التنوير والعقلانية على الـ «فيس بوك»

التنوير والعقلانية على الـ «فيس بوك»

قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬استخدام‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وخصوصا‭ ‬الموقعين‭ ‬الأشهر‭ ‬‮«‬فيس‭ ‬بوك‮»‬‭ ‬و«تويتر‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬ظاهرة،‭ ‬تستغرق‭ ‬اليوم‭ ‬زمنا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬البشر،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ ‬كان‭ ‬الاهتمام‭ ‬منصبا‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬المدونات،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تضمنته‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الكتابة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬خواطر‭ ‬ويوميات،‭ ‬أو‭ ‬تأملات‭ ‬وأفكارًا‭ ‬خاصة‭ ‬وذاتية،‭ ‬أو‭ ‬ملاحظات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية،‭ ‬أو‭ ‬فرصة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬المحظور‭ ‬أو‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬وسائط‭ ‬النشر‭ ‬الورقية‭ ‬والنمطية،‭ ‬وصولا‭ ‬للأدب‭ ‬والفن‭. ‬

وكان من السهل ملاحظة مدى الشعبية التي تتمتع بها المدونات، من خلال العدد الكبير من التعليقات التي تتذيل تدوينات المدونين في المواقع المختلفة، أو من خلال رصد أرقام المتصفحين للمدونات، عبر خدمة توفرها شركات الإنترنت ويبثها المدونون في صفحاتهم، لتأكيد مدى شعبية مدوناتهم أو مقروئيتها، وصولا إلى مسابقات المدونات العالمية، وأشهرها جائزة «بوبس»، التي كانت تقام بالتعاون مع منظمة «مراسلون بلا حدود»، وإذاعة «دويتش فيلا».

لكن بعد اتساع رقعة الثورات، أو الانتفاضات الشعبية ضد أنظمة الحكم في كل من تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن، وانتقال الحراك الاجتماعي والسياسي إلى مستوى غير مسبوق في أغلب الدول العربية، تحول الجميع تقريبا من التدوين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، باعتبارها الوسائل الافتراضية الأكثر تأثيرا والأوسع انتشارا، مع تردد المستخدمين عليها بشكل يكاد يكون مستمرا طوال اليوم، حيث يتم لفت الانتباه فيها إلى مواعيد التظاهرات، أو تأييد فكرة، أو مرشح، أو إعلان وقفة احتجاجية، وغير ذلك من الأنشطة الاحتجاجية المرتبطة بأجواء التمرد والعصيان الجماهيري على الحكومات الانتقالية التي أعقبت سقوط الأنظمة الديكتاتورية التي سقطت في كل من تونس ومصر وليبيا، واحتجاجا على أنظمة أخرى في بقع مختلفة من العالم العربي. 

 

بريق‭ ‬المدونات‭ ‬يخبو‭ ‬

في ذروة الحراك السياسي، تمتعت المدونات ببعض البريق،  لكن بالتدريج، ومع المسارات المختلفة التي اتخذتها حركات الاحتجاج السياسي في كل من مصر وتونس، حيث وصلت السلطة الدينية للحكم باسم الثورة، وحتى إسقاط نظام الإخوان في مصر، وارتفاع مواجهة التيار المدني للحكومة الإسلامية في تونس، مع ما صاحب ذلك من صراعات أو توافقات بين الأطراف المختلفة من خارج الدولتين، بدأ الاهتمام بالمدونات يقل كثيرا، وظلت التعليقات المبتسرة على ما يحدث من خلال الوسائط الاجتماعية تأخذ في الاتساع، ولكن حتى على حساب الأفكار الموسعة للأفكار. 

هناك عدد من النقاط التي يمكن تأملها بخصوص ظاهرة الانسحاب من المدونات إلى الوسائط الاجتماعية، من بينها أولا: إن تراجع الاهتمام بالمدونات هو في الحقيقة تراجع أيضا في عملية «القراءة»، إذ إن تصفح المدونات في جوهره عملية قراءة لأفكار أو معرفة أو أدب.. إلخ. وهذا التراجع غالبا ما يكون في مصلحة مساحة جديدة، تبتغي التصفح اللاهث السريع لما يقوم الآخرون في قائمة الأصدقاء في الـ «فيس بوك» أو «تويتر» ببثه، وجله تعليقات مبتسرة سريعة، بعضها ساخر، وبعضها شخصي وعائلي، وأحيانا قد يكون محتوى البث صورًا، أو ربما إشارة إلى مقال أو فكرة في صحيفة أو لقطة فيديو. بل إن الأمر أخذ بعدا آخر أيضا، بعد تحول الساحة السياسية من إرادة جماعية مع التغيير ضد نظم حكم فاسدة إلى استقطابات عديدة. 

ثانيا: لا يتعلق الأمر هنا، كما قد يبدو بطبيعة الوسيط، أي صفحات التواصل الاجتماعي التي قد يعتبر البعض أنها لا تعد وسيلة للتثقف أو القراءة، لأن الفترة التي أعقبت بدء الحراك السياسي، شهدت لونا من الحوارات العميقة عن العديد من القضايا السياسية مثل الدستور، وفكرة مدنية الدولة، ومدى أهمية فكرة وجود وزارة ثقافة، أو وزارة للإعلام في مصر، وكان العديد من مستخدمي الـ «فيس بوك» يكتبون تدوينات مطولة يبحثون فيها هذه القضايا بالتفصيل، وعبر نماذج تاريخية وأفكار فلسفية وسياسية. 

 

الـ‭ ‬‮«‬فيس‭ ‬بوك‮»‬‭.. ‬مرايا‭ ‬الفشل‭!‬

يعني ذلك في تقديري أن ظواهر «الخفة» الشديدة الطافية الآن على سطح مساحات التواصل الاجتماعي، وسيادة منطق السخرية نكاية في السلطة أو وسيلة لنقد السياسي، وغياب الأفكار، تعكس فشل الانتفاضات الشعبية في تعميق أفكارها، وتحويلها إلى خطط عمل، كما تعكس فشل استيعاب الحركات المدنية، لأن الثورة ليست مجرد الاعتصام في الميادين، بل هي خطة طويلة الأجل تبنى وتتطور بإنشاء مؤسسات مدنية سياسية واجتماعية تمتلك خطط عمل شاملة لرفع الوعي السياسي للمجتمع، والتأثير في الجمهور لاكتساب أرضية وشعبية تمكنها من تحقيق وسائل ضغط على فلول النظم القديمة ومؤسساتها التي يضرب فيها الفساد. ثم تقديم البديل المؤسسي المتخلص من آفات الفساد وسوء التنظيم واللاكفاءة. 

 

التنوير‭ ‬الافتراضي‭!‬

أقول هذا حتى أصل إلى النقطة الثالثة الخاصة بظاهرة تراجع تصفح المدونات، التي كان لها بديل إيجابي مهم على صفحات الـ «فيس بوك» يتمثل في الدور الذي لعبه عدد من الأفراد، الذين يحسبون على النخبة المثقفة بشكل أو آخر، سواء كانوا أكاديميين، أو إعلاميين وكتابا، أو نشطاء سياسيين، والذين رأوا في هذا الوسيط الذي يلقى شعبية كبيرة في التصفح، فرصة لنشر أفكار يمكن اعتبارها في تقديري أفكارا تنويرية، وأظن أن هذا هو الدور البديهي والطبيعي للتنظير في فكرة الثورة والتغيير، من خلال توضيح مواقفهم من الأحداث المختلفة، وذلك منذ وصول الإخوان للحكم، وصولا بخروجهم من السلطة وحتى اليوم. 

وتتنوع أفكار هؤلاء الأفراد بين التعريف بالفكر المدني العلماني، وبين الاعتماد على نقد الفكر الرأسمالي من خلال التعليق على الأحداث المختلفة، بينما يتبنى البعض النقد الاجتماعي وربطه بظواهر التاريخ السياسي والاقتصادي في المجتمع. 

وهناك من يحاول تأمل العديد من الأحداث والظواهر الإعلامية والتعليق عليها بتحليلها من أكثر من جانب، بما يجعل فحص وتفنيد وجمع هذه الآراء - لو تم بشكل تراكمي - يقدم ما يشبه سجلا افتراضيا لنوع من العقلانية وأفكار التنوير. 

