سلفادور دالي في سيرة تشبه لوحاته.. الثمرة الأكمل للبارانويا البشرية

سلفادور دالي في سيرة تشبه لوحاته.. الثمرة الأكمل للبارانويا البشرية

لعل‭ ‬المتعة‭ ‬التي‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬المرء‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للفنان‭ ‬الإسباني‭ ‬الشهير‭ ‬سلفادور‭ ‬دالي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬عن‭ ‬المتعة‭ ‬المتأتية‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬لوحاته‭ ‬والغوص‭ ‬في‭ ‬عوالمها‭ ‬العميقة‭ ‬والمفتوحة‭ ‬على‭ ‬التأويل‭. ‬

صحيح أن الاعترافات التي قدمها دالي في سيرته المثيرة لم تكتب بخط يده، بل أملاها على صديقه الناقد أندريه بارينود على امتداد ثلاثة وعشرين عامًا من الصبر الدءوب، ولكن ذلك لم يقلل على الإطلاق من قيمة المادة الإبداعية التي يتضمنها كتاب «سلفادور دالي/أنا والسوريالية»، الذي كانت قد أصدرته مجلة «دبي الثقافية» في أحد أعدادها.

ذلك أن هذه الطريقة في إملاء السيرة، على تقطّع زمني واسع، ليست فريدة في بابها، فقد شهدنا نظائر مشابهة لها مع فيديريكو فيلليني ونجيب محفوظ وغارسيا ماركيز، قبل أن يقوم هذا الأخير بكتابة سيرته بنفسه في وقت لاحق.

وإذا كانت التجارب الأخرى قد بدت أقرب إلى اللقاءات المطوّلة التي تتناول شذرات من حياة المبدع وآرائه، عدا السيرة الضخمة والشائقة لفيلليني، فإن سيرة دالي تغوص إلى أغوار نفسه وترصد هواماته وعوالمه التخييلية الغريبة، وتبرز مواقفه الإشكالية من الحياة والفن والحب والموت والرغبة، وغير ذلك من القضايا. ولابد لقارئ السيرة أن ينتبه إلى قدرة صاحبها الفائقة على تضييق المسافة بين المنطوق والمكتوب، بحيث لا يكاد القارئ يشعر بأن ما يطوله ناظراه هو حديث شفهي أملاه الفنان على صديقه الأثير في الوقت الضائع بين لوحتين، أو في ساعات صفائه النادرة. والحقيقة أن المرء ليحار في طريقة مقاربة هذا العمل الإبداعي شبه الهذياني، الذي يبدو أنه لوحة سوريالية أخرى من لوحات دالي. ذلك أن الكتاب، على طوله، مكثف وبانورامي وحافل بالمواقف الجريئة والصادمة، بحيث يصعب اختزاله في مقالة، أو التوقف في مقاربته عند فكرة دون الأخرى.

قد يكون المدخل الأهم لفهم شخصية سلفادور دالي وفنه وموقفه من العالم متمثلاً في طفولته المبكرة، حيث شاءت الصدف أن يحمل دالي اسم شقيقه المتوفى في سن السابعة، وأن يجد نفسه وهو ابن السنوات الثلاث ينوب بالوكالة عن حياة أخيه الضائعة. وإذا كان علينا أن نعرف أن الأب بدوره يحمل الاسم إياه، فيمكن لنا أن نتفهم ذلك الجرح النرجسي الذي حمله الفنان الغرائبي على امتداد حياته، حيث راح يدافع بشراسة عن نصيبه من مثلث الهويات المتداخلة التي تحمل اسم سلفادور. إن حالته من هذه الناحية بدت شبيهة بحالة فنسنت فان جوخ الذي لم يكتف بحمل اسم أخيه الميت فحسب، بل كان عليه في طريق الذهاب إلى المدرسة أن يرى اسمه نفسه محفورًا على شاهدة قبر. ليست الجينات الموروثة بريئة - بالطبع - من تكوين دالي المثخن بالخوف وارتجاج الذات والقلق العصابي، ولكن الأنا المثلومة بموت الشقيق السميّ لم تجد سبيلها أبدًا إلى الالتئام، ولم يهدئ من مواجهتها البدئية مع الموت سوى الذهاب إلى الحياة القصوى عبر الامتلاء بالملذات أو الشعور بجنون العظمة.

