في أنوية الخلايا الحية المعروفة بـ DNA باللغة الإنجليزية. قد يقول قائل إن كلمة «DNA» كلمة شائعة عالميًا، وهذا صحيح، لكن ذلك لا يتعارض ألبتة مع وجود مرادف عربي لهذا المصطلح. من بين المرادفات الأخرى لكلمة DNA والتي يمكن برأيي أن تفي بالغرض تمامًا، أفضل من كلمة «دنا»، هي مصطلح «الحمض الوراثي» للدلالة على الـ (DNA) وكلمة «الحمض التعبيري أو الحمض المُعبّر» للدلالة على الحمض النووي الريبي (RNA) المعرب
بـ «رنا». فالأحماض بخصائصها المختلفة هي أحماض كيميائية، أما الحمض الوراثي فهو أحماض الذي يحمل الصفات الوراثية وينتقل من جيل إلى جيل، وبالتالي فإن اعتماد كلمة «الحمض الوراثي» بدلًا من كلمة «دنا» تبدو لي أكثر دلالة علميًا ولفظيًا وتفي بالغرض المطلوب تمامًا مع سلاسة اللفظ ووضوح المعنى. في بعض المراجع نجد عبارة «الحمض النووي» للتعبير عن الـ (DNA)، ولكن هذه العبارة غير دقيقة تمامًا لأن الحمض الآخر (RNA) هو حمض نووي أيضًا، وبالتالي فإن مصطلح الحمض النووي غير دقيق لأنه يقود إلى الإبهام والالتباس بين الحمضين، بينما تعبير «الحمض الوراثي» يعبر بدقة أكثر عن طبيعة وخصائص هذا الحمض ويميزه عن الحمض الآخر (RNA) والذي ينتج عن تعبير الحمض الأول ومنه يمكن تسميته «الحمض المعبر» أو «الحمض التعبيري» بدل الـ«رنا».
وفي سياقات أخرى، يمكن أن ينتج عن اشتقاق أو ترميز المصطلحات العلمية كلمات جديدة تبدو أكثر غرابة لفظًا ورسمًا ومعنىً، وهذا أمر طبيعي لكل ما هو جديد، ولكن الغرابة ستزول بالتداول والاستخدام ويصبح اللفظ مألوفًا ولحنه على الأذن مقبولًا مع الوقت والتكرار. وهذا شائع حتى في اللغة الإنجليزية والأمثلة أكثر من أن تحصى
(…Apple, Orange) وتعني (برتقال، تفاح) تباعًا، و(Airbus) وتعني (باص هوائي أو باص يسير في الهواء) وقد أصبحت أسماءً شائعة وذائعة الصيت لعلامات تجارية شهيرة في عالم الصناعة والتقنية وكلمات Hotdog (كلب حار أو سجق الكلب الساخن) Sandwitch, كأسماء شائعة لمأكولات جديدة رغم أن المعاني الأصلية لهذه الكلمات غريبة في اللغة الإنجليزية نفسها كما هو واضح، لكن لفظها أصبح يقود السامع مباشرة إلى المادة المستخدمة أو المستهلكة وليس إلى المعنى الأصلي للكلمة. هناك أمثلة أخرى أكثر غرابة في اللغة الإنجليزية عن معان أصلية منسية تقريبًا لمصلحة المعنى الحالي لأنه يتم الربط المباشر في وعي السامع بين اللفظ والمادة المقصودة منه دون التفكير بغرابة المصطلح عند اشتقاقه أو سماعه لأول وهلة. الأمر نفسه ينطبق على أي مصطلح في أي لغة بما فيها العربية. فتكرار الشيء هو الذي يعطيه القبول والشيوع.
