في المسألة الأرمنية.. الاستقلال والتحولات الجيوسياسية

في المسألة الأرمنية.. الاستقلال والتحولات الجيوسياسية

بمناسبة إحياء «ذكرى الإبادة» كعنوان جامع لصفوف الشعب الأرمني تاريخيًا، تلتئم الأحزاب الأرمنية في شهر أبريل من كل عام، لتجديد طرح المسألة الأرمنية على المنابر العالمية وعلى الضمير العالمي على حد سواء. وفي هذا الإطار يأتي كتاب د. دعد بوملهب عطاالله للتنوير على المسألة الأرمنية في النظام الدولي المعاصر، إن من الناحية التاريخية، أو من الناحية الجيوسياسية. 

ذلك أن معرفة عناصر وتطورات البحث فيها، ليست بالأمر السهل لمن لا يتمكن من اللغتين التركية والأرمنية. والحماسة للغوص في موضوع لم يسبق الخوض فيه عند الباحثين العرب، هي ما يميز هذا البحث. فالكتابة فيه باللغة العربية نادرة للغاية، على الرغم من حجم الأبعاد الجيوسياسية الإقليمية والدولية للمسألة الأرمنية، والتي تترك آثارها البالغة في المحيطين العربي والدولي، بعدما أصبح لأرمن الشتات وطأة شديدة في البلدان التي نزحوا أو هاجروا إليها، بحيث أصبحت المسألة الأرمنية في محيطها الإقليمي وفي العالم أكثر تعقيدًا.
يتحدث الباحث عن محايثة المسألة الأرمنية من النظام الأوربي، إلى النظام العالمي. وقد شكل ذلك الفصل الأول من كتابه الأثير. وهو يقول في مطلعه، إن هذه المسألة عبرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأخير من القرن العشرين، ما أسماه التحول الأساسي على الساحة الدولية، والمتمثل في عبور الشئون الدولية الكبرى من الإطار الأوربي إلى الإطار العالمي في ظل المعادلات الدولية. وتلازمت المسألة الأرمنية في ظهورها العلني أولًا فأولاً، مع ظهور نظام التوازن الأوربي أو الوفاق الأوربي، الذي نشأ عن مؤتمر فيينا في أوائل القرن التاسع عشر، وكذلك عبر نظام فرساي وعصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، ونظام يالطا والثنائية القطبية بعيد الحرب العالمية الثانية. وقراءة معاهدة «سان ستيفانو» ضرورية جدًا لفهم المسألة الأرمنية في حدودها المعاصرة. إذ توضح لنا ما بات يعرف بالمسألة الشرقية، منذ أن احتل الروس بعض الأراضي الأرمنية، عقب الحرب الروسية - العثمانية التي سبقت المعاهدة.

بين العلاقات الأوربية والعثمانية
ويتحدث الباحث عن تاريخانية وقوع أرمينيا في الإطار العثماني بالقرب من روسيا وأثره البالغ في المسألة الأرمنية في جميع المراحل التي تتالت فصولًا. وبسبب الانتماء الديني، باتت المسألة الأرمنية في صلب العلاقات الأوربية - العثمانية. أما تموضع الأرمن في الإقليم، فقد أدخلهم في نطاق النزاعات الدولية، حيث يريد الروس الوصول إلى البحر المتوسط بأقصر السبل، وحيث إن الدول الأوربية، تريد أن تشاطر العثمانيين السلطة عليهم. فضلا عن ظهور النفط في بحر قزوين على حدود أذربيجان، وما بين الأرمن والأذربيجانيين من حروب عرقية وطائفية، يحتشد خلفها، الروس والعثمانيون والأوربيون.
ولعل معظم المعاهدات والمواقف الدولية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كانت تصب بمجملها في مصلحة الأرمن ومطالبهم التي كانوا ينادون بها. غير أن اندلاع الحرب العالمية الأولى، تسبب بسقوط النظام الدولي الذي كان قائمًا، وهو نظام «الوفاق الأوربي» الذي كان يرعى مصالح الأرمن لدى العثمانيين، ما جعل المسألة الأرمنية تتفاعل مباشرة مع هذه الحرب وتخضعها - بالتالي - للنظام الدولي الجديد الذي جعل أرمينيا، أصغر جمهورية في النظام السوفييتي، وجعل المسألة الأرمنية طللًا يندبه الشعب الأرمني المؤمن بقضيته وبمطالبه التي ينادي بها. فأسقطت معاهدة لوزان ما حققته المسألة الأرمنية في معاهدة سيفر عام 1920 من اعتراف دولي بالدولة الأرمنية المستقلة. ويقول الباحث: «إن الدول الكبرى باتت لا مستعدة للوفاء بتعهدات لم تعد تدخل في صلب مصالحها». ولهذا ربما لم تأت معاهدة لوزان 23 (يوليو/تموز) 1923 على ذكر المسألة الأرمنية التي أصبح لها شقان: الأول مسألة اللاجئين الأرمن والثاني أرمينيا السوفييتية. ونتج عن الأول، انتشار أرمني غطى عددًا من الدول. أما الثاني، فتمثل في الجمهورية الأرمنية - السوفييتية، التي لم تقدر على استيعاب المسألة.
ويتحدث الباحث عما أسماه: «السَّوفتة والكيان الأرمني» في الفصل الثاني. ففي أواخر العام 1920 نشأت جمهورية أرمينيا السوفييتية، ولم يلق المعارضون الطاشناق أذنًا صاغية للاستقلال، كما سائر الشعوب القوقازية. وقد ظلت عضوًا في الاتحاد القوقازي حتى العام 1936، حين غدت جمهورية سوفييتية قائمة بذاتها، لا تتجاوز مساحتها 30 ألف كلم2، فكانت بذلك أصغر جمهورية سوفييتية مساحة. وقد تعرضت الجغرافيا لتعديلات تأثير المصالح فيها، فأرغم الأرمن على التنازل عن «قارص» و«أرضهان» و«ناخيتشيفان» لمصلحة تركيا وأذربيجان لخسارتهم الحرب. وإذ سلّم الروس بحق الأرمن بمنطقة «زانكيزور»، فإنهم خسروا منطقة «كاراباخ»، وذلك بعد توقيع معاهدة «موسكو» (16 مارس / آذار 1921) بين الاتحاد السوفييتي وتركيا، ومعاهدة «قارص» (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1921) بين الجمهوريات القوقازية وتركيا بحضور ممثلي السوفييت.

