مسرحية «هانيبال» قائد حلم عظيم وموت أعظم!

مسرحية «هانيبال»  قائد حلم عظيم وموت أعظم!

لم‭ ‬يتناول‭ ‬الروائي‭ ‬والمسرحي‭ ‬‮«‬هزّاع‭ ‬البراري‮»‬‭ ‬حياة‭ ‬القائد‭ ‬القرطاجي‭ ‬العظيم‭ ‬هانيبال‭ ‬تناولا‭ ‬تقليديا‭ ‬جامدا،‭ ‬أو‭ ‬وفق‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬المنطقي،‭ ‬ولم‭ ‬يغرفْ‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬أو‭ ‬ينقل‭ ‬نقلًا‭ ‬مباشرا،‭ ‬ولم‭ ‬يقم‭ ‬ببّث‭ ‬معلومات‭ ‬تاريخية‭ ‬موجودة‭ ‬ومتاحة،‭ ‬بل‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬الأحداث‭ ‬مستخدما‭ ‬لعبة‭ ‬فنية‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬البراعة‭ ‬والاقتدار‭.‬

قسَّم المسرحية إلى لوحات ثمان، كلّ لوحة مختلفة ومستقلة بذاتها من حيثُ الزمان والمكان والشخصيات، وكل منها تمثل قطعة من فسيفساء هي اللوحة الكبيرة للنص المسرحي، رسم كلا منها بما يمثلها من زمان ومكان يناسب الأحداث التي لم يكتفِ بانتقائها من التاريخ، أو تخيُّل كيفية حدوثها ضمن الإطار التاريخي المعروف، لكنه شارك برسم لوحة الأحداث التاريخية بريشة الإبداع والحوار المتخيل بين شخصيات غيّبها الموتُ وتخطفتها يدُ المنون، وشخصيات مازالت تقارع الحياة الضارية، حياة القسوة والفروسية والحرب الطويلة الممتدة، ليسلّطَ الضوء عبر لوحاته على جانب من حياة القائد العظيم، تتداخل اللوحات الثماني لتشكّل النص المسرحي المتميز في طريقته، والذي يشبه بساط الريح في تنقّله الأسطوري بين المكان والزمان مستضيئا بالأحداث التاريخية، ولم يكتفِ بالعبور في الزمان والمكان على صهوة التاريخ، بل عمدَ لتداخل الأحياء والأموات فكأنما وضعَ الأحداث التاريخية التي يريد نسجها في ثوب النص المسرحي في ساعة رملية وأعاد تركيبها وصياغتها واستنطاقها من جديد، فالأحداث في المسرحية تشبه الرّمل في ساعة رملية يتحكم «البراري» فنيا في عرضها، ويقلبها متى شاء ويعيدها إلى ثباتها أنّى أراد، يلتقي المنهزمون والمنتصرون، يتحاور الموتى مع الأحياء، والأحياء مع الموتى، استنطق التاريخ ليصل لعصارة الحكمة، ثمة حكمة مخبوءة في قلب الأحداث المهمة التي ترسم صفحة التاريخ، تحتاجُ إلى من يبحث وينقب عنها كما يفعل عالم الآثار حين نراه يمسحُ بأنامل عاشق - بكثير من الحرص والحذر - بين الدفائن والحفائر على قطع قديمة مهترئة متصدّعة ويعيد ترميمها واستنطاقها، تحتاج لمن يقدّر قيمتها ويعرف سرها ويكشف ما تخبئه من أسرار، وما تحمله من كلام لا يسمعه إلا من أحسن الإصغاء.