لم يتوان دالي خلال سيرته التي تشبه الاعترافات عن الإلحاح على فكرة التميز والفرادة التي ظلت تحكمه في سلوكه وفنه طوال سني حياته. وسيظهر الأمر جليًا من خلال تأكيده غير الموارب على أنه «الثمرة الأكمل للبارانويا البشرية». كما أن عبارة البارانويا النقدية ستتكرر مرات كثيرة على  امتداد السيرة، كاشفة بشكل واضح عن شعور بالتفوق والاستعلاء يصعب كبحه والسيطرة عليه. فدالي يعتبر نفسه قيمة مضافة على الجنس البشري وكائنًا استثنائيًا غير قابل للتكرار. وهو لا يمل أبدًا من الإشارة إلى غروره وتكبّره على الآخرين وانحيازه لكل ما هو نخبوي، حيث يقول: «أعترف بأنني متكبر وأحب الظهور في الأماكن المقتصرة على الأقلية، وفي كل مكان أنظر إلى الناس من الأعلى». وإذا كنا غير متأكدين من أن دالي قد قرأ شيئًا، تم نقله عبر الترجمة، من شعر المتنبي، فإن الكثير من وجوه الشبه قائمة بين الرجلين، سواء على مستوى السلوك أو مستوى التعبير الإبداعي. فالمتنبي لا يجد ما يرتقيه وهو المتربع وحيدًا على سدة العالم، ودالي يرى نفسه بوصفه «أفرست» الوجود الأعلى. والمتنبي كان يرى نفسه غريبًا وسط قومه، وكان يبرر إقامته بينهم بالقول إن «معدن الذهب الرغام». فيما ظل دالي يلح على عشقه للذهب ويتخذه ملهما له بوصفه المعادل الفني لمناجم المطلق.

على أن قارئ السيرة سيجد في الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الملهم الأعظم لأفكار دالي ونظرياته وسلوكياته. وهو أمر لا يتنكر له صاحب لوحة «الزمن» الشهيرة، بل يؤكده مرة بعد أخرى في غير موضع من السيرة. يتبدى ذلك من خلال اعتناق دالي لفكرة الإنسان المتفوق أو السوبرمان، التي كانت عصب الفلسفة النيتشوية. كما يتبدى على الأخص في اعتبار المبدأ الديونيزي أساسًا لكل إبداع، حيث الغريزة لا العقل هي محرك الفن، والشهوة لا الحذلقة الذهنية هي صانعة الكهرباء الباعثة على الخلق. ستتردد أصداء هذه الفلسفة في الكثير من مقولات دالي، وسيتم إعلاء البيولوجيا الغرائزية على ما سواها، بحيث لا يتورع الفنان الإسباني الشهير عن التصريح بأن الفك هو عضو المتعة الرائع، لأنه «يشي برغبتنا في الحياة على الرغم من كونه صهريجًا هائلاً للفساد، والمقابر فيه مناضد عشائنا»، وفي مكان آخر يدعو دالي العالم إلى ثورة معوية حقيقية باعتبار أن الطراوة واللزوجة هما أساس الإبداع، لا الزاوية الحادة والخط المستقيم.

انطلاقًا من هذا المبدأ، النيتشوي في أساسه، لن ينجو سوى القلة من مبضع دالي النقدي، وعلى الأخص أندريه بروتون الذي لم تشفع له عند الفنان الثائر زعامته للحركة السوريالية وموقعه المتقدم داخلها، فبروتون، وفق داليو وقع فريسة التحليل العقلاني للعالم والفن، وما لبث أن تحول من نبي إلى ناقد. وعلى الرغم من اعتراف دالي بأهمية بيكاسو، وبوقوف هذا الأخير إلى جانبه في الكثير من المفاصل الصعبة، إلا أنه رأى فيه منذ البداية خصمه اللدود، مصرحًا بأن العالم لن يتسع لكليهما معًا. لكن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد، بل سيشطح دالي في مهاجمة صاحب «غير نيكا» الذي انحدر في رأيه إلى درك الفن الحديث المفرغ من كل طاقة روحية. ورأى في تحالف بيكاسو مع بروتون استهدافًا متعمدًا له، واصفًا إياهما بـ«المثقفين العاجزين جنسيًا»، والباحثين عن الإدهاش أكثر من النشوة.

قلّ أن نجا فنان معاصر من مبضع «البارانويا النقدية» لسلفادور دالي. فهو إذ يوافق مع ليوناردو دافنشي على أن البيضة هي أكمل الأشكال، يرى في فن بول سيزان الذي انتصر للمكعب والأسطوانة تعبيرًا أمثل عن انحطاط فن التشكيل, ليس فقط لأن تفاحات سيزان المصنوعة من الأسمنت تعكس عجزه عن التقاط الحياة في نبضها الساخن، بل لأنه فتح الباب واسعًا على ما أسماه دالي «أخلاقيات الروث» وتحويل الفن إلى شكل من أشكال الصرف الصحي. يرى دالي من جهة ثانية، أن زمن رسم الطحالب والجماليات البصرية الخارجية على طريقة ماتيس لم يعد له نصيب من الاستمرار في عالم اليوم. وإذ يعتبر ماكس أرنست مجرد «مصوّر إيضاحي جيد»، فإنه يرى في جورج براك رسامًا منزليًا ومقلدًا للرخام، آخذًا عليه قوله إنه يحب القاعدة التي تكبح العاطفة، والذي صححه خوان كريس في ما بعد بقوله: «دعونا نحب العاطفة التي تكبح القاعدة». في مقابل ذلك، ينحاز دالي لتجربة فيرمير الذي عرف كيف يستخدم مرآة بصرية تعكس شخوص لوحاته، ولتجربة فيلاسكيز الذي عكس الحقيقة الإنسانية بعفّة كاملة. لكنه بوجه عام، ينحاز إلى فنون عصر النهضة، حيث بلغ التعبير البصري ذروة كماله، قبل أن ينحدر مع الفن الحديث نتيجة لتسطيح الحياة وإفراغها من الإيمان.

سيكون من الصعب مقاربة كتاب «أنا والسوريالية» دون التطرق إلى قصة الحب الجامحة التي ربطت بين دالي وغالا، والتي لم يمنعها تقادم السنين من الصمود والتوهج والاشتعال. لا، بل إن المرء ليتساءل عن السر الكامن في هذه المرأة الاستثنائية التي رفعها دالي إلى رتبة القداسة وجعلها أيقونة حياته وفنه. لقد تمكنت ثنائية دالي/غالا من أن تتحول إلى نموذج إضافي للحب الأسمى شبيه بذلك الذي عرفه العرب في عصورهم الأولى، أو الذي جسّدته في الغرب الحديث علاقة نيرودا بماتيلدا وسارتر بسيمون دي بوفوار وأراغون بإلسا تريوليه.. فكيف أمكن لهذا الفنان الواقف على حافة الجنون وعند التخوم الأخيرة للشهوات أن يُعرض عن آلاف المعجبات اللواتي وقعن في شباكه، عاشقًا ومبدعًا، لينقطع بولهٍ نادر إلى حب غالا وحضورها الطاغي؟ صحيح أن دالي يتحدث عن مغامرات جنسية وعاطفية عدة سبقت تعرفه بغالا، لكن الدهشة لابد أن تصيبنا ونحن نرى فنانًا بهذا النزق، وذلك الإعلاء للغرائز، يقع في حب امرأة واحدة دون غيرها من النساء، ويجعلها ملهمته ومعبودته وعلة وجوده. ولعل الأمر يقع في دائرة التناقضات الكثيرة التي حكمت حياة دالي الممزق أبدًا بين الطهارة والدنس، وبين الملاك والشيطان.

لقد أدرك دالي أخــيرًا أن كــــثـــــيرين من أبناء عصره يرون فيه كائنًا غير سوي، وصولاً إلى اتهامه بالجنون. وهو لم يكن معنيًا بتصحيح الصورة أو تعديلها، بل بتثبيتها في الأذهان، لأنه لم يرد أن يكون كائنًا عاديًا بأي حال. وإذا كان يرتــــدي أحيانًا ثياب البهلوان، أو يجعل شاربيه على هيئة مضحكة، أو يخرج من قشرة بيضة هائلة الحجم، أو يسقط على الحضور من أعلى السقف كلاعبي السيرك، فليس لأنه مجرد مهرج، بل لأنه كان يرغب دائمًا في الإبهار وفي الخروج على السائد وضرب النماذج المســـبقة للنــفاق البورجوازي. وككل فنان حقيقي، كــــان الموت هو هاجس دالي الأكثر إلحاحًا وضراوة. وعلى الرغم من أنه عثر في لوحاته على ما يجنبه فكرة الاندثار، فقد ظل يحلم دائمًا بالطريقة التي ينتصر فيها العلم على الموت ويوفــر للخلية البـــشرية ما يوفر لها إمكان التجدد والاستمرار. وإذا كان من الصعب أن نحيط بكل جوانب الكتاب كما بلغة دالي الآسرة وثقافتـــــه العمـــيقة، فإن أفضل ما أختــــتم به هذه المقالة هو قول دالي في رده على سؤال حول طبــــيعة سوريالــــيته: «أنا لست سورياليًا، أنا السوريالية». وقول آخر له يختزل فيه الكثير من عناصر شخصيته وفنه: «أنا دالي الذي نبذني والدي. وصبري يضطلع بجانب من الأســـــطورة الكونية. تحت ظل شجرة زيتون، وبين الصيادين، عشت آلامي كالمسيح، متـــصوّرًا في نشوتي افتراضي للشخص المزدوج أمي/غالا. وقد اختزلت مفتوح العينين فكرة الخلود من المسيح إلى فيلاسكيز» .