أما آن لنا أن نطبع المصحف بالخطِّ الحديث؟

أما آن لنا أن نطبع المصحف بالخطِّ الحديث؟

زرتُ مرّة مفتي لبنان الشيخ حسن خالد، رحمه الله، فقلت له: لماذا لا تطبعون المصحف بالخطّ الحديث، فتجنّبوا قرّاءه عبء دراسة الخطوط القديمة؟ فأجابني: ليَبذلَ القرّاءُ جهداً أكبر فيكسبوا أجراً مضاعفاً؛ وابتسم، وابتسمت بغير اقتناع. وقد توسّع الباحثون في هذا الموضوع كثيراً، ولايزال البحث فيه يحتمل إضافات مهمة، وربّما حاسمة. 
هناك رهبة حيال كلّ قديم، فكيف إذا كان القديم هو قمّة المقدّسات عند المسلمين؟ فلا غرو أن يحتجّ معارضو طبع المصحف الشريف بالخطّ الحديث حُججاً شتّى؛ منها أنّ رسم المصحف توقيف، أي تعليم إلهيّ، وفاقاً لقول ابن فارس بأنّ اللغة والخطّ عامّة توقيف؛ ومنها أنّ في كتابة المصحف على الطريقة الأولى تبرّكاً بكتابة الصحابة، ومنها ما نُسب إلى الإمام البيهقيّ، وهو وجوب المحافظة على الهجاء الذي كتب به القدماء المصاحف لتفوّقهم علينا علماً وصدقاً وأمانة؛ لكن تَبيّن لنا أنّ البيهقيّ نفسه يوحي في سُننه خلاف ذلك، إذ يوضح أنّ المقصود بقول زيدِ بن ثابِت: «القراءةُ سُنّةٌ»، عدم جواز مخالفة المصحف الإمام في الحروف والقراءات، وتسويغ مخالفته في اللغة؛ ويعني بالحروف لغات العرب المختلفة، أي لهجاتهم، والخطّ يخرج من حيّز الحروف والقراءات في اللغة، فالقرطبيّ لا يحرّم تطويره. وليس هو الوحيد الذي أوحى ذلك، فقد أوجب الفقيه العزُّ بن عبدالسلام كتابة المصحف بالمألوف من الهجاء خشية تغيير الجهّال في القرآن. 
ومن غير المجادلة في تلك الحجج نكتفي بمعالجة أمرين، لعلّ الباحثين لم يتطرّقوا إليهما، وهما اختلاف الرسم المصحفيّ من عصر إلى عصر ومن خطّاط إلى آخر، وربما ما بين آية وأخرى، ورسمُ ألفاظ القرآن في غير المصاحف.
  أمّا الأمر الأول فيستدعي السؤال عن الرسم القرآنيّ الذي ينبغي اتّباعه، أهو رسم الصحابة، أم رسم التابعين، أم رسم المتأخّرين من الكتَبة. ويخيّل إلينا، بناء على الأبحاث التي قرأناها، وعلى ما استقصيناه بأنفسنا، أنّ الصحابة حين كتبوا المصاحف خالية من الإعجام، استعملوا حروف العلة، أحياناً، للتعبير عن الحركات الثلاث وعن الهمزة، وأهملوا الألِف المتوسّطة، ربّما كيلا تلتبس بالفتحة، فكتبوا «لساى»، مثلاً، وهم يعنون لِشَيْءٍ، وكتبوا أولئك (من غير همزة)، وهم يعنون أُلائك. والظاهر أنّ كتَبة المصاحف الحجازيّين كتبوا الهمزة مسهّلة على ما عُرف عنهم، فحذفوها ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، أو جعلوا مكانها حركتَها أو حرفَ علّة مقابل لحركتها أو لحركة ما قبلها، بتفصيل ليس هنا موضعه، فكتبوا «نسوا»، وهم يعنون نَشاءُ، وكتبوا «نباى»، وهم يعنون نَبَأِ، وكتبوا «علماوا»، وهم يعنون عُلماءُ. علماً أنّ من يحقّقون الهمزة كانوا يكتبونها على الألِف في كلّ موضع. 
