طبَـرِيَّـا... المدينة وبحر الجليل حين ينشد عمق المكان أعماق الزمان

طبَـرِيَّـا... المدينة وبحر الجليل حين ينشد عمق المكان أعماق الزمان

تقول‭ ‬الكتب‭: ‬إن‭ ‬يأجوج‭ ‬ومأجوج‭ ‬سيشربون‭ ‬مياه‭ ‬بحيرة‭ ‬طبريا‭ ‬كاملة‭ ‬حتى‭ ‬تنشف‭! ‬

فهل‭ ‬هي‭ ‬بركة‭ ‬صغيرة‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الشاربين‭ ‬القادمين‭ ‬كثر؟‭!‬

فهل‭ ‬ستجف‭ ‬فعلا،‭ ‬وهي‭ ‬مازالت‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬التكوين‭ ‬تستقبل‭ ‬مياه‭ ‬الأنهار‭ ‬العذبة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الشمال،‭ ‬لتصبح‭ ‬أكبر‭ ‬مخزن‭ ‬للمياه‭ ‬في‭ ‬فلسطين؟

البقعة الزرقاء في شمال فلسطين، على الخارطة، تصبح خلال وقت قصير بحيرة كبيرة أسموها منذ القدم ببحر الجليل. وللقادم إلى هذا البحر أن يسلك طريقه، كل حسب مكان انطلاقه، فنحن المنطلقون من جبال الضفة الغربية لنهر الأردن لنا خياران، فإما أن نقطع الجبال إلى الشمال، ثم نودعها متجهين إلى أولى الهضاب والسهول، وإما أن نهوي إلى غور الأردن، مودعين الجبال الغربية لنسير في طريق بيسان، وهذا ما اخترناه، على طول نهر الأردن وصولا إلى البحيرة والمدينة.

كانت الأرض واحدة، برا وبحرا، وفي الانهدام الآسيوي – الإفريقي الشهير، ظهر البحر الأحمر، والغور بحفرته الانهدامية «بحيرة الميت» و«بحيرة طبريا» و«بحيرة الحولة» التي جففها الإسرائيليون لأهداف زراعية، وبعيداً بعض الشيء ظهر البحر الأحمر، وعلى امتداد النهر المقدس.

ها نحن نودع  بحيرة الميت بمائها المالح متسائلين عن سر الملوحة، رغم أن منابع النهر الذي يصب فيها كلها مياه عذبة تصل من بانياس والحاصباني والدان، قادمة من ثلوج ومياه جبل الشيخ. وها نحن نستقبل ماء طبريا العذب، وما بين الماء المالح والماء الحلو لنا أن نتأمل، لأنه كان لا بد منذ القدم من وجود الماءين لتتصاعد دراما الأرض ويجد الناس ملحاً يعطي طعامهم مذاقاً جديداً، وللفلاسفة أن يبرروا بعد ذلك ثنائيات الليل والنهار والخير والشر والحب والكره، وخصوصا على هذه الأرض المسلوبة: الماء والتراب.

لكن هذا العمق بحد ذاته ينشد عمقاً: نسير إلى الشمال الفلسطيني مارين بالغور في الجانب الغربي لنهر الأردن، وتستمر الرحلة، في مدن الغور، بدءا بأريحا، حيث نشرب قهوتنا الصباحية في بيسان فطبريا. 

أطلت مياه طبريا الزرقاء، وكأننا نراها لأول مرة، ففي المرات السابقة زرناها من جانبها الغربي الفلسطيني، وفي هذه المرة، ها نحن نسير من برّها الشرقي، بسرعة نستحضر الخارطة، فأقول لمن معي، نحن الآن في القطر السوري الشقيق، وهذه هي الضفة الشرقية للبحيرة، وهي تختلف كثيراً عن ضفتها الغربية بمدنها وقراها ومستوطناتها. والشاطئ السوري هنا، مازال بكراً، طبيعياً، رغم خططهم القديمة للاستيلاء على الماء العذب.

 أنظر إلى أشجار الشاطئ وأتخيل من كان هنا يوماً يحيا في أرضه كغيره من البشر، وأتخيل العائدين إليه للعيش واللهو والترفيه والسياحة.

