السينما ومائة عام من الحرب العالمية الأولى.. دروب المجد.. دروب الجبناء

السينما ومائة عام  من الحرب العالمية الأولى..    دروب المجد..  دروب الجبناء

منذ‭ ‬مائة‭ ‬عام،‭ ‬أشعل‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬وطوال‭ ‬قرن‭ ‬بأكمله،‭ ‬تهافت‭ ‬السينمائيون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬وقائع‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬وصل‭ ‬عددها‭ ‬حسب‭ ‬الإحصاءات‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسمائة‭ ‬فيلم‭.‬

لمست الحرب العالمية الكثير من أبناء القارة الأوربية، وشاركت كل دولة تقريبًا بجيوشها، لذا فإن هذه الحرب صارت من التراث السينمائي لكل البلدان، من الولايات المتحدة، حتى تركيا في شرق القارة.

تعني الحرب أن تتوقف الحياة المدنية، بكل روعتها، في بعض البلدان، ويتم رفع درجة الاستعداد بين أفراد الشعب، ويتم تجنيد المزيد من الشباب الذين يرتدون الزي العسكري ويزج بهم إلى الحرب، يحملون الأسلحة، ويعيشون حياة مليئة بالعنف والتقشف والقسوة وتنفجر السماوات والأرض والخنادق وتأتي الأنباء عن انتصارات أو هزائم ممزوجة بدماء القتلى من جانب المتحاربين، وتتولد قصص جديدة مليئة بالمفاجآت والبطولات والانكسارات، ومن كل هذه الظواهر يتولد الإبداع الذي يجد في الحرب كل ما يخص أعمالاً فنية تجذب انتباه الناس.

وأهمية السينما، أنها تعيد تصوير وقائع الحرب، وتنقلها إلى الناس، وشاشة العرض دائما ما تكون مكبرة عشرات أضعاف الواقع، فيرى المشاهدون صور القتل والدمار، والطائرات المغيرة بشكل أكبر من الحقيقة، فيتأثرون كثيرًا وذلك بخوف مما يحدث عند قراءة النصوص الأدبية، لذا كان من الأهمية أن نستعرض ما قدمته السينما طوال عام عما سمي في التاريخ بـ«الحرب العظمى».

 

لورانس‭ ‬العرب

نحن، في العالم العربي، لم تدر أحداث الحرب فوق بلادنا، مثلما حدث في الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت الجيوش إلى ليبيا ومصر، بالإضافة إلى مشاركة الجزائريين، لذا فإن السينما العربية لم تتحدث كثيرًا عن معارك هذه الحرب، وإن كانت السينما البريطانية قدمت فيلمها «لورانس العرب» لـ«دافيد لين» عام 1962 حول تأثير الحرب على المنطقة العربية، والمعاهدات العربية - البريطانية، التي عقدت في هذه الفترة.

لابد من الإشادة بذلك العبقري الذي جمع قائمة أفلام هذه الحرب في موسوعة «ويكيبيديا»، فقد تم حصاد هذا العدد الكبير من الأفلام، وجاء في المقدمة أن القائمة غير مكتملة بالمرة، وقد شملت أفلام السينما، ومسلسلات التلفزيون، بالإضافة إلى استخدام خلفية الحرب في أفلام التخيّل العلمي، والفانتازيا، مع الوقوف عند الحدث السياسي الكبير الذي دار في روسيا، واندلاع الثورة البلشفية من العام نفسه.

السؤال المطروح أمام القارئ، والكاتب، تُرى كم عدد الأفلام التي شاهدها كل منا عن هذه الأحداث؟ طوال قرن من الزمان، لا شك في أن هذا يعد مقياسا لمعرفتنا بما دار خلال هذه السنوات في أرض المعارك، ومراكز القيادة، وحول القادة أنفسهم، فلا شك في أن الحرب العالمية الأولى قد أفرزت عددًا كبيرًا من الروايات الأوربية والأمريكية المهمة، من أبرزها «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، و«وقت للحب ووقت للحرب»، تأليف الألماني إريك ماريا ريمارك، و«وداعًا للسلاح» للأمريكي هيمنجواى، و«نهر الدون الهادئ» للروسي  شولوخوف، و«دروب المجد» تأليف البريطاني همفري كوب، أما الروس، فهم أبرز من قدم أفلامًا عن وقائع الحرب العالمية الأولى، ولا يمكن التعرف على أهم ما أنتجته السينما من أفلام، دون الاستمتاع بقراءة النصوص الأدبية حول هذه الحرب.