على من تقع مسئولية دعم اللغة العربية كلغة علم؟
هناك مسئولية كبيرة تقع على عاتق الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الحكومية العامة والخاصة والمدارس ووسائل الإعلام العربية المقروءة والمسموعة والمرئية لأخذ زمام المبادرة وتبني طريقة الاشتقاق والاصطلاح العلمي واستخدامهما على نحو واسع ومتواصل لتكريسها لدى السامع والقارئ. وبغض النظر عن هذه المرونة اللغوية، يمكن القول لمن قد لا يحبذ فكرة الاختصار والترميز باللغة العربية ويفضل استخدام الاختصارات الأجنبية، إنه حتى في اللغة الإنجليزية الرسمية، فإن المجلات العلمية المحكمة تطالب كتّابها بضرورة تفادي الاختصارات ما أمكن، إلا إذا كان الاختصار فعلًا شائعًا على نطاق واسع ومفهوم من قبل الغالبية العظمى من الجمهور. وهذا ما يؤكد أيضًا على خيار آخر وهو إمكان استخدام الكلمات العربية المعربة كاملة أو المترجمة دون اختصار، حتى وإن بدت طويلة، لكنها ستكون على الأقل واضحة لإزالة أي لبس أو غموض.
ماذا يمكن فعله لدعم اللغة العربية بشكل عام؟
تتميز بعض البلدان العربية بالقوة الاقتصادية والموارد الطبيعية الهائلة التي تُمكّنها من فرض شروطها ونشر ثقافتها ولغتها في كل أصقاع الأرض. لكن هناك تقصيرا واضحا من قبل الحكومات والهيئات والمؤسسات العلمية العربية في عدم سن إجراءات من شأنها نشر وتكريس اللغة العربية في الداخل والخارج، علمًا بأن ذلك لا يتطلب الكثير من الجهد والوقت، وإنما إجراءات بسيطة وغير مكلفة للمؤسسات العربية، كفيلة بأن تساهم بشكل فعال في تنشيط تعلم اللغة العربية ونشرها شرقًا وغربًا. من أهم هذه الإجراءات على سبيل المثال اشتراط إتقان، أو على الأقل الإلمام إلمامًا مقبولًا باللغة العربية لمن يريد أن يأتي للعمل في إحدى البلاد العربية، كما تفعل كثير من البلدان التي تحترم لغاتها وثقافاتها وتحرص على حمايتها ونشرها.
لقد حبا الله الأرض العربية بخيرات كثيرة، ليس أقلها الشمس والدفء والموارد الطبيعية، تجعلها مهوى كثير من الناس، ولن يمانع معظم الراغبين في العمل في الدول العربية في تعلم اللغة العربية قبل أو بعد مجيئهم إليها، وخاصة أنهم غالبًا محظوظون برواتب مجزية وخدمات ترفيهية لا يجدونها حتى في بلدانهم الأصلية. فلو اشترطت مثلًا الهيئات والمؤسسات العربية على كل من يريد العمل فيها الإلمام باللغة العربية لسارع كل من سيأتي إلى البلاد العربية إلى بذل أقصى الجهود لتعلم لغة الضاد ونشر الثقافة العربية على نطاق واسع. وكنتيجة لذلك سنرى أيضًا معاهد تعليم اللغة العربية تتكاثر في البلدان الأجنبية لتعليم اللغة العربية، مع كل ما يرافق ذلك من تلاقح ثقافي وعلمي وإنساني يساهم في فهم الثقافة العربية وخصوصيات المجتمع الذي سيأتون إليه، وهذا أحرى أيضًا باحترام عادات وتقاليد مجتمعاتهم الجديدة.
كثير من الدول التي تحترم لغاتها وثقافتها تشترط اختبارات إتقان لغة البلد قبل الموافقة على إصدار تأشيرة العمل والإقامة أو الدراسة، فلماذا لا تطبق الدول العربية المبدأ نفسه، على الأقل في الوسط العلمي والثقافي، علمًا بأن المزايا والخدمات والرواتب التي تقدمها بعض الدول العربية للأجانب مغرية تجعل من تعلم اللغة العربية شرطًا لا يُذكر مقابل المزايا الكثيرة التي يحصلون عليها، بما في ذلك الإعفاء من الضرائب على الدخل والتي لا يكاد يخلو منها بلد أجنبي، في حين يعفى منها العاملون الأجانب في الدول العربية ممن يتقاضون رواتب عالية.