 موسكو تستفيد
في مارس 1922، نشأ اتحاد بين أرمينيا وجورجيا وأذربيجان، على الرغم من صعوبة العلاقات بين هذه الشعوب، غير أن ذلك صب في مصلحة موسكو، بعدما أعاد هذا الاتحاد ضم القوقاز إليها. وقد حاولت الجيوسياسة السوفييتية استخدام بعض المطالب الأرمنية الإقليمية السابقة لمرحلة السوفتة، لأهداف استراتيجية سوفييتية. وكذلك استخدمت موسكو أرمينيا وبعض الأرمن لتحقيق إنجازات معينة ترتبط ببعض مناطق العالم عبر الجاليات الأرمنية فيها. وظلت أرمينيا طيلة فترة انضمامها إلى الاتحاد السوفييتي (70 عامًا) بلا فاعلية دولية.
وبعدما تأكدت نتائج الحرب العالمية الثانية صيف العام 1945، بادرت موسكو إلى مقايضة الأراضي الأرمنية في تركيا، (قارص وأرضهان وأرتفين)، كما قامت الأراضي الجورجية بتعديل نظام المضائق في الدردنيل والبوسفور لمصلحة الاتحاد السوفييتي، والحصول على قاعدة على «بحر إيجه». حتى أن الأرمن السوفييتيين، الذين كانوا يؤيدون المطالبة بالأراضي، ما لبثوا أن تخلوا عنها. وصدرت المذكرة السوفييتية لتركيا في 30 مايو 1953، لتقول إن جمهوريتي أرمينيا وجورجيا قد فضلتا التخلي عن مطالبهما الإقليمية (بالأراضي)، حفاظًا على إقامة علاقات حسن جوار مع تركيا. وقد أفضى ذلك إلى إفادة هذه الأخيرة من سد مياه نهر الرس (أراكس) على حدودها، والذي أنشأته عام 1927، لري بعض الأراضي التركية.
وتحدث الباحث عن «مسألة العودة»، التي شكلت ما عرف بعودة الأرمن إلى أرمينيا، إذ كان عدد الأرمن في الشتات يفوق عدد الأرمن في أرمينيا. وجعلت موسكو أرمينيا محور «جذب» للشتات الأرمني. غير أنها اعتمدت مقاييس لقبول عودة المهاجرين. وهي مقاييس طبقية، بحيث تقبل بعودة العامل والفلاح دون البورجوازيين. وهذا ما خفف من زخم العودة. وعلى الرغم من ذلك قامت هيئات في بلدان الشتات بالتشجيع واختيار المرشحين للعودة وتنظيم القوافل بهدف عودة كثيفة. وقد عاد أكثر من مائة ألف مهاجر أرمني بين عامي 1945 و1946، غير أنها تراجعت سنة 1947، وتوقفت نهائيًا سنة 1948، وسبب ذلك هو أن العائدين «خذلوا» بظروف العيش في الأرض الموعودة وبحالة البلاد في ظل السوفييت، فقامت محاولة تنبيه الأهل والأقارب بالطرق المتوافرة لعدم اللحاق بهم إلى أرمينيا.