 

أفلام‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬أثناء‭ ‬سنوات‭ ‬المعارك‭ ‬

تختلف مجموعة الأفلام السينمائية التي تم إنتاجها حول الحربين، فبينما تم إنتاج الأفلام الأولى، والسينما صامتة، عن الحرب عقب انتهائها مباشرة، فإن السينما الأمريكية بدأت في إنتاج أفلام عن الحرب الثانية أثناء سنوات الحرب نفسها، كنوع من التوعية، وهذا أمر غير مألوف، باعتبار أنه من الصعب عمل إنتاج فني، بينما الحدث لايزال في صيرورته. وقد كان شارلي شابلن من أوائل مَن أخرج أفلامًا عن الحرب في كلتا المرتين، فقد قدم شابلن فيلمه الروائي «أسلحة» عام 1918، من بين أول أربعة أفلام عن تلك الحرب، أما أول فيلم فرنسي، فقد أخرجه آبل جانس عام 1919 بعنوان «إني أتهم»، وسرعان ما قامت كل دولة شاركت في المعارك بإنتاج أفلام عن الحرب، ومنها بلجيكا وألمانيا، وكندا، والغريب أن بريطانيا قد أنتجت أول أفلامها عن الحرب عام 1928 بفيلم «فجر»، إخراج هربرت ويلكوكس، أما أول رواية أدبية تحولت إلى فيلم فكانت بعنوان «فرسان الرؤية الأربعة» للكاتب الإسباني فانسانت بلاسكو إيبانيث، صاحب الرواية الشهيرة «دماء ورمال»، وهي الرواية التي أنتجتها السينما الأمريكية أكثر من مرة.

إنها أفلام من الحرب، تحتاج إلى الكثير من الميزانيات، وتحريك المجاميع، وإلى مخرجين بارعين في هذا المجال، لذا، فإن أسماء بعينها لمعت في إخراج هذه الأفلام، ومنها كنج فيدور الذي قدم «العرض الكبير» عام 1925، وراءول والش وفيلمه «ما ثمن المجد» عام 1926، وويليام ويلمان مخرج فيلم «أجنحة» عام 1927، ثم جون فورد «أربعة أبناء» عام 1928، ثم لويس مليستون «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» عام 1930.

وطوال قرن بأكمله، فإن هوليوود حملت لواء تقديم أفلام ضخمة عن هذه الحرب، حدث هذا خلال الأجيال المتعاقبة، فهي صاحبة الاستديوهات الكبرى، والمخازن المتسعة بالملابس والعتاد، وقد تنوعت موضوعات هذه الأفلام حول المعارك الشهيرة، أو القادة البارزين،  بالإضافة إلى جواسيس اشتهروا في الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم ماتا هاري، حيث شاهدنا قصتها للمرة الأولى على الشاشة عام 1931، في فيلم يحمل اسمها من إخراج جورج فيتزموريس.

وليس من الغريب أن تكون فترة الثلاثينيات هي الأكثر خصوبة لعمل أفلام عن هذه الحرب، حيث اتضحت الرؤى، وصار على الجانب المنتصر أن يتباهى بما حقق من انتصار، وكان الجانب الألماني هو الخاسر في الحرب والسينما، بينما تقلصت قصص الحرب العالمية الأولى تمامًا في الأربعينيات، والسبب في ذلك - بالطبع - أن الحرب الجديدة حجبت الحرب الأسبق، في الوقت الذي استنفدت أفلام الثلاثينيات كثيرًا من القصص والموضوعات، وفي عام 1932 قدمت المعالجة الأولى لرواية «وداعًا للسلاح» من إخراج فرانك بورزاج، وهو الفيلم الذي ستتم إعادته مجددا بعد ربع قرن من إخراج تشارلز فيدور عام 1957، وفي عام 1933 شاهد المعسكر الشرقي أول فيلم من إنتاجه تحت عنوان «المواطنون»، وقامت ألمانيا النازية بعمل فيلم عن «فرسان شرق ألمانيا إلى إفريقيا» حول ما حدث في إفريقيا من معارك بين الألمان والحلفاء، وصار القادة الأمريكان والبريطانيون من الشخصيات الرئيسة التي تحكي الأفلام قصصهم، مثل «العريف يورك» و«الكولونيل بليمب» و«ويلسون»، وفي عام 1952 أعاد جون فورد إخراج الفيلم القديم «ما ثمن المجد؟».