يستنبتُ زهرةَ العبرة عبر أحداث موثقة، لكنه يعيدُ رسمَها بقلمه كأنه يأخذُ الوقائع التاريخية ويعيد صياغتها وتلوينها والنظر إليها من داخلها، ليجعلها تنطقُ وتروي ما حدث، يصوّرها بريشة الفنان من زاوية جديدة ويقلب ما فيها مشكلًا لوحة فسيفسائية ترسم لنا تاريخ قائد عظيم، تدخل لداخله تصور بطولاته وحلمه ومشاعره، فكأنما النص المسرحي هنا فتح لنا بابًا سريًا للولوج إلى أعماق «هانيبال» ورصده من الداخل، وتصوير انفعالاته الدّاخلية، كأنما يلتقط صورة سرية لنفسه الخفية التي تختبئ خلف فارس وقائد عظيم غليظ عنيد تلقّفته الحرب منذ نعومة أظفاره، فكأنما رسم القدر على جبينه الحرب، «البراري» لا يرسمُ الصورةَ الخارجيةَ للشخصية المسرحية هنا، إنه يتقن رسمها من الداخل ويغوصُ في نفسية فريدة لقائد كُتب عليه أن يكون فارسًا ووارثًا للقيادة، والحرب حرب الانتقام، مذ دفعه والده قائد جيش قرطاجة «هملكار» على مذبح القسَم، يصور بطولاته وحلمه ومشاعره، نهايته وأحلامه التي بدتْ هائلة كاسحة لا تُقهر مثل أمواج عظيمة قبل أن تنكسر على شاطئ الواقع، وترتطم بتخلي الأهل وخذلانهم له، وغدر المقرَّبين وخيانة الأصدقاء ومكر الأعداء، ونفاذهم عبر ثغرة خيانة الأهل له وتخليهم عنه للنيل منه، ومن أحلامه الكبيرة التي تشظت على أعتاب المدن التي ظلتْ ميدانا لمعاركه المتناسلة المتواصلة إلى ما يقارب الأربعين عاما.

 

اللوحة‭ ‬الأولى

«هملكار» قائد جيوش قرطاجة ينذر ابنه هانيبال وهو في التاسعة من عمره للانتقام من الرومان وإخراجهم من إسبانيا والثأر لقرطاجة، يقسم بـ«بعل واشمون وملكارت» (آلهة قرطاجة) للثأر من روما وإعادة مجده ومجد قرطاجة، ويحمّل «هانيبال» عبئا ثقيلا يستنزف فيه عمره وحياته، فكأنما رسمَ له حياته قبل أن تكون، ووجهّه قبل أن يعي الجهات، ووضعه في قلب معارك ضروس تبدأ ولا تكاد تنتهي.

يتحدث «هملكار» بلسان القائد ويفكر بعقلية الساعي للثأر لمجده ومجد بلاده، لا يلبس قلبه إلا درع الحرب، يتناسى صغر سن ولده وثقل العبء وعظَم المهمة، وامتداد القسَم الذي وضعه على كاهل «هانيبال» طفلا، لا يفكر إلا بإرضاء الآلهة والثأر، ويتحدث عما واجهه من خيانة، وكيف واجهها بيد من حديد، استعرض مصير «أسينديوس» أحد قادة المرتزقة الذين ثاروا على قرطاجة وكيف تمّ صلبه، هكذا من يخون الحلم، ويوجّه طاقات غضبه، وارتدادات هزيمته وتعطشه للثأر وللمجد لولده، ويهزه بقوة، «أقسمْ لبعل أن تثأر لبلادك من روما في يوم من الأيام أقسم يا...- هانيبال مرتجفا - أقسمُ يا أبت...» (ص 17).

بعد أن ينتزع منه القسم، ويزرع فيه بذرة مصيره الآتي، أن لابد أن يلحق به «هذا ما قدّرته الآلهة لك»، فيحبس فكره وتفكيره وعمره وأحلامه بل وحياته كلّها في سجن، قضبانُه من نار الحرب الموشومة على جبينه. ويعود «هانيبال» طفلا للحظة حين يصرخ مناديًا «أبي..» لكن هملكار يجيبه بغضب «أنا هملكار»، لأنه في الموقف الذي رصده الكاتب لم يكن يفكر بعقلية الأب ولا بعاطفته، ولم ينبضْ قلبُه بغير طبول الحرب، ولم يكن معنيًا بعاطفة الأبوة، كان قائدا عظيما يحسُّ بهزيمته، ولا يملأ تفكيره إلا الثأر، حتى لو جعلَ ولده وقودًا لأتون حرب آتية ممتدة ومجنونة، يمثل هملكار أنانية القائد، يعميه المجد المُشتهى والانتقام.