المعارضة الأرمنية
وفي ظل نمو المعارضة الأرمنية في الشتات للوصاية السوفييتية على أرمينيا، ظهرت بطريركية أنطلياس في لبنان (بطريركية سيس في كيليكيا سابقًا) في مواجهة بطريركية موسكو للسيطرة على الكنيسة الأرمنية في العالم. وقد ثبتت هذه الثنائية، كاستتباع لثبات الثنائية القطبية في العالم. ولما كانت الأكثرية في الشتات مناهضة للشيوعية، لم تكن كلمة بطريركية (أتشميازين)، خصوصًا في ما يتعلق بتوجهات الشتات السياسية ذات تأثير كبير خارج أرمينيا. وخضعت الشئون الكنسية الأرمنية لمتطلبات النظام الدولي، وإن كانت أبرشيات الشتات في مطلع الستينيات تتبع أنطلياس بلبنان أكثر مما توالي بطريركية أتشميازين في يريفان بأرمينيا. ولو أن موسكو دعت إلى الانفتاح على الغرب في ظل سياسة خروتشوف، فنال أناستاز ميكويان المسئول السوفييتي الأرمني شهرة في العالم الغربي، بسبب توجهات موسكو للإفادة من دور الأرمن في الشتات العالمي.
وتحت عنوان: «شتات وإبادة وإرهاب»، يتحدث الباحث في الفصل الثالث عن أن هذه هي العناصر الأساسية لبحث المسألة الأرمنية. وأنها مرتبطة بالمعطيات والظروف الدولية بعامة وبالشئون الإقليمية الشرق أوسطية بخاصة. ويقول إن تكوين الشتات الأرمني بدأ مع مجازر (1894 - 1896). وإن الجالية العظمى تكونت في الولايات المتحدة. وفي القرن العشرين، تحول الشتات الأرمني إلى «شتات لاجئين»، إثر المذابح والحروب والسبي والنفي الجماعي. واستقرت جاليات الشتات في اليونان ولبنان وسورية وفرنسا والولايات المتحدة. ويقول الباحث، إن الإنجليز لم يتعاطفوا مع المهاجرين الأرمن بل ساوموا عليهم في القوقاز والشرق الأدنى، أما الفرنسيون، فكانوا قد ساعدوهم على الاستقرار في مناطق نفوذهم. لكن الولايات المتحدة جعلت للمهاجرين «كوتا تركية» لا يتجاوزونها. ويقول الباحث: «كان التوافق الإنجليزي الفرنسيّ حول وجوب حماية الأرمن الأحياء (إذا أمكن)، إنما هو لحماية جانب القوات الحليفة في القوقاز وإيران، وصناعة اتحاد الأرمن وجورجيا لإقامة حاجز يحول دون تقدم الحركة الطورانية التي قد تمتد من إسطنبول إلى الصين».