 

المدينة‭ ‬والبحيرة

نسير على الشاطئ الغربي، فنصل إلى المدينة، وطبريا الآن، مدينة سياحية، متوسطة، فيها العديد من الفنادق والمنشآت، وعلى شواطئها تمتد المطاعم وأماكن الترفيه، وعلى شاطئها تقع البحيرة العذبة، وترتفع المدينة الاستيطانية الجديدة التي بناها الإسرائيليون، فيما يتقاسم الشاطئ والتل الصغير طبريا الفلسطينية العربية، فهي ساحلية، جبلية، هادئة كما بحيرتها. وبإمكان الزائرين رؤية بعض بيوت طبريا القديمة. أتأمل تلك البيوت في الشارع الداخلي قرب أقدام الجبل، لعل فلسطينيا أو فلسطينية يطل من أحدها دون جدوى. من السهل معرفة البيوت من الشكل المعماري، رغم التجديد والترميم، بالإضافة لطلاء الحجارة القديمة بطلاء لامع. كانت منازلها ومبانيها الحديثة العربية واليهودية منتشرة على منحدر في اتجاه شاطئ البحيرة، بينما لامست البلدة القديمة الشاطئ ذاته. 

أقرأ البيوت والعمران، نسير قليلا، ثم تقودنا مئذنة إليها أسير على الشاطئ، هذا هو مسجد البخاري بمئذنته على الشاطئ تماماً، دليل وجود ساطع، أنظر داخل المسجد، فأفاجأ بتخريب أرضيته، وعمل حفرة فيها، فقد رأيت قبل سنوات عمليات ترميم داخلية وخارجية وخصوصا للأرضية، حيث نشط فلسطينيو الداخل في الاهتمام بالمعالم الدينية والحفاظ عليها. أطل من الشباك، أتأمل حزن المسجد من التخريب، بعد أن انتعش قبل سنوات مع جهود الترميم. عاد المسجد مهجورا كما كان أول مرة أراه!

ندور قليلا إلى الداخل مبتعدين قليلا، فإذا نحن أمام كنز معماري بديع الجمال، إنه المسجد الزيداني، الذي بناه الظاهر عمر، لكن ما أحزننا هو أنه مهجور، وعلى مقربة منه مطعم وبار!

هذا هو مركز المدينة، فهذا مبنى السرايا العثماني وسط المدينة والذي بناه وجدده الظاهر عمر، وهناك أسوار المدينة القديمة وغيرها من الآثار الرومانية. سألت عن حمامات الاستشفاء بالمياه المعدنية التي اشتهرت بها المدينة قديما، فأشاروا إلى مبنى عصريّ غير بعيد؛ حيث ما زالت لها هذه الشهرة؛ لسخونة مياهها المعدنية، حيث يرتادها مرضى الروماتيزم والجلد في فصل الشتاء بهدف الاستحمام والاستشفاء، وهكذا فقد تم تحديثها وتطويرها من قبل الإسرائيليين، وباتت مصدر جذب سياحياً يدر الكثير من الأموال.

توقفنا عند الجامع الكبير، أو كما يسمّيه الطبرانيون (الجامع الفوقاني) الذي تم تشييده في العام 1156 الهجري (1743 الميلادي) وهذا ما يؤكده حجر تاريخ رخامي مثبت فوق مدخل المسجد كتبت عليه الأبيات الشعرية الآتية:

نزِّهِ‭ ‬الألحاظَ‭ ‬في‭ ‬روضٍ‭ ‬غدا

جامعاً‭ ‬للبرِّ‭ ‬والدين‭ ‬المبينْ

واسْألِ‭ ‬المَولى‭ ‬بِقلبٍ‭ ‬ضارعٍ

وادْعُ‭ ‬للباني‭ ‬وَقُلْ‭ ‬للمؤمنينْ

مسجدٌ‭ ‬قد‭ ‬أرّخوا،‭ ‬بل‭ ‬جامعٌ

فادخلوه‭ ‬بسلامٍ‭ ‬آمنينْ

(سوّده محمد ابن داود سنة 1156)

 

أصحاب‭ ‬الدار

بالقرب من مركز السرايا، شغل المتدينون اليهود الطابق الأرضي منه، وعند تجولنا في المدينة لاحظنا وجود أعداد كبيرة من المتدينين والمتدينات، ومن السهل التعرف عليهم من خلال الملابس التي تميزهم. ورغم أن المدينة من المدن السياحية هنا، فإن ذلك لم يمنع وجود المتدينين، ويعود ذلك إلى أن طبريا اعتبرت مركزا دينيا جذب المهاجرين اليهود قبل عام 1948 وبعده.