وقد اقتفى التابعون الأوّلون أثر الصحابة في ذلك، ثمّ كان الإعجام بالدوائر الملوّنة، ثمّ بالحركات المستطيلة، وكان نَقْط الحروف للتفريق بين المتشابه منها. وقد استبْقَوا بعض الكلمات على صورتها الخطيّة الأولى وأدخلوا الإعجام عليها، فزاوجوا بين التحريك بالحروف وبالحركات، ككتابتهم: «لِشيءٍ» هكذا: لِشائٍ، ليرمزوا بالألف إلى الفتحة، وبالياء إلى ما تُسهّل إليه الهمزة، وبالكسرة إلى حركتها؛ لكنّهم تصرّفوا، غالباً، بالخطّ فجعلوا لبعض الكلمات شكلاً جديداً، إذ كتبوا «السفهاءُ»، مثلاً بغير واو فوقها الهمزة، خلافاً للطريقة القديمة؛ وربّما كتبوا الكلمة الواحدة على الصورتين القديمة والجديدة، في موضعين مختلفين، وربما كتبوها بالشكل الجديد كليّة، ومن ذلك كلمة الملأُ: كتبوها على الصورة الجديدة، غالباً: الملأُ، وعلى الصورة القديمة، أحياناً: الملؤُا، وقد اجتمعت الصورتان معاً في سورة «المؤمن» أو «غافر». وتطوّرَ الرسمُ المصحفيّ واختلف من خطّاط إلى خطّاط؛ فالسيوطيّ يخبرنا أنّ ممّا خالف الكتَبة فيه قاعدة رسم الهمزة المتوسّطة، كلمات: لأَمْلأَنَّ، امْتَلأَتْ،  اشْمَأَزَّتْ، اطْمَأَنّوا، التي كتبوها هكذا: لأَمْلَئَنَّ، امْتَلئَتْ، اشْمَئَزَّتْ، اطْمَئَنّوا؛ لكنّنا لم نجد ذلك في المصاحف التي بين أيدينا، وهذا يعني - والرجل حافظٌ ثقة - أنّ المصحف الذي كان بين يديه تختلف كتابة الكلمات المشار إليها فيه عمّا في تلك المصاحف. زد على ذلك أنّ بين تلك المصاحف نفسها فروقاً في كتابة الهمزة، مثلاً؛ فقد كتبت الهمزة المضمومة التي تليها واو في الفراغ بين الواو وما قبلها، في بعضها، وكتبت على الواو، في بعضها الآخر؛ وكتبت همزة «لَتَنُوءُ» و«تَبُوءَ» في الفراغ في بعضها، وعلى الألِف في بعضها الآخر: «لَتَنُوأُ» و«تَبُوأَ»، وكتبت الهمزة المتوسّطة المكسورة فوق نبرة الياء في بعضها، وتحتها في بعضها الآخر، وأشباه ذلك ممّا يدلّ على أنّ الرسم المصحفيّ لم يكن موحّداً، وأنّه قد تطوّر، ، ابتداء من الخلوّ من الحركات والنَقْط، ومن تحقيق الهمزة وتسهيلها، مروراً بأسلوبي الإعجام، وانتهاء باختلاف أساليب الخطّاطين. أي أنّه ليس من «كَتْبة» أولى واحدة، كالتي دعا إليها الإمام مالك، وأنّ النسّاخ خالفوا بمرور الزمن «الكَتْبات الأولى»، فلم يقدّسوا الخط، وأنّهم لو التزموا الكتْبات الأولى لبدا لنا الرسم المصحفيّ أشبه بالطلاسم.
وأمّا الأمر الثاني فهو كتابة الآيات في غير المصاحف. فالمصنّفون في الحديث قلّما التزموا الخطّ المصحفيّ، كالبخاريّ الذي يكتب في ما يورده من آيات قرآنيّة كلمتي «القرآن» و«آية»، مثلاً، بمدّة لا بهمزة في الفراغ بعدها ألف، وهو يثبت الألِف المتوسّطة. والقرطبيّ يلتزم الخطّ المصحفيّ غالباً، ويخالفه أحياناً، لكنّه حين يفسّر النصّ القرآني يكتبه بخط المحْدثين. وسيبويه يكتب «إذَنْ» بالنون، في ما يستشهده من آيات، ويثبت الألِف المتوسّطة، خلافاً للرسم المصحفيّ؛ ويكتب «تَظْمَأُ» بهمزة على الألف، وهي في المصحف على واو بعدها ألف، إلخ. وكثيراً ما يخالف محمد عبدالباقي الرسم المصحفيّ في «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم»، فيكتب «أتَوكّأُ»، مثلاً، بهمزة على الألف وهي في المصحف على الواو؛ والشيخ سيد سابق، مثلاً، يستعمل في كتابه «فِقْه السُنّة» الخطّ الحديث أو قريباً منه في ما يستشهد من آيات، فيكتب كلمتي الصلاة والزكاة، مثلاً، بالألف بدلاً من الواو، خلافاً لرسم المصحف.
والنتيجة أنّ اتّباع «الكَتْبات الأولى» مستحيل، وأنّ في الكتْبات اللاحقة تغييراً متتابعاً للكتْبات الأولى وعدمَ التزام نمط واحد فيها، والمؤلّفات القديمة والحديثة قد تجاوزت الكتْبات الأولى والكتْباتِ اللاحقة التي وافقتها، وذلك يدلّ على التدرّج نحو اختيار الخطّ الأيسر والأوضح. وإذا كان السابقون قد تصرّفوا هذا التصرّف، فمن حقّنا الإسهام في التيسير، فنُخرج المصحف بأسهل قواعد الخطّ الحديث، من غير الخروج على أصول القراءة وتجويدها. فهل من دولة عربيّة شجاعة تقْدم على هذا العمل؟.