ومن بعض نماذج هذه الأسماء التي تقدم هذه الأفكار على صفحاتها، على سبيل المثال لا الحصر، وذلك في حدود متابعتي الشخصية للحالة المصرية، يمكن أن نرى صفحات كل من  د.خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ود.شريف يونس، أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، د.جليلة القاضي وحامد عبدالصمد أستاذ الدراسات الإسلامية في برلين، والكتَّاب مثل رءوف مسعد، مهاب نصر، ناصر فرغلي، خالد البري، وأشرف الصباغ، وبعض النشطاء السياسيين ممن يعملون في حقول الفن أو المجال الحقيقي، مثل باسل رمسيس أو خالد  منصور وغيرهما. بالإضافة قطعا إلى إسهامات بعض رموز التنوير من الكاتبات، والتي قد تتخذ تعليقات نقدية مكثفة لكنها تصب في خانة الانحياز إلى تراكم الأفكار الخاصة بالعقلانية والحرية، وتأكيد ذلك في ما يعتقد بوضع المرأة وخصوصا من مثل بعض الكاتبات والناشطات مثل سمر علي، ومنى برنس ومي التلمساني وغيرهن. والأسماء هنا أمثلة فقط، ونماذج وليست حصرا دقيقا أو نفيا لغيرهم.

كتابات هؤلاء الكتاب تمثل لونا من العقلانية والتنوير، لأنها تقدم أو تحاول أن تقدم شكلا من أشكال النقد المشفوع بالتحليل. تقدم رؤى مختلفة كإضاءات لمن يهتم، سواء من الجمهور العادي أو القوى المدنية والمثقفين، كأنهم يحاولون تقديم الحد الأدنى من المساهمة في إضاءة طريق طويل قد ينتهي يوما بالحرية والديمقراطية والعدالة. 

وأهمية هذه الطروحات في تقديري أنها تؤسس للتغيير، أو تفتح الطريق لأسس الحوار العقلاني ومناقشة جميع الثوابت السياسية والاجتماعية التي سادت بفضل الفراغ السياسي والفكري الذي استمر أو امتد على مدى عقود طويلة. 

وأعتقد أن مثل هذا الأفكار رغم أهميتها اليوم باعتبارها وسيلة لمناوشة أفكار واهتمامات جمهور مختلف المشارب على الـ «فيس بوك»، لكنها ربما ستختمر أكثر وربما تتطور أو تلهم آخرين لتكوين أفكار مهمة في ترسيخ وتجذير مفاهيم العقلانية والتفكير في المستقبل.

 

عصر‭ ‬الأنوار‭ ‬

هذا تقريباً هو نفس الدور الذي لعبه رموز التفكير والتنوير في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وهو لم يؤجج الثورات في أوربا بقدر ما أسس لأفكار  مختلفة خلقت موجات من الإصلاح السياسي والفكري والديني والاجتماعي من جهة، وساهمت طبعا في انتقال الثورات من بلد لآخر أيضا تأسيسا على دعائم فكرية وعقلانية من جهة أخرى. 

ومن المناسب هنا تعريف القارئ أو تذكيره بأن عصر التنوير هو  حركة ثقافية فكرية بدأت في أوربا أواخر القرن السابع عشر، استهدفت إعلاء شأن العقلانية والفردية على حساب المفاهيم التقليدية، وكان الغرض منها إصلاح المجتمع باستخدام الأسباب العقلية، لتحدي الأفكار التي ترتكز على التقاليد والأفكار المرتكزة على النقل، وعلى دفع عجلة المعرفة من خلال المنهج العلمي، لتعزيز الفكر العلمي والشك، والتبادل الفكري. وكان التنوير ثورة في الفكر الإنساني، إذ إنه جسَّد وسيلة جديدة للتفكير العقلاني الذي يستخدم المنطق الصحيح للوصول إلى استنتاجات، واختبار الاستنتاجات ضد الأدلة، ومن ثم تنقيح المبادئ في ضوء الأدلة.

