من «غياب المواطن» عند علي الوردي.. إلى «غياب الدولة» أيضًا!

من «غياب المواطن» عند علي الوردي.. إلى «غياب الدولة» أيضًا!

في  الملف الذي نشرته «العربي» في العدد 658 لشهر سبتمبر 2013 عن عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي إشارة إلى ما ذكره الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق» عن ازدواج الشخصية عند الفرد العراقي. وإذا عدنا إلى ذلك العمل لوجدناه يقول:
«كان العراقيون في العهد العثماني يعتبرون الحكومة عدوّة لهم، فهم يفتخرون بعصيان أوامرها، ويحتقرون مَن يتعاون معها، وقد ينظرون إليه كما ينظرون إلى جاسوس، وإذا جاءهم هارب من الحكومة ولجأ عندهم «دخيلاً»، فالمفروض فيهم أن يخفوه ويدافعوا عنه ويضللوا رجال الحكومة عنه».
وهو يضيف:
«في العراق ظاهرة اجتماعية نكاد نلاحظها في كل مكان، هي أن الفرد العراقي ميّال إلى انتقاد حكومته، ووضع اللوم عليها في كل ما لا يعجبه من أمور الحياة، وكثيرًا ما يقارن حكومته بالحكومات الراقية حضاريًا ثم يأخذ بالتأفف والشتم. إنه يريد حكومته أن تكون أرقى حكومة في الدنيا، ولكنه ينسى أنه لا يتعاون معها ولا يطيع قوانينها، أو بعبارة أخرى يريد منها أن تكون كحكومة السويد - مثلاً - بينما هو يسلك تجاهها كما كان أبوه يسلك تجاه الحكومة العثمانية». والواقع أن هذه الظاهرة ليست محصورة بالعراق، بل تتعداه إلى معظم البلاد العربية وبعض البلاد غير العربية التي تنتمي إلى العالم الثالث. فإذا وضعنا كلمة «عربي» محل كلمة «عراقي» لما تغير شيء في التوصيف السابق. فالمواطن العربي حريص أشد الحرص على حقوقه، كثير الهرب والتهرّب من واجباته. وإنك لتجد كثيرًا من المواطنين يظهرون على شاشات التلفاز - مثلاً - وهم يطالبون الدولة بمساعدتهم لأنهم يعيلون سبعة أولاد أو أكثر، وكأن الدولة كلية القدرة، وهي التي طلبت منهم أن يعطوا الحياة لعدد كبير من الأطفال الذين لا يستطيعون إعالتهم بأنفسهم! بالإضافة إلى ذلك، فإن أمنية الفرد العربي الأولى هي التوظف في الدولة، حيث المعاش ومتفرعاته الإضافية مضمونة طوال العمر. ولكنه، بالمقابل، لا يحترم هذه الدولة التي أصبح جزءًا منها، فلا يداوم في أوقات عمله، ولا يقوم به إلا في أضيق نطاق، وبعد كثير من الوساطات التي يقدمها له أخوه المواطن. هذه الظاهرة التي يرافقها - ويا للمفارقة - كره للدولة ورموزها، منتشرة عربيًا في أكثر من مجال. فإذا قامت تظاهرة لسبب سياسي أو اجتماعي كانت مؤسسات الدولة ووزاراتها ووسائل النقل العام التي تسيّرها - والتي يستفيد هو منها - هي الهدف الأول. وفي لبنان، مثلاً، يشار إلى سيارة النقل العام باسم «جحش الدولة!».
بالمقابل، فإن كثيراً من رجالات الدولة والقائمين عليها لا يحترمون قانون هذه الدول التي يمثلون، فهم يتصرفون على أساس أن القانون للعامة وليس للخاصة من أمثالهم الذين هم فوق القانون. وهكذا تنشأ دولة مضادة للدولة من داخلها كما نشأ مجتمع كاره للدولة من خارجها وداخلها في آن معًا. فلا مواطن صالح ولا دولة صالحة! وإزاء هاتين السلبيتين لعل بداية الحل الصعب لهذه المعضلة تكمن في ما اقترحه بعض المفكرين العرب قبل قرن من الزمن مثل فتحي زغلول ورشيد رضا ومحمد كرد علي، حين دعوا المواطن إلى الاعتماد على نفسه في التربية والعمل المستقل عن الدولة، حتى لا تشيع روح اللامبالاة، وتصبح المسئولية عبئًا يحذر منه.