اللوحة‭ ‬الثانية

نقلَة خاطفة في المكان والزمان، يأخذ «البراري» المُتلقي فيها كأنه يشركه معه في رحلة سحرية عبر التاريخ على بساط سحري يتجاوز فيه المكان والزمان وحتى الموت والحياة، وتلك سمة في إبداع «البراري» أنه يشرك المتلقي في بناء عالمه الإبداعي، وتشييد بنائه الفني المتضمن رؤيته ورؤياه المغايرة والتي تتميز بالجدة والاختلاف، وربما ذلك سر تميّز ما يكتبه.
    في اللوحة الثانية، يدور حوار بين «هانيبال» الذي تركناه في اللوحة الأولى طفلا في التاسعة، يقيّده «هملكار» والده بقيد حرب للثأر الطويل الممتد ولتشييد أهرام المجد التي لا تكاد تقام حتى تنهار من جديد، لنقابله بعد مرور أربعين عاما، أربعة عقود طويلة خاضَ فيها الحروب التي استنزفت شبابه وعمره وقوته وأعصابه، ونزفَ فيها حياته التي عجز  أن يخسرها أو أن يقدمها على مذبح الحرب في ساحة القتال. «حصان يوشك أن يسلمني لسيف العدو» (صــفحة 19). حتى الحصان رفيقه يخونه، لا يجد من يحاوره غير السيف، توأم نفسه ورفيق رحلته الطويلة المضنية في القتال، يتأمل سيفه بيده بحزن «... حتى أنت غدوتَ عصا بيد عجوز أعطى الحرب شبابه فطمعت بشيخوخته» (صفحة 19).

من يسلم عمره للحرب، من يتشبّث بحلم الثأر والمجد الذي لا يزول، لا تُشبعه الحرب ولا تشبع منه، تلفظه مكسور الروح ومنخور النفس ومجروح القلب، جسده ينهبه الضعف وتتناوشه ملامحُ تعب طويلٍ، الحرب تقتل وتقدّم موتًا حقيقيا، وتبرع باختراع أشكال وصور جديدة للقتل وللموت. 

 

‭ ‬اللوحة‭ ‬الثالثة

تجاوز الكاتبُ حيلته الفنية بالتنقل بين الزمان والمكان إلى حيلة بارعة وهي الحياة والموت، التلاعب بالأحداث وتداخُل الماضي والحاضر والمستقبل، الأحياء والأموات، لرسم أحداث وتناولها بعمق من زاوية جديدة، فالمسرحية تتناول شخصية تاريخية لكنها لا ترصدها بصورة محايدة، ولا تنقل التاريخ بتصوير محايد جامد منطقي، إنها تعيد توزيع وخلق الأحداث ورسمها وإضاءتها من جوانب مهمشة، وزوايا منسية، وتلك ميزة ما يكتبه «البراري»، إنه يختار الزاوية المظلمة المنسية المهجورة ليقيم فيها مهرجان بوحه ويشيد نصه مختلفًا متجددًا. 

حوار بين القادة الثلاثة: «سبيو» و«هانيبال» و«فاروا» رجوعًا بالزمن قرابة العشرين عاما، يتقابل «سبيو» مزهوا بالنصر مع «هانيبال» المثقل بهزائمه الأخيرة، الذي لا يعي أين هو ليفاجأ بأنه وسط إيطاليا قبل الآن بقرابة عشرين عاما، وهو من تلبسه حلم القضاء على روما، وتكبّد بسبب حلمه الكبير سنين حياته وجراحًا نازفةً لجيشه، يظل يدافع عن عبقريته في القتال، وكيف تخلى عن حلمه الكثير من جنده، لكنهم: «هم المرتزقة الإسبان كانوا عالة على جيشي، أما القرطاجيون فقد عبروا معي بلاد الغال...» (ص25).

إيمانه بالقرطاجيين راسخ، إنه يشبه العاشق الذي يتلقى الطعنات ولا يأبه بالألم ويستحيل عنده النزيف نشيدًا «روما تستحق جنون المغامرة من أجل تدميرها...».

هي حكمة القادة، وهو يدافع عن حلمه لأنه حياته ذاتها، ولأن إيجاد مبرر الحلم هو العزاء الوحيد الذي بقي لديه في النهايات التي دائمًا ما تكون موحشة لا أنيس فيها إلا العزاء بما أنفق فيه العمر الضائع.

«سبيو» يصيبه الغرور، إنه غرور القائد المنتصر الذي سلخَ نصرا ثمينا من قائد متمرِّس مثل «هانيبال».. «لأنَّ روما تعرف ذلك جنّدت رجلاً أكثر عبقرية وجنونا منك ليقهرك» (ص 25).
لكن ليس من شيم «هانيبال» الاستسلام، يواجه «سبيو» مُشخّصا سبب تذوقه طعم الهزيمة الأول، الأشدّ مرارة من الهزائم المتكررة.