لم يبق في طبريا أي فلسطيني، لقد هجرّت البلاد من أهلها تماما، فمعظم سكانها تهجروا، ومن لم يتهجر، فقد لجأ إلى بعض القرى الفلسطينية قرب المدينة. أسأل فلسطينيا يعمل في مطعم في المدينة عن وجود فلسطيني فيها، فيرد بالنفي، لم يبق أحد هنا أخي، لكن حولها ربما تجد من كبار السن ليحدثك عن المدينة زمان، قال ومضى. كان الناس يعيشون هنا، يعملون، يصطادون، يحبون، يصلون.. فأين ذهب أصحاب الدار؟

ها هي طبريا الآن بعد 66 عاما على سقوطها... فكيف كانت من قبل؟ 

 

مفتاح‭ ‬المدينة

الماء مفتاح المدينة المستلقية على شاطئها، والمدينة ابنة البحيرة، ترافقا منذ الأزل... وهأنذا أجلس على شاطئ البحيرة، أستدعي بعض التاريخ، أنظر لماء البحيرة، والتي عمقها الماء 40م، أما أقصى طول لها فهو 21 كم، وأقصى عرض 13 كم. هذا هو بحر الجليل أطلّ عليه هادئاً، لا البحيرة صاخبة، ولا هي كالبحر بأمواجه، فماذا تقول البحيرة، وماذا يقول جمالها وعذوبة مائها التي تطفئ عطش الملايين من الناس وهي المخزن الاستراتيجي للمياه؟

يصب فيها نهر الأردن ثم يقطعها متدحرجا نحو الجنوب ليرتاح في مصبه الأخير في بحيرة لوط، أو البحر الميت. نمت المدينة على برها الغربي، عند أقدام الجليل الشرقي. فارتبطت المدينة بالبحيرة كما لم ترتبط مدينة أخرى بماء، حتى غدا الاسم هو البحيرة وهو المدينة.

بحيرة ونهر، تزاوجا منذ القدم؛ إنها إذن مجراه، تصب فيها مياه جبل الشيخ التي تصلها عن طريق ثلاثة أنهار، ثم ما تلبث أن تتحد في النهر الواحد نفسه، الذي يصب فيها.

لكن كيف يمكن أن نخلد لجمالها من دون التفكير في التاريخ والسياسة، والتاريخ بالذات والحضارات التي تعاقبت هنا والغزو أيضا؟

«تأسست مدينة طبريا في سنة 20 للميلاد قرب بقايا مدينة الرقة الكنعانية على يد الإمبراطور الروماني هيرودس الذي كان من أنجال هيرودس الكبير. وسمى هيرودس أنتيباس المدينة على اسم الإمبراطور الروماني طيباريوس قيصر (الأول). أصبحت المدينة مشتى يؤمه الكثيرون لخصوبة أرضها وينابيعها الساخنة.

بعد بناء مدينة طبريا، لاقت هذه المدينة ازدهاراً، وخصوصاً بعد اهتمام هيرودس بها، حيث رأى فيها الموقع الدفاعي الوحيد حول البحيرة وهذا هو السبب الذي دفع هيرودس لبناء قلعة قرب شاطئ البحيرة، بالإضافة إلى ذلك قرب طبريا من الحمامات الرومانية التي اهتم بها الرومان كثيراً، حيث أضفت رونقاً على أهمية المدينة بعد إنشائها.

في عام 13هـ-634م، فتحها المسلمون بقيادة شرحبيل بن حسنة وأصبحت عاصمة لجند الأردن وسكنها العرب وبقوا فيها.

أثناء الحملات الصليبية قام تنكرد باحتلال المدينة بأمر من غودفري، وبعد أن نزح سكانها المسلمون منها، قام بتحصينها حتى تكون مركزاً لإماراته، وفي عام 583هـ-1187م، تمكن صلاح الدين الأيوبي من استعادة المدينة بعد انتصاره على الصليبيين في موقعة حطين، إلا أن الصليبيين تمكنوا من السيطرة على المدينة مرة أخرى بعد أن سلمها لهم الملك الصالح إسماعيل والي دمشق مقابل وقوفهم معه ضد ملك مصر الصالح أيوب والناصر داوود في الأردن عام 1240م. وفي عام 1247م تمكن المسلمون من استرداد المدينة إلا أنها فقدت الكثير من عمرانها وأهميتها بفعل التدمير الهائل الذي لحق بها من جراء الغزوات الصليبية والمغولية، وهذا جعل المدينة تشرف على الاندثار لتحل محلها بيسان وحطين.