هناك ميزة أخرى لاشتراط تعلم اللغة العربية لمن يريد الإقامة والعمل في بلد عربي ما، وهي رفع المستوى المعرفي والعلمي للعمالة الوافدة، بغض النظر عن بعض متطلبات بعض المهن، لأن اشتراط تعلم اللغة العربية يقتضي أن يكون العامل متعلمًا في بلده وليس أميًا، وهذا سيرفع من نوعية العمالة القادمة ومستوى العاملين، بغض النظر عن الحالات الإنسانية والخاصة التي ينبغي عدم الوقوف عند حاجز اللغة أمامها.
أليس مستغربًا أن كثيرا من الأجانب والعمال الوافدين إلى البلدان العربية لا يتقنون من العربية إلا بعض أسماء بعض الوجبات الغذائية حتى وإن أقاموا فيها سنين طويلة؟ أليس غريبًا أن المجتمعات العربية مُتَأثِرة وليست مُؤثرة رغم الغنى والقوة الاقتصادية التي تمتلكها؟ من المفارقة الغريبة أن الوافدين إلى البلدان العربية هم من يُؤثرون فيها لغويًا وحضاريًا وعلميًا، رغم أن المنطق السليم يقتضي العكس، كما هي الحال في بقية الدول، حيث يتأثر المهاجر إليها بالمجتمع من حوله ويضطر إلى تعلم لغته وعاداته، في حين يحدث العكس في البلاد العربية، حيث يضطر ابن البلد الأصلي إلى تعلم لغة المهاجر إليه وبعض عاداته، وهذا تناقض صارخ لا يوجد إلا في البلدان العربية، دون الحديث طبعًا عن درجة التشوه اللغوي الذي يرافق ذلك على كل المستويات تقريبًا.
عمومًا، يمكن تلخيص بعض إيجابيات الإلمام باللغة العربية كشرط لمن يرغب في العمل في البلاد العربية بما يلي:
< تنشيط تعلم اللغة العربية في العالم، من خلال فتح معاهد لتعليمها في البلدان الأجنبية لتحضير الراغبين إلى القدوم والإقامة في البلدان العربية.
< ازدياد عدد المتحدثين والمتقنين للغة العربية في العالم.
< زيادة الاعتبار والقيمة المضافة للغة العربية كلغة دولية (إن لم يعطِ العرب قيمة للغتهم فمن يعطيها إذن؟).
< سهولة اندماج المتعلم للغة العربية في محيط عمله الجديد وتسهيل احترامه للقوانين والعادات المحلية والاستفادة من العادات والتقاليد العربية بما يساهم في نقل صورة إيجابية عن المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه.
< التعرف عن كثب على الإسلام وعظمته وسماحته من مصادره الموثوقة بعيدًا عن كل الاعتبارات الأخرى.
وللوصول إلى هذه النتائج، لابد من إرادة وتصميم وعزم على التطبيق، كما يقول الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
خاتمة
إن أهمية وقدرة اللغة العربية على استيعاب المختصرات والمصطلحات العلمية لا يمكن إنكارها بالنظر إلى ما هو موجود في القرآن الكريم من ترميز واختصار يمكن الاقتداء به، لكن إمكان تبني الاختصارات الجديدة يعتمد كثيرًا على مدى استخدامها وتكرارها بغض النظر عن غرابتها أو وقعها على الأذن عند سماعها للوهلة الأولى. والشواهد على ذلك كثيرة من القرآن العظيم، إذ تبتدئ سور كثيرة برموز أو اختصارات أصبحت مرادفة لأسماء تلك السور، وفور ذكر تلك الاختصارات يستطيع القارئ التعرف عليها وإرجاعها إلى سياقها المناسب. وهكذا، يمكن اعتماد طريقة مشابهة لطريقة الترميز القرآني للاشتقاق وتسمية المصطلحات العلمية, حيث يستطيع الدارس والمهتم إرجاع المصطلح الجديد إلى سياقه العلمي فور سماعه أو الحديث عنه. وأي غرابة أو دهشة ستزول بعد أن تتعود الأذن على اللفظ مع التكرار والتداول حتى تصبح مفردات شائعة ومقبولة مثلها مثل أي مفردة أخرى, وجزءًا لا يتجزأ من مفردات أو مصطلحات العلم العربي في كل زمان ومكان .