«يا سبيو أنت لم تكن وحدك، كان أهلي معك، أنت تعرف ذلك» (ص 25)، يعني أنه تعرّض للخيانة القاسية من الأهل.

يتم استحضار شخصية «فارو» القائد الروماني الذي هزمته عبقرية «هانيبال» الذي قام بخدعة حرب، حين جعل جيشه نصف دائرة ليتوغل فيه جيش «فارو»، ويصبح محاصرا ينهشه الموت من كلّ اتجاه.

عذاب الحرب وشقائها يطولان الجميع دون تمييز بين جندي وقائد، فيقول سبيو «أسير بين جندي مصروعين, أكوام من اللحم الممزق والدم المتجمد وعيون شاخصة في الفراغ.. وأسئلة تفوح من الجراح.. انتصب أمامي جندي مثخن بالجراح, وأشار نحوي بيده المرتجفة ثم سقط ميتا وحده دون كلمة.. لو تكلم لأراحني.. لكن ملامحه المسكونة بالتعب واللوم تلاحقني مثل كابوس مخيف» (ص 29 إلى 30). 

الموت اختيار كرامة, فـ«هانيبال» يستجدي «سبيو» أن يحرّر سيفه ليقتله، إنه نبل الفرسان وكرامة القادة العِظام، «هانيبال» كان عظيما بحياته وموته, إنها عبقرية الحكمة المكتسبة من جمر الحروب، حكمة التاريخ التي تجلي غموضها للعظماء من البشر, ممن خاضوا الحياة مثل, المغامرة غير آبهين بأي لحظة يخسرونها.

(مثلما كان هانيبال عظيمًا... سينتهي عظيمًا لو كان ذلك دون سيف ودون جيش أو إخوة... وحتى لو كانت هذه الأرض البعيدة لا تعرفني» (ص 31).


اللوحة‭ ‬الرابعة

يرسمُ الكاتبُ بريشة الخيال أن «هملكار» الذي بات شيخا منهكا يقابل أباه «هي حربك يا أبي ألبستني إيّاها صغيرًا... فامتصتْ سنوات عمري وأنهكتْ قواي.. حتى صرتُ كما ترى أجرُّ أيامي الباقية خلفي هاربًا, أخذت روما عيني وشبابي.. وخلفي جيشي ورماح الأعداء تلاحقني كظلي» (ص 33). 

يبوح لأبيه «هملكار» بما يوجعه «أهلي في قرطاجة باعوني لروما» وجعه من أهله، وعتبه عليهم, لم تكن هزيمة من العدو الحقيقي الذي أحسن مجابهته ونزوله كالصاعقة الحارقة, لم تكن هزيمة من الخارج، بل من أهله من الداخل, ربما الهزيمة الحقيقية تبدأ حينما ينكسر الإنسان من أعماقه واستسلامه الداخلي يكسره, ويحطم أشرعة الإرادة والصمود، ويجعل منارة الحلم فيه تنكسر وتخبو، كما يخون الجسد المريض الروح العظيمة المحلقة. يتشارك القائدان العظيمان بالجرح, فكلاهما، الأب هملكار وابنه الذي حمله طفلا على مذبح «بعل» تعرَّض للطعن من الأهل، يقول هملكار «طلبتُ معونة قرطاجة وكنت أذودُ عنها قطعان روما، فقطعتْ يدها وقالت أطعم جيشك من الأرض التي تحت قدميك» (ص 34).
ردّه أهله خائبًا، أهدروا حلمه وذبحوا انتصاراته، وضحّوا به وبجيشه، وتخلوا عنه بعيدًا غريبًا محاصرًا، لكن يظل مواليًا للوطن «وضعتُ وطني في قلبي .. ولم أنتظر مساعدة أحد».

الوطن يشبه الأم تماما, الأم تظل حصنًا وملاذًا وزاوية العالم الدافئة حتى في غيابها أو تغيُّبها.

القائدان العظيمان عاشا الحلم ذاته وذاقا مرارة الجرح ذاته، وانغرستْ في الخاصرة سكين خيانة الأهل الأقسى خيانة والتخلي وقت الحاجة.
 