في عام 1517م، تمكن العثمانيون من السيطرة على المدينة، ثم حكمت من قبل ظاهر العمر والي صيدا عام 1730م، وقد أصبحت طبريا في العهد العثماني مركزاً لقضاء طبريا أحد الأقضية الأربعة التي يتكون منها قضاء عكا. اندثرت أهمية مدينة طبريا بعد ذلك، وفي عام 1799م استولى عليها نابليون بونابرت أثناء حملته على مصر والشام، ثم خضعت للحكم المصري بعد ذلك، وازدهرت فأصلحت حماماتها وبدأت تستقبل الزائرين من خارج البلاد للاستشفاء بمياهها المعدنية، ثم حل بالمدينة دمار هائل بسبب الزلزال الذي أصاب المدينة في مطلع عام 1837 - 1890.

لم يكن الماء إذن ولا البحيرة بمنأى عن الحروب والفتوحات هنا.. كانت دوما من مفاتيح المدينة!

نركب سفينة طبريا الكبيرة التي تعرف باسم «ليدو»، نستعرض في أذهاننا تاريخاً شوّهه الاحتلال، يتراءى لنا مشهد البحيرة الساحر حيث طبريا القديمة والجديدة في الشمال والغرب والجنوب، وحيث جبال سورية والأردن من الشرق، تدمع عيوننا التي ترنو إلى شمس تعارك المغيب.

ألاحظ سفنا خشبية لكن حديثة؛ لماذا يتم صنعها في ظل تكنولوجيا السفن؟ فيجيبني عامل على السفينة، بأن ذلك يعود لرغبة الحجاج المسيحيين الذين يسيرون على خطى السيد المسيح، حيث يفضلون العودة إلى الماضي، من خلال السفن الخشبية، ليشعروا به أكثر... فيصير العوم عليها مفتاح الروح!

على طول شاطئ البحيرة انتشرت المطاعم والفنادق والشاليهات والمتنزهات، المزوّدة بمختلف المرافق والتجهيزات التي تشجّع السياح والمتنزهين، وانقلبت معالم المدينة العربية وطابعها الإسلامي ليحل محلها الطابع الاستعماري الصهيوني. ثمّة لغة هجينة برطنة غريبة تسمعها في مختلف المرافق والأماكن. تتحسّر وتمضي وفي القلب غصّة.

 

حين‭ ‬مرّ‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬هنا

لعلنا نعود إلى معركة حطين على أرض سهل قريب سميت المعركة باسمه، والتي كانت مقدمة لفتح القدس؛ فبين مدينة الناصرة الفلسطينية العريقة وطبريا يقع سهل حطين، حيث وقعت المعركة بقيادة المحرر صلاح الدين الأيوبي. ننظر إلى تراب أرض المعركة وسفح الجبل المحاذي، يتبدّى لنا أديم الأرض بلونٍ بُني داكن، حيث اختلطت الدماء بالتراب فجبلا حنّاء مميزاً يبدو للعيان، ينبي ببطولة كبيرة دارت رحاها على الأرض. نتخيّل صلاح الدين وجنوده يصولون ويجولون مبتهجين بالنصر، فيما فلول الصليبيين تولّي الأدبار مثخنة الجراح. ويقال إن الغزاة الصليبيين كانوا يلقون أنفسهم منتحرين من فوق جبل هنا، خشية جنود صلاح الدين، حيث إنه جبل شديد الانحدار.

 يا الله أين كنا وأين أصبحنا؟ نتساءل ونتحسر ونواصل رسم المشهد في الأذهان فيما العيون تغالب دموعاً تحجّرت في الحدقات.