إبادة سنوات الحرب
ويرى الباحث أن الإبادة، إنما كانت نتيجة معطيات دولية وإقليمية أحاطت بالمسألة الأرمنية، لأنهم كانوا في الموقع غير الملائم لأكثر من فريق على الساحة في الأناضول. وهو يقول: «حتى بالنسبة لعهد السلطان عبدالحميد الثاني، إذا اعتبرنا أن المجازر الحاصلة ضد الأرمن، قد تميزت إلى حد بعيد بالتوجه الإسلامي الشمولي للسياسة العثمانية، يبقى هذا التفسير جزئيًا. ويصبح الأمر أكثر تعقيدًا، عندما يطرح موضوع عملية الإبادة التي شهدتها سنوات الحرب».
إن دخول الأوربيين في صراعهم مع الألمان ترك بصمات قوية على الأرض في السلطنة. فالحرب الشاملة بين الطرفين جعلت الأرمن «العدو في الداخل»، تحت وطأة الحرب الشاملة وما تستتبعه من تدمير للعناصر الموالية للعدو في الداخل. وذهب آخرون إلى المقارنة بين «الإبادة» في الحرب العالمية الأولى و«المحرقة» في الحرب العالمية الثانية، وهما لا يندان عن أحد توجهين: إما أيديولوجي أو وظيفي. ولذلك يمكن القول: «إن الإبادة كانت نتيجة التفاعلات الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والقومية والدينية مجتمعة».
وفي مقابل «الإبادة» نشأ «الإرهاب» أو «المقاومة الأرمنية» للسياسة العثمانية التعسفية. فاستعمل الأرمن القنابل في «باكو» مطلع القرن العشرين في صراعهم ضد الأذربيجانيين أو «التتار»، الذين كانوا يفضلون من جانبهم السلاح الأبيض، كما يلاحظ رحالة فرنسيّ كان في القوقاز في ربيع 1905. وقد تميز الإرهاب بعد منتصف القرن العشرين بأنه إحدى أبرز حلقات الإرهاب على الساحة الدولية. وقد وجد في الدول الاشتراكية ملجأ له. كما وجد في الأحزاب اليسارية دعمًا وملجأً. غير أن المنظمات الأرمنية التي اتصفت بالإرهاب، كانت قد انبثقت أيديولوجيًا في الأصل عن معاناة وعن قضية، لم تجد لهما تجاوبًا كافيًا في عواصم القرار دوليًا. وذكر الباحث «بالجيش الأرمني السري» و«كومندوس العدالة» و«المقاومة الأرمنية الجديدة» و«الجيش الثوري الأرمني»، ما يصب في الاعتراض على الإبادة وتحقيق مطالب مزمنة بالأراضي والسيادة والاستقلال.
ويرى الباحث أن مسألة الكيان والاستقلال الأرمني، طرحت في العصر العثماني، غير أنها خضعت لوتيرة التحولات الدولية والإقليمية المختلفة. وكلما كانت تتقدم نحو النهايات السعيدة بإيجاد حلول يرضى بها الأرمن، كانت المصالح الكبرى- وبالتالي الجيوسياسات المتناقضة والمتصارعة- تدفع نحو تراجع أسهم هذه المسألة في ظل الحسابات الإقليمية والدولية. غير أنها أخذت مسارًا آخر بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، يقتضي التوفيق ما بين المطالب التاريخية بالأراضي والإبادة وبين الجيوسياسية المعاصرة المحيطة بأرمينيا إقليميًا ودوليًا. وقد اعطى الشتات الأرمني البعد الدولي للمسألة الأرمنية في الأراضي والإبادة. غير أن الواقع الجيوسياسي لم يساعد دولة أرمينيا ولا الأحزاب الأرمنية، على تحقيق طموحاتهما تلك. فالروس وتركيا وإيران وأذربيجان وجورجيا، كلها دول لها أسبابها الداخلية والخارجية في عدم إجابة أرمينيا بتحقيق طموحاتها. وخير دليل على ذلك هو النزاع الذي لايزال قائمًا على هوية إقليم «ناجورنو كارباخ». وهو ما أفضى إلى التفاوض بدل الاقتتال، بسبب تشابك وتعقُّد المعطيات الجيوسياسية الروسية والتركية والإيرانية والقوقازية.
وعن أرمينيا في النظام الإقليمي والدولي في الفصل الخامس، يقول الباحث إن الثالث والعشرين من (سبتمبر / أيلول) 1991، هو تاريخ إعلان الاستقلال. وهو محطة أساسية في تاريخ الكيان الأرمني أنهى مرحلة طويلة مظلمة وأليمة. غير أن الزلازل التي ضربتها والنزاع المستعر في «ناجورنو كارباخ»، ساهما في تأزم الوضع وتعقده. غير أن الاعتراف الدولي السريع، ساهم في تثبيت أركان الدولة الأرمنية. كذلك فإن المعطيات الثقافية عامة، كما المصالح المختلفة، شكلت أركانًا لأبعاد أخرى، دخلت في صلب الجيوسياسية الأرمنية إقليميًا ودوليًا إن في المواجهات أو في التوازنات بين الإثنيات والأيديولوجيات. وانضمت أرمينيا إلى الأمم المتحدة والبنك الدولي والمؤتمر الأوربي والتعاون، كما إلى منطقة البحر الأسود للتعاون الاقتصادي منذ العام 1992، وكانت تركيا هي صاحبة الدعوة.
وتتحدث الدراسة عن وضعية أرمينيا بين تركيا وأذربيجان اليوم معطوفة على التاريخ القديم، تمامًا كما تتحدث عن وضعيتها في المثلث الروسي الإيراني الجورجي، مع ما يتصل بذلك من تعقيدات واشتباكات في المصالح. وهي تنظر في الذات الأرمنية التي تسعى إلى تحقيق كيان مستقل وترى ما يعترض ذلك من مشكلات كبرى دولية وداخلية، وما تحتاج إليه من جهود ونوايا إيجابية، وذلك لأجل نهضة أرمينيا كدولة وشعب، على الصعيد البنياني والعمراني، الذي يتجاوز مسألة البطالة المتفاقمة، إذا ما تعاون الأرمن في أرمينيا والشتات على السواء وأخذوا العبر من تاريخهم الحافل.