 

دروب‭ ‬المجد‭ ‬

أما المرحلة الثانية التي نشطت فيها السينما لعمل أفلام عن الحرب العالمية الأولى، فهي النصف الثاني من الخمسينيات، حيث قدم الروس روايتهم «نهر الدون الهادئ» في عمل بالغ الضخامة عن رواية شولوخوف، ويعتبر فيلم «دروب المجد» هو أكثر الأعمال صدمة، من إخراج ستانلي كيوبريك 1958، حول الدور السلبي الذي لعبه الجنود الفرنسيون في الجبهة الغربية في مواجهة الألمان، وهو الفيلم الذي سبّب مشكلات، وتم منعه لعقود طويلة من العرض في فرنسا.

نحن نذكر جيدًا موضوعات الأفلام التي تم إنتاجها منذ هذه الفترة، فقد شاهدناها في الصالات، هي أفلام تنكل بالعدو الألماني، وتصف قادتهم بأنهم كانوا يجرون وراء ملذاتهم فاستحقوا الهزيمة، رغم تفوقهم في إنتاج العتاد العسكري، ولا يمكن نسيان الميزانيات الضخمة التي رصدت لفيلم «ماكس الأزرق» إخراج جون جيلرمين عام 1966، وبطولة جورج بيبارد وأرسولا أندريس، حيث يبدو هم المحاربين هو اقتناص نساء بعضهم البعض، وأنهم يحاربون فقط من أجل الحصول على الأوسمة، وهو الموضوع الذي ألصقته السينما دومًا بقصص الأفلام التي كانت تدور أيضًا حول هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

انتظرت دول كثيرة عقودًا طويلة كي تشارك في إنتاج أفلام عن هذه الحرب، ومنها أستراليا التي بدأت في إنتاج أفلام عن الحرب في الثمانينيات، ومنها فيلم «جاليبولي» عام 1981 لـ«بيتروير»، الذي تدور أحداثه في القاهرة أثناء هذه الحرب، ثم فيلم «فرسان الضوء» عام 1987 إخراج سيمون ونسر عن إحدى المعارك التي دارت في أستراليا، وفي هذا العقد اكتشفنا أن الحرب طالت أماكن عديدة منها نيوزيلندا وكندا ورمانيا وإيرلندا وبلجيكا، وطوال عقد من الزمان لم تخبُ معارك ووقائع الحرب العالمية الأولى عن شاشات السينما، ففي عام 2008 أنتجت إسبانيا فيلما من الرسوم المتحركة باسم «الأبطال الطائرون» إخراج ميجيل بيخول، وقدمت تركيا فيلم «120» إخراج أوزان أرن، كما شاهدنا في السنوات القليلة الماضية أفلامًا من إنتاج صربيا، والنمسا، وفرنسا، وكرواتيا، وتركيا التي قدمت عددًا لا بأس به من الأفلام مثل «الطريق الطويل للوطن» عام 2013، و«نهاية الطريق» وهو من إخراج كمال أوزون.

نشرت رواية «دروب المجد» عام 1935، لهمفري كوب، وعندما انتهى مؤلفها من كتابتها لم يكن قد اختار عنوانًا مناسبًا لها، ولفت انتباهه قصيدة للشاعر توماس جراي يقول فيها إن دروب المجد تتجه دومًا نحو المقبرة، وعندما نشرت الرواية حققت نجاحًا محدودًا، وقد استمد المؤلف روايته من أحداث حقيقية عاشها أربعة من الجنود الفرنسيين عام 1916، وتم تحويل الرواية إلى مسرحية عرضت في برودواي، من إخراج واحد من الضباط الذين شاركوا في العمليات العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي شبابه، لفتت أحداث الرواية انتباه ستانلي كيوبريك، وكانت من أول مشاريعه السينمائية حيث أخرجها عام 1958، وكان في سن التاسعة والعشرين، وأسند البطولة إلى صديقه كيرك دوجلاس الذي ساهم في الإنتاج.