يحيلنا التراب إلى الكتب، فنقرأ: «وقعت المعركة في صيف 1187م بالقرب من قرية المجاودة، ووضع فيها الصليبيون أنفسهم في وضع غير مريح إستراتيجيا في داخل طوق من قوات صلاح الدين، أسفرت عن سقوط مملكة القدس وتحرير معظم الأراضي التي احتلها الصليبيون. عبرت جيوش المسلمين نهر الأردن جنوبي طبريا، وسارت في اليوم التالي إلى تل كفر سبت (كفر سبيت) في الجانب الجنوبي الغربي من طبريا، وحاولت الاشتباك مع الصليبيين، فرفضوا القتال، وفي 2 يوليو استولت جيوش صلاح الدين المسلمة على طبريا، قاطعا على عدوه طريقه إلى الماء. 

عندما وصل الصليبيون إلى السهل الواقع بين لوبيا وحطين، شن صلاح الدين هجوما ففروا إلى تلال حطين، فحاصرت قوات المسلمين التلال، وأقبل الليل وتوقف القتال، في اليوم التالي 4 يوليو 1187، وفي قيظ شديد ونقص في مياه الشرب قامت معركة حطين، ولفت الفرسان الصليبيين الذين انتظموا على مرتفع حطين سحب الدخان المتصاعد إلى أعلى، فالتحم الجيشان على بعد ميلين من حطين، فتضعضعت صفوف الصليبيين وأهلكت سهام جيوش المسلمين الصليبيين..».

ولم تكن مياه البحيرة ومياه العيون بعيدة عن الصراع هنا؛ حيث تم توظيفها في المعركة... فكم وجدت هذا المكان مليئا بالتاريخ الذي يلقي على الحاضر أسئلته الصادمة وإجاباتنا الباهتة المنسحبة، ونحن نعود من زمن النصر إلى زمن السقوط الحديث!

 

كيف‭ ‬تم‭ ‬التخطيط‭ ‬لسرقة‭ ‬البحيرة؟‭!‬

في كتابه الصغير «خمسون عاماً على تقسيم فلسطين، 1947 – 1997» الصادر عن دار النهار عام 1998، استعرض د.وليد الخالدي مشاريع التقسيم، ولنا أن نلاحظ ما يهمنا، في ما يتعلق ببحيرة طبريا، حيث كانت معظم المشاريع تضع البحيرة في جانبها الغربي في الدولة اليهودية، على النحو التالي:

< مشروع التقسيم بحسب اللجنة الملكية بيل لعام 1937 - في الدولة اليهودية. 

< مشروع التقسيم الأول بحسب اللجنة الملكية الفنية 1938 – في الدولة اليهودية. 

< مشروع التقسيم الثاني بحسب اللجنة الملكية الفنية 1938 – تحت الانتداب البريطاني. 

< مشروع الحكومة البريطانية لتقسيم فلسطين 1944 – في الدولة اليهودية.

< مشروع الدولة الاتحادية الفدرالية الذي أوصى به الخبراء البريطانيون الأمريكيون، وعرف بمشروع موريسون – غرادي 1946 – في الدولة اليهودية.

< مشروع التقسيم الذي أوصت به أكثرية أعضاء لجنة التحقيق الدولية UNSCOP سبتمبر 1947 – في الدولة اليهودية. 

< مشروع الدولة الاتحادية الذي أوصت به أقلية أعضاء لجنة التحقيق الدولية UNSCOP سبتمبر 1947 – في الدولة اليهودية.

< مشروع التقسيم 1947 – في الدولة اليهودية. 

وبذلك فإن معظم المشاريع باستثناء مشروع التقسيم الثاني بحسب اللجنة الملكية الفنية لعام 1938 الذي وضع شاطئها الغربي تحت الانتداب البريطاني، وضعت البحيرة في الدولة اليهودية، ولم يكن ذلك إلا عن تخطيط صهيوني إستراتيجي للمستقبل، وهو تخطيط منسجم في تصوره مع حلم الحركة الصهيونية في الاستيلاء على الماء. 

لذلك اتجهت حركة الاستيطان اليهودية نحو الشاطئ الغربي لطبريا وللمدينة نفسها، لإثبات أمر واقع. وتستطيع أن تلاحظ هذا الاهتمام الاستيطاني إذا ما نظرنا في خارطة تبين مواقع المدن والقرى والمستوطنات اليهودية في فلسطين عام 1920 منشورة في كتاب «فلسطين قبل الشتات» للدكتور وليد الخالدي، حيث نجد كثافة استيطانية في منطقة طبريا، ولم يكن مستغرباً أن يصبح عدد سكان اليهود في المدينة الساحلية على البحيرة يزيد قليلا عن سكانها العرب عشية العمليات العسكرية في حرب عام 1948.