اللوحة‭ ‬الخامسة

لقاء الأخوين المقاتلين في لوحة مصوغة ببراعة كأنما هي اقتناص للقطة استثنائية، فـ«هانيبال» يلتقي أخاه «هزدروبال» الذي سبقه إلى أرض المعارك ورافقَ أباه قبله إلى قلب جحيم الحرب الموقدة، والّذي ظل صامدا محاربا حتى اللحظة الدامية التي فُصل فيها رأسُه عن جسده وأُرسل لـ«هانيبال»، فوقعَ في قلبه مثل خنجر يطعن بلا نزف ويجرح بلا صوت، ويظل يلوبُ من الداخل في جرح دوامة لا تهدأ، فعلق «هانيبال» جمجمة أخيه على عنق حصانه ليتقدمه إلى ساحات المعارك، ربما ليستمدَّ منه جذوة الانتقام وليبقيَ نار الانتقام والثأر من روما متأججة مستعرة.

«هزدروبال» يحمل الحلم القرطاجي وتجري في عروقه دماء الفروسية والشجاعة، لم يخن أخاه ولم يتقاعسْ عن مد العون له، لكنه تعرَّض للخدعة والخيانة من رسوله لأخيه يخبره فيه بخططه الحربية، حين سلم رسوله الخائن الرسالة لروما، فباتَ «هزدروبال» مثل فريسة عزلاء في زاوية والحِراب تحيط بها، وتفنن الرومان الأعداء في التنكيل به وفي تجريح أخيه، حين قذفوا رأسه بالمنجنيق إليه، «أهكذا نلتقي بعد كلّ هذا الفراق... ليكن بين يدي رأس بلا جسد... عينان شاخصتان..» (ص 39).

حين علق «هانيبال» رأس أخيه على عنق حصانه، ربما جعله الحصان، الجسم/القوة/الحركة/الخطى التي يسير بها في درب الانتقام الطويل، وهو كان الرأس والقائد المحنك «أنا جسد قرطاجة... وأنتَ الرأس يا هانيبال» (ص 41). 

 

اللوحة‭ ‬السادسة

لقاء بين المرأة الخارجة من ذات «هانيبال» مثل فكرة مهملة لم ينتبه لها إلا بعد أن أصبح وحيدا، فكأنما أُتيح له أن ينظر بداخله، المرأة عائدة تبكي بثياب ممزقة وآثار ضرب على وجهها ربما لترسمَ له لوحةَ الهزيمة، وتضع اللمساتِ الأخيرة على اللوحة الكالحة لموته حيًا، ولهزيمته المُرّة بعد أنْ ذاقَ حلاوةَ النصر وأنفقَ عمره في سبيله، وأهدر أيامه، وسفح عمره لأجله.

جاءت المرأةُ القرينةُ المزعجةُ، حلم لرجل لم يحلم بامرأة لتهديه ميتة لائقةً، تهديه الموت الكريم الذي يليق بقائد عظيم مثل عظمته، أعطته ثمرةً غريبة يبتلعها قبل أن يجرَّ أسيرًا ذليلا يستجدي الموت والرحمة من سيوف الأعداء كي لا يذيقونه الذّل والأسر والتنكيل بعد أن أذاقهم الويل، وأحرقهم بناره ونار الحرب التي لا تنطفئ، كي لا يكسروا صورته المُضيئة عبر التاريخ، وتحفظَ له الكتب أن القائد الّذي شهدَ الوقائع الكبيرة والمعارك العظيمة لم ينكسرْ لأجل حفنة أيام وبقايا حياة، وبقية أنفاس مثقلة بالذل ومغمسة بالعار.

المفارقةُ التي يلتقطها الكاتب أن «هانيبال» عجزتْ عن قتله جيوش لا تحصى، فموته عزيزٌ مستعصٍ صعبٌ مثل فرس جامحة حرّة متمردة لم تسلم نفسها طوعا إلا للسُّم، لأنه يحمل معه حلاوة الكرامة والعز.

 

