عيسى صقر الخلف.. شيخ النحَّاتين في الكويت

عيسى صقر الخلف.. شيخ النحَّاتين في الكويت

بما‭ ‬أن‭ ‬نفسية‭ ‬الفنان‭ ‬تتأثر‭ ‬بالأحداث،‭ ‬خيرها‭ ‬وشرها،‭ ‬فإنه‭ ‬يتأثر‭ ‬أيضا‭ ‬بسلوك‭ ‬المحيطين‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬أخيار‭ ‬ا‭ ‬كانوا‭ ‬أو‭ ‬أشقياء،‭ ‬عبوسين،‭ ‬سعداء،‭ ‬متمتعين‭ ‬أو‭ ‬بؤساء‭.‬

والفنان‭ ‬عيسى‭ ‬صقر‭ ‬الخلف،‭ ‬الذي‭ ‬عاصر‭ ‬النهضة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬من‭ ‬بدايتها،‭ ‬تأثيره‭ ‬واضح‭ ‬وملموس‭ ‬في‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬أو‭ ‬الهواة‭ ‬أو‭ ‬الجمهور‭.‬

دماثة‭ ‬خلقه‭ ‬وتفانيه‭ ‬في‭ ‬العطاء‭ ‬غير‭ ‬المحدود،‭ ‬كانا‭ ‬سببًا‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬انخراط‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬محبي‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭ ‬والنحت‭ ‬في‭ ‬الجمعية‭ ‬الكويتية‭ ‬للفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬وقت‭ ‬تأسيسها،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬عيسى‭ ‬صقر‭ ‬العضو‭ ‬العامل‭ ‬والمثابر‭ ‬المستمر‭ ‬في‭ ‬عطائه‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬فنية‭ ‬رفيعة‭ ‬ومستوى‭ ‬راق‭ ‬للحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭.‬

كانت هذه المقدمة ضرورية ليعرف المهتمون أن عيسى صقر لم يكن نحاتا ورساما فقط، بل هو الأب الروحي للغالبية العظمى ممن جاءوا بعده، نحاتين كانوا أو رسامين، كان الجميع لديه متساوين، والأفضلية فقط للمجتهد والمبدع ومن لديه مصداقية في عطائه وحبه للفن التشكيلي.

ولم يكن عيسى صقر في يوم من الأيام متملقا أو متسلقا وصوليا يسعى لذاته، بل كان عكس ذلك ناكرًا لذاته، محبًا الخير للجميع، يشجع الكل ويقبل التنافس الشريف، وقد كان نبراسه دائما: «اعمل بجد وكد لن يغلبك أبدا أحد». هذه المقولة كم كان يكررها لي وكم سمعتها منه وأنا أعمل معه في محترفه بالرسم الحر حيث أتاح لي فرصة التزود من علمه وفنه وطباعه.

 

رشاقة‭ ‬وارتباط‭ ‬بالبيئة

ولو عدنا الآن لاستطلاع الجانب الأساسي والبحث في فن وإبداع الفنان نجد أن أعماله تتميز بالرشاقة وهي السمة المحلية لبحثه، مركزًا على  الصفات الشكلية للناس وما يلبسون في منحوتاته ورسوماته التي غالبا ما تكون مقتبسة من البيئة وما بها من أشخاص وكتل أخرى.

كان تركيزه على إظهار الحس الفني المتجاوز لحدود البصر، وكان يعطي المتلقي الناظر للعمل الشعور بأن الشخص المرسوم أو المنحوت كويتي  أو غير ذلك.

وقد يتجاوز الإحساس بأن يستطيع المتتبع لمنحوتات الفنان عيسى صقر البرونزية أو الخشبية الوقوف على لون بشرة الشخص المرسوم عبر تعبيرات الوجه وتشريح تفاصيل العمل المنحوت.

هذه القدرة الصادقة على التعبير تجعلني أتذكر الفنان العالمي المبدع «مونيه» الذي كان حسه الفني الفائق في لوحاته يجعل المشاهد يتصور النسيم أو الريح المتغلغلة بين أغصان الزهور البرية أو العابر على كتف امرأة تسير في طريق ريفي وكأن اللوحة لقطة سينمائية تشمل حركة الواقع.

هذه الميزة كان يمتاز بها الفنان عيسى صقر المرهف والأخ الصديق الذي كان في شبابه شعلة نشاط، استطاع أن يؤثر في الحركة التشكيلية تأثيرًا إيجابيًا أوصلتها إلى ما هي عليه الآن من أوج ازدهار.

الفنان عيسى صقر شيخ الفنانين والنحاتين بجدارة والشاهد على هذا حصوله على جائزة «الأقصر» عام 1966، الجميع يعرف ما هو معنى أن يحصل الفنان على هذه الجائزة من مصر، الدولة العربية الرائدة في المجال التشكيلي والفن بصورة عامة.

فالجائزة في تلك الفترة ومن مصر تعادل شهادة جامعية لفنان خرج من رحم البحر وعلى سواحل الكويت، خبرته الفنية عمرها العملي كان ثلاث سنوات أو أكثر بقليل، قياسا بفطاحل الفن التشكيلي الكبار في جمهورية مصر العربية.