المؤلف مولود في إيطاليا عام 1899 لوالدين أمريكيين ما لبثا أن أخذاه إلى بريطانيا ثم رحل وهو في سن الثالثة عشرة إلى الولايات المتحدة ليكمل تعليمه، ثم رحل إلى كندا، حيث تم تجنيده ليحارب إلى جانب الفرنسيين في الحرب العالمية الأولى، وقد أصيب في الحرب، وبعد أن انتهت جُنّد في البحرية البخارية، وقام بجولة حول العالم، ثم اتجه إلى التأليف فكتب السيناريو، والروايات، وفي الحرب العالمية الثانية، اتجه لكتابة الحملات الدعائية لمصلحة الجيش الأمريكي، بعد أن أحس بأنه لم يحقق أي شهرة في عالم الأدب.

 

خزينة‭ ‬مملوءة‭ ‬بالذخيرة‭ ‬

أما ستانلي كيوبريك، فقد تخصص في تحويل روايات عدة إلى أفلام، الكثير منها حول الحروب سواء في التاريخ، أو المستقبل، ومنها «سبارتاكوس» عام 1961، و«2001 أوديسا الفضاء» عام 1968، و«باري لندن» عام 1975، و«خزينة مملوءة بالذخيرة» عام 1987، وهو من أبرز صنّاع السينما في النصف الثاني من القرن الماضي.

تدور أحداث هذا الفيلم الأهم عن وقائع الحرب العالمية الأولى، حول الجنرال الفرنسي جيرو، الذي أصدر أوامره بإعدام أربعة من جنوده، وذلك بهدف إثارة الخوف في قلوب بقية جنوده، كي يتمكن من السيطرة على زمام الأمور، ودفعهم إلى القتال، وذلك عام 1916. تدور الأحداث عند الحدود الألمانية- الفرنسية، من خلال وحدة الجيش الفرنسي المرابطة في الخنادق، لمنع القوات الألمانية من دخول أرض فرنسا، هناك الجنرال ميرو الذي عليه تنفيذ أوامر قائده كي يحقق المجد الذي ينشده، أما الجنرال داكس، فهو يرفض أن يكون سببًا في قتل جنوده كما أمره الجنرال ميرو.

يطالب رئيس هيئة الأركان الفرنسية بالهجوم على القوات الألمانية، ويدرك الجنرال ميرو استحالة المهمة الملقاة على عاتقه، ولكن في مقابل ترقيته، فإنه يوافق. وفي الخنادق التي يعيش فيها الضباط والجنود، هناك العقيد داكس (كيرك دوجلاس) الذي يقرر الدخول في المعركة المنتظرة، شرط ألا يبتعد عن جنوده، إلا أن الجنود الفرنسيين يفشلون في التقدم، فالمدفعية الألمانية شديدة الضراوة، ما يدفع الجنرال أن يقصف الخندق بجنوده، الذين لم يتمكنوا من الخروج من أماكنهم بسبب النيران الكثيفة، ويجد الجنود أنفسهم أمام خيارين، إما أن يموتوا من خلال إطلاق المدافع الفرنسية عليهم، وإما أن ينزلوا إلى أرض المعركة ويهزموا القوات الألمانية، ويصدر قرار بإعدام أربعة من الجنود الجبناء، الذين نجوا من المعركة. وسط هذا العدد الكبير من الأفلام، فإننا اخترنا التوقف عند فيلم «دروب المجد» الذي ما إن تذكر الحرب العالمية الأولى حتى ترجع بنا الذاكرة إلى هذا الفيلم الذي يمثل الحرب العالمية الأولى. هذا الفيلم يعتمد على ما جرى للجنود والضباط، ويعبّر تماما عن قسوة الحرب وضحاياها، وما كان يحدث في المخابئ، أما الكثير من الأفلام التي ذكرناها فقد كانت الحرب بمنزلة ديكور لقصص عاطفية بين القادة والنساء، مثل «ماكس الأزرق»، أو هي أفلام عن عالم التجسس، فما أكثر ما رأينا من أفلام عن الجاسوسة «ماتا هاري»، كما جسّدتها كل من جريتا جاربو وسيلفيا كريستال وماجدة سونيا وغيرهن، وهذا ما نطلق عليه حواشي الحرب، وليس الوغى نفسه، وميادين القتال المليئة بالقسوة والدماء، والهزية والانتصار .