اللوحة‭ ‬السابعة

  لقاء آخر وأخير بين «هملكار» ميتا و«هانيبال» يتصارع مع ذاته وماضيه وحاضره، ويبكي مستقبله الذي يبخل عليه بموت، يعاتبه «هملكار» أو ربما هو عتاب النفس للنفس، ومحاسبة الذات لذاتها باستحضار شخصية غيَّبها الموت وما غابتْ، ماتت ولم تمت لأنها خالدة، شخصية الأب القائد العظيم «هملكار» يعاتبه على خسارته موقعة «زاما» المعركة الحاسمة التي خسرها «هانيبال» لمصلحة روما، ويعاتبه على خروجه من عزلته ومن إطاره بصفته قائدا لا يعرف الجلوس إلا على صهوة الحصان الذّاهب به إلى معركة والرّاجع من أخرى، والمستعد لحرب آتية، لأنه خرج من عزلته ومن عرينه لأنه أسدُ الحروب وسيِّدها، ليصبح حاكما ويجلس على عرش قرطاجة، تاركا السيف الذي قاتل طويلا لها ولم يكل ولم يمل، لكنه تعرَّض لتآمر أرباب الأموال وأهل الغايات ومن خشوا على مناصبهم منه، فحاكوا أكذوبة ونسجوا كفن نهايته، حين أهدوا لروما وأهدوا لأنفسهم خبرًا عاريًا من الصحة لكنه يرتدي ثوب المصلحة الذاتية والمنفعة الضيقة بأن «هانيبال» يعد العدة لقتالها من جديد وقدموا الأموال لتمويل الحملة ضده.

«هملكار» الضرغام الضاري يعاتب «هانيبال» إنه افتتن بالكرسي، والعرش ليس له، وأنه ترك المقاومة فهزم نفسه قبل أن يهزمه الآخرون، يظل يعاتب نفسه آكلا ثمر الندم المُرّة: «ها أنا أموت غريبا لا يحيط بي غير اللصوص وأشباح الموتى...» (ص 49).

 

اللوحة‭ ‬الثامنة

  اللوحة الأخيرة والحاسمة تشبه نهاية معركة ضارية يلتقي في نهايتها القائدان، مثقلان بالتعب والإنهاك وحاملان لراية وغار النصر أو إكليل الهزيمة.

«سبيو» المنتصر يلتقي بـ«هانيبال» المنهزم، لكن المهزوم أحيانًا يصنع انتصاره الأخير بشرف، ويرسم لوحة أخيرة مضيئة بالكرامة ولو بدمه.

يظل «هانيبال» متمسكا بعظمته بصفته قائدا خاض عقودا طويلة من المعارك المتواصلة والحرب الضروس، وذاق حلاوة النصر، وأذاق أعداءه طعم الموت والخوف والدمار والانتقام، وحفر بأظفاره في صخرة الثأر. 

«نهايتي هي التي صنعتك».

«سبيو» دخل التاريخ من باب نصره الأخير على «هانيبال»، لكنه كان منتشيا بانتصاره يراوغ، و«هانيبال» مثل عنقاء صاعدة من رمادها، يقاوم لأنه القائد الذي لا ييأس.

«ألف قرطاجة ستخرج عليكم وألف هانيبال سيولد اليوم..» (ص50).

العظماء الحقيقيون والأبطال الخالدون لا يؤمنون بأنفسهم فحسب، ولا يرفعون ذواتهم ولا يحتكرون المجد، يسعون لامتلاك فكرة خالدة، وأخلاق لا تموت، وفروسية لا تصدأ، وهم مثل الشجرة الباسقة التي تنبت من الأرض وتظل منتمية لها وإن لم تنحنِ، فهو يتنبأ بولادة المقاومة وبمجيء قادة عظام مثله، فالعظيم يبشّر بالعظمة ولا يحاول احتكارها وإلا فقدها ولم يكنها.

«لستُ مهزومًا... ألا يكفي لانتصاري أن تسيّر روما جيوشها وقادتها العظام لملاحقة عجوز أعزل مثلي...» (ص 51).

يطلب من «سبيو» أن يجرِّد سيفه ليغرسه في صدره، فتكون بموته حياته، لأن من مات ذليلا مستضعفا فقد بريق حياته المضيئة بالمجد، لكن «سبيو» يرفض أن يمنحه الموت المُشرّف، ففي عنقه آلاف الرومانيين، ويدافع عن رفضه «ومتى كانت للحرب أخلاق... أنت من علمنا ذلك يا هانيبال...» (ص 51).

الحرب لا قوانين تحكمها، إنها حصاد للأرواح بلا موسم، قطاف للمجد بلا حساب، ملاحقة النصر الذي تُداس لأجله حيوات البشر، ويطحن الجميع، لا أحد يهم، لا مبدأ يُحترم إلا غايات أُضرمت لأجلها الحرب، قوانين الحرب، إنها بلا قوانين ولا أخلاق.

«هانيبال» البطل الذي قدّم حياته على مذبح الوطن، ولبس الفكرة وامتطى صهوة الحلم، وأخلص لمبادئه حتى الرمق الأخير، وكان موته اختيارا نبيلا مشرِّفا, وإن كان الاختيار الأخير .