هذه الحلقة في مسيرة الفنان عيسى صقر مهمة، لا أريد أن أمر عليها مرور الكرام، والهدف من التركيز على هذه النقطة هو إعطاء الفنان حقه المستحق من تقدير واعتراف بأفضليته وتميزه.

الجائزة شهادة فنية راقية لفنان مبدع راق من جهة معتمدة عالميا وعربيا وهي الساحة الفنية في مصر، والجميع دون استثناء يعرف معنى أن تتميز في مصر، بين ما يزيد على عشرين مليون شخص وخبرة تزيد في تلك الأيام على المائة عام اكتسبها الفنانون المصريون والنقاد مع لجان التحكيم، فقد أجمعوا واتفقوا على أن الفنان عيسى صقر يستحق جائزة «الأقصر» عام 1966.

لم يتوقف الفنان عيسى صقر عن العطاء، وظل حاملاً الراية متنقلا بين القارات والدول، حاملاً الكويت في قلبه، عارضا للعالم الوجه الفني الحضاري المتميز للجميع، فكثيرا ما كان يشارك ويرافق الفعاليات العالمية والمعارض الدولية التي كانت الكويت تشارك بها، ولم يكن عيسى صقر يهدف من وراء هذا إلى حب الذات أو الأنانية في الكسب بل كان ذلك خدمة للوطن وللحركة التي امتزجت بدمه وأصبحت جزءا منه لا يفصلها عنه إلا الموت، وحدث ذلك بالفعل حيث انتقل إلى جوار ربه بعد أن كسب الجميع وأحبه الجميع.

 

جائزة‭ ‬باسمه

لأن عيسى صقر يستحق التقدير والشكر والثناء فقد قام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بتوثيق ذلك وسميت جائزة مهرجان القرين باسم الفنان عيسى صقر حيث يتشرف بها من يحملها أو يحصل عليها.

خصصت الجائزة بعد أن اختارت عملاً رائعاً من أعماله التي نفذها بعد تحرير الكويت، يعبر عن الكويت بصورة فتاة سمراء رشيقة جميلة ترتدي ثوبها الخليجي المعروف والمميز لدى أهل الخليج، جاعلا من حركة رشيقة دائما ما تفعله السيدة التي تلبس هذا الثوب المزين بالزري (حليات ذهبية توضع على أطراف الثوب لتعطيها بريقا جميلا مع اللون الأسود الشفاف للثوب)والتخريجات التطريزية وليطابق العمل المنحوت رسم خارطة الكويت.

فكان لسان حال الفنان يقول عادت الكويت حرة عروسا للخليج، زاهية شامخة بها كل عناصر الانتصار والفرحة.

هذا التمثال بمنزلة قصيدة شعرية كويتية صاغها شاعر كويتي ذاق طعم الفرح والنصر والعودة إلى الديار بعد هول الظلم والتعدي والاحتلال، هذا العمل المعبر عن فرحة الجميع وفرحة أهل الكويت صار رمزا لتميز المبدعين والمستحقين لحمل جائزة سميت بجدارة باسم الأب الروحي وشيخ الفنانين والنحاتين الفنان عيسى صقر، الذي ترك خلفه جيلا من المبدعين وكما كبيرا من الإبداع.

عيسى صقر استطاع أن يكون التمثال بالحس النفسي والثقافي دون لون منظور.

وعندما نستحضر أعمال هذا الفنان نجد في مضمونها عدة أمور، أولا نجد التماثيل ممزوجة بالفضاء المحيط به، ويعتبر جزءا لا يتجزأ من التمثال بحيث تراه مرة مؤطرا بالمحيط كأنه بروازه الذي يحدد أبعاده وعمقه، ومرة أخرى نعتقد بأن هذا العمل هو كائن ناطق حي يروي قصته بنفسه وهذا المنظور العجيب ليس سهلا أن يكون ضمن أعمال النحت مثل ما هو ممكن وسهل في أعمال الرسم والتصوير.

لقد تميز عيسى صقر كذلك بإعطاء أعماله حلقة وصل مع المتلقين، وقد لا أكون مبالغا عندما أقول إن أعمال الفنان متواصلة مع الجمهور حواريا لأنها تتحدث عن نفسها وعن موضوعها، ويدور حوار مع المشاهدين والعمل ينتهي في آخر المطاف بأن يستسلم المشاهد للفكرة التي يطرحها الفنان.

كما أن هناك جانبا حسيا آخر يتوافر وبشكل ملحوظ في غالبية أعماله هو الجانب التألقي والشموخ والاعتزاز بالذات، فنرى في تمثال الفتاة التي تجلس وهي تلبس على رأسها البخنق (غطاء رأس للفتيات في الخليج) أنها معتزة بنفسها أيما اعتزاز تتجلى شموخا وأناقة وزهوًا وهذا الجانب كذلك ليس سهلا أن يوجده الفنان النحات.

عيسى صقر وبكل اختصار استطاع أن يخرج الحس الفني للفنان مع الحس المكمون في قرار العمل، ويظهر أعماله بأنها تعايش الواقع وتعيش الحاضر، استطاع الفنان وبكل جدارة أن يثبت أن الحس هو سيد العمل الناجح وأعماله كلها دليل على ذلك.

رحم الله الفنان عيسى صقر رحمة واسعة «شيخ النحاتين وحبيب الجميع» .