على الرغم من مرور ما يقرب من نحو ثلاثة قرون على بدء عصر التنوير أو عصر الأنوار، فإن تلك الحقبة المهمة لاتزال تشغل بال المؤرخين والمفكرين في الغرب، لأهميتها الشديدة في ترسيخ أفكار  تمجِّد العقل والحرية وتبشِّر بقيم الانعتاق من نير الاضطهاد باسم المطلق اللاهوتي أو باسم الحقيقة القديمة أو باسم الحاكم بأمره الفردي المدعوم بعصمة الكنيسة. وارتبطت بأسماء عدد من المفكرين الكبار مثل إيمانويل كانط، الذي يعد أول من قدم صياغة تعريفية لفكرة التنوير، وجان جاك روسو وفولتير وديفيد هيوم ومونتسيكو وغيرهم.

حتى ذهب المفكر الفرنسي تودوروف  للقول إن الأنوار هي في آخر التحليل فكرة الاستقلالية والتحرر من أشكال الوصاية التي تفرض على الجميع أسلوب التفكير والممارسة نفسها. ويؤكد «تودوروف» أن الوصاية قد اتخذت حينها شكل هيمنة دينية باسم الكنيسة ما يجعل الاستقلالية تحمل بعدين، يتمثل الأول في استقلال الفرد في إدارة حياته الشخصية، ويحيل الثاني إلى استقلالية المجموعة وحقها في إدارة شئونها باشتراع القوانين المنظمة لحياتها وتعيين من يدير سياسة البلاد بكل حرية.

وقد عمل فكر الأنوار، عبر إسهامات العديد من المفكرين الكبار في كل من فرنسا وإنجلترا ثم ألمانيا وباقي دول أوربا على تحديد العلاقة بين حرية الفرد واستقلاليته وحرية المجموعة واستقلاليتها، بصياغة شروط التوافق بين المصلحة العمومية التي تحد من النزعات الفردية المنفلتة وبين مصالح الذات. ولعل ذلك فعلا ما سيترجم في بروز نظريات التعاقد الاجتماعي وعلاقات السيادة بالمواطنة.

كان عصر التنوير وما أنتجه من أفكار وضعية وعقلانية ملهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أسفرت عن قيام الدولة الحديثة بالصورة التي نعرفها اليوم في الغرب. وقد ارتكز قيام هذه الدولة على وجود بيروقراطية، وقيام جيش كمؤسسة قوية ومتمتعة باستقلال نسبي، وسيادة جو من العقلنة في التنظيم. وقد سادت في هذه الدولة أنظمة سياسية بديلة عن أنظمة القرون الوسطى، بحيث قامت هذه الأنظمة بانتزاع الصفة الإلهية من سلطة الملوك فاصلة الدين عن الدولة.

شكلت هذه الحركة أساسا وإطارا للثورة الفرنسية ومن ثم للثورة الأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية. كما مهدت هذه الحركة بالتالي لنشأة الرأسمالية ومن ثم ظهور الاشتراكية لاحقا. كما أنها مهدت للعديد من ثورات الفكر التي أدت لحركة علمية وفلسفية قوية، وتسببت في نشأة العديد من النظريات السياسية الجديدة والأفكار الاقتصادية والكشوف العلمية والجغرافية، وهو ما أثر في تقدم البشرية بشكل عام.

وعلى الرغم من أن المنطقة العربية قد عرفت العديد من حركات الإصلاح في بدايات القرن الماضي أسهمت في تحرير المنطقة العربية من نير الاستعمار، لكن أغلب الحكومات المحلية التي تسلمت السلطة من المستعمر الغربي تحولت إلى نظم شمولية عادت بالمجتمعات العربية إلى الفترات التي تذكرنا بمجتمعات ما قبل الثورات في الغرب، وهو ما يجعل من تلك الفترة اليوم محلا للتحليل والتنقيب وإعادة القراءة، لفهم وقراءة، ما يدور على الساحة العربية اليوم، ومن هنا تأتي الأهمية الشديدة لأفكار التنوير والعقلانية على ساحات الوسائط الاجتماعية الافتراضية .