 

ذكاء‭ ‬كولينيالي‭ ‬خبيث‭ ‬

يزول التساؤل حول إصرار الصهاينة على الاستيلاء على طبريا حين نعود للتاريخ مرة أخرى، وكيف خطط الصهاينة لذلك بذكاء كولينيالي خبيث.

«كانت سورية عشية حرب 1967 موجودة على الشاطئ الشمالي الشرقي للبحيرة، وكان صيادوها يصطادون السمك، وكان هناك بعض القرى الصغيرة على الشاطئ (كلها زالت الآن) استمدت مياهها من البحيرة.

بعد سقوط الدولة العثمانية وإبرام اتفاق سايكس - بيكو أثناء الحرب في العام 1916 تم وضع ثلثي بحيرة طبريا في القطاع الفرنسي، أي في سورية، وعدل ذلك في معاهدة أنجلو - فرنسية أبرمت عام 1920 وضع بموجبها ثلثا البحيرة في القطاع البريطاني، أي في فلسطين، ثم تعرضت بريطانيا بسبب إعلان بلفور الذي وعدت فيه أثناء الحرب بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين لضغوط صهيونية مكثفة كي تعدل الحدود مرة أخرى لمصلحة فلسطين، كان الصهاينة بالطبع يريدون وهم يخططون لإقامة دولتهم في المستقبل أن يدخلوا في فلسطين كل المستوطنات اليهودية، وقبل كل شيء كانوا يريدون أن يسيطروا على الموارد المائية للمنطقة، وبعد مزيد من المفاوضات الأنجلو- فرنسية تم التوصل إلى حدود 1923 الدولية، وبموجب هذا الاتفاق مدت حدود فلسطين لتشمل كلتا ضفتي أعالي نهر الأردن، إضافة إلى الشواطئ الشرقية لبحيرة الحولة وبحيرة طبريا. وفي الزاوية الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا رسمت الحدود على مسافة 10 أمتار فقط عن خط الماء (في ما بعد سخر كاتب إسرائيلي من الـ 10 أمتار، والـ 100 متر في حديثه عن الدبابات السورية وإمكانية الحرب القادمة وضمان الأمن بعد الانسحاب من الجولان).

لكن تبيّن أن هذا الترتيب لم يكن عملياً، كانت هناك سبع قرى سورية على مقربة من البحيرة وتعتمد عليها، ولم يكن بالإمكان أن تعزل عن البحيرة بحاجز على مسافة عشرة أمتار من الماء، وهكذا، أبرمت بريطانيا وفرنسا العام 1926 «اتفاق حسن جوار» أعطى القرى السورية منفذاً إلى البحيرة، وفي الواقع احتفظت سورية بمنفذ إلى الزاوية الشمالية الشرقية حتى احتلال إسرائيل للجولان العام 1967.

لقد تم نجاح التخطيط بامتياز!

 

سقوط‭ ‬المدينة‭ ‬رغم‭ ‬بسالة‭ ‬المقاومين

كانت طبريا بحسب تاريخ «الهاجاناه» الرسمي أولى المدن التي قررت القيادة الصهيونية احتلالها وفق الخطة (د)، وهي الخطة الكبرى لتأسيس الدولة اليهودية بالحرب.

في المجلد الثالث (ص – ك) من الموسوعة الفلسطينية حديث عن المدينة ومعركة طبريا، فنقرأ:

كان أكثر سكان طبريا عام 1947 من اليهود، وكان عددهم نحو 6000 يهودي، بينهم عدد كبير من المحاربين المدربين، أما العرب فقد بلغ عددهم حسب إحصاء عام 1945 نحو خمسة آلاف نسمة فقط، ولم يكن بين أيديهم، يوم صدور قرار التقسيم شيء من السلاح، وكما نشب القتال بين العرب واليهود راح عرب طبريا يبحثون عن السلاح في كل مكان، وقد أرسلت إليهم اللجنة العسكرية من دمشق 25 بندقية في مطلع ديسمبر 1947، ثم اتبعتها في الشهر نفسه بـ 36 بندقية أخرى مع قليل من العتاد.. بلغ عدد المقاتلين في الأسبوع الأول من أبريل 1948 زهاء 50 عربيا مسلحين بالبنادق العادية وحدها، في مواجهة أعداد أكبر من المحاربين الصهيونيين من مختلف المنظمات الإرهابية، ثم أخذ عدد المقاتلين العرب يزداد حتى بلغوا مائة مقاتل، وتألفت في العاشر من أبريل لجنة قومية حملت المسئولية، وقامت بتدبير شئون الدفاع عن الأحياء العربية. وانتدبت اللجنة كامل الطبري ليكون قائداً للمناضلين، وقد قوى ذلك كله الروح المعنوية عند الأهلين، وزادها قوة وصول عدد من المجاهدين من دمشق، يقودهم مناضل من أصل طبراني هو صبحي شاهين، ويحملون معهم بعض الرشاشات الخفيفة، ومدفع هاون واحداً، لكن الذخيرة كانت قليلة.

كان القتال قد شب عنيفاً بين العرب والصهيونيين واستمر من 11 حتى 14 / 3 / 1948، ثم تهادن الفريقان شهراً وأخذ الصهيونيون خلال هذه الهدنة يستعدون، وبدأ الموقف يتأزم في الأسبوع الثاني من أبريل، فاستنجدت حامية طبريا العربية بمناضلي الناصرة، فأنجدهم هؤلاء بمجموعة مختارة يقودها محمد العورتاني من ضباط الجيش الأردني، وبمجموعة أخرى يقودها دياب الفاهوم، وتبعتها قوة ثالثة عديدها 45 مناضلاً بقيادة المناضل أبو الرب، وصلت إلى طبريا في يوم 15 أبريل.

قدر عدد المقاتلين الصهيونيين في طبريا بألف مقاتل من يهود طبريا والمستعمرات المجاورة، وكانوا مسلحين بالأسلحة الآلية الحديثة، ولديهم كميات كبيرة من الذخيرة.

بدأت المناوشات في الأسبوع الثاني من أبريل، وحاول الصهيونيون القيام بهجمات محدودة، صدها المناضلون العرب ببسالة وأبلوا بلاءً حسناً، ووقفوا سداً منيعاً في وجه الأعداء المهاجمين، وردوهم على أعقابهم، وظلوا يسيطرون على الموقف في الأحياء العربية، ثم قام الصهيونيون في ليلة 15 – 16 / 4 / 1948 بهجوم كبير قوامه 400 مقاتل، وقد قابلهم 200 من المناضلين العرب، واستمر النضال حتى صباح 16 أبريل، حيث تدخل الإنجليز فمنعوا التجول في المدينة، وأمروا بهدنة مدتها ثلاثة أيام، وطلبوا من رجال «الهاجاناه» مغادرة مراكزهم القريبة من المواقع العربية، لكن هذا الطلب ألغي بأمر حاكم المنطقة البريطاني إيفانس.

شن الصهيونيون في اليوم الثالث للهدنة وقبل أن تنقضي، هجوماً مركزاً على الأحياء العربية، جندوا له قوات كبيرة جيدة التسليح، وقد اشتد القتال، إلى أن تغلب الصهيونيون على العرب المدافعين، واحتلوا فندق كروسمان الكبير المعروف، ومعظم البنايات الضخمة، ومنها بناية بنك باركليس، وسيطروا على جزء كبير من الأحياء العربية، وقتلوا عدداً من العرب، لكن مقاومة المناضلين العرب لم تتوقف، على الرغم من نقص الذخيرة وتفوق العدد الكاسح عليهم عدداً وعدة، واستؤنف القتال صباح التاسع عشر من أبريل، ولم يدم طويلاً حتى تمكن الصهيونيون من دخول الحي العربي والاستيلاء عليه.

وقد دب الذعر في قلوب أبناء المدينة، و«كانت قد وصلتهم في العاشر من أبريل أنباء عن المذبحة التي نفذها الصهيونيون في قرية ناصر الدين، حيث أحرقوا منازلها وقتلوا الكثير من رجالها ونسائها وأطفالها.....».

 

تفاصيل‭!‬

وقد ذكر د.وليد الخالدي في المصدر نفسه تفصيلات أخرى، حيث يقول:

«وبعد أن وصل الوضع إلى هذا الدرك، تحركت في 16 أبريل، القوة البريطانية التي كانت مرابطة في أعالي طبريا، وهددت القوات اليهودية بالقصف إذا لم تتوقف عن الهجوم، وفي الوقت نفسه، اتصل القائد البريطاني بقائد الحامية العربية، ونصحه بوقف القتال وإجلاء السكان العرب، وأبدى استعداده لتوفير وسائل النقل بحمايته، وكان قد تبقى لدى المناضلين العرب ذخيرة تكفي لمواصلة القتال ساعة ونصف الساعة فقط، فلم يجد القائد العربي بداً من قبول العرض البريطاني، وخصوصاً أن القوات الصهيونية استأنفت هجومها ليل 16 أبريل على الرغم من وساطة القائد البريطاني، واستمرت فيه خلال يوم 17 أبريل، فما أن حل ليل اليوم التالي حتى كانت طبريا أقفرت من سكانها العرب، وبات هؤلاء مشردين لاجئين منذئذ إلى يومنا هذا، لذلك راح سكان طبريا يرحلون عن المدينة، يدفعهم إلى ذلك العدو الصهيوني، ويسهل لهم الأمر رجال الجيش البريطاني كما جرت العادة، ووفق ما رسم الطرفان من خطة لتهجير العرب وتفريغ المنطقة من سكانها، أما من بقي من المقاتلين، فقد انسحبوا إلى قرى المغار ولوبية وحطين في قضاء طبريا».

ها نحن نسير في المكان، ونستحضر هذا التاريخ القريب أو البعيد، ثم لا نقف عند هذا، متمنين العثور على شيخ طبراني (من طبريا) ليروي لنا عن تلك الأيام ما أمكنه من روايات، ولا بد أن التاريخ الشفهي له أثر إنساني يجعلك تحس بالتاريخ عن قرب، فلا نجد! 

 

إلى‭ ‬جهات‭ ‬الأرض

إذن، لقد كانت طبريا أول مدينة تسقط في يد اليهود، وعن هذا يتابع د. الخالدي قوله: «انقضت أنباء سقوط طبريا على العواصم والشعوب انقضاض الصاعقة، وذلك لأن طبريا كانت أول مدينة فلسطينية تسقط بيد اليهود».

 وقد شرد أصحابها، وربما وجدوا من قدم لهم العربات وبعض الطعام في طريقهم القسري نحو الشرق، وبحسب خارطة اتجاهات تهجير الفلسطينيين في الأرياف والمدن عام 1948، فقد هجر أهل طبريا إلى جنوب سورية وشمال الأردن، فكل فلسطيني هجر من أرضه لجأ إلى أقرب أرض فلسطينية وعربية.

 

وداع

وعندما حلّ المساء خلدنا إلى حديقة جميلة في الجهة الجنوبية من البحيرة، تكسوها الأعشاب وتظللها الأشجار، حيث الجلسات العائلية الجميلة التي تمتد حتى ساعات الفجر. البعض أقام موائد الشواء وآخرون أقاموا حلقات رقص وغناء على أنغام دندنات العود. وبمحاذاة الحديقة مطعم سمك شهيّ يقدمه للزبائن طازجاً مشوياً ومقلياً ومحشياً حسب الطلب.

من سار على هذه الأرض؟ ومن يسير عليها الآن؟ ومن سيسير عليها في الغد؟ ثمة بقع ضوئية صغيرة تطل كنور في وسط سماء البحيرة والمدينة التي يلفها اللون الأزرق الذي يتقاطع مع الغيوم فيبدو المكان رمادياً، منسجماً مع الرمادية السياسية، لكن الأمل موجود حتى ولو كان قليلاً. ورغم أهمية المكان فإن أهمية الإنسان هي أكبر، لأن الإنسان هو القيمة الكبرى، وهو الذي يعطي المكان وجوده، والإنسان هو الذي يستطيع أن يألف الآخرين ويسطو على محبتهم، ألم يكن السيد المسيح «ماشياً عند بحر الجليل حينما أبصر أخوين: (سمعان الذي يقال له بطرس واندراوس أخوه) يلقيان شبكة في البحر، فقال لهما: هلما ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشباك وتبعاه» (من الإصحاح الرابع) وهو الذي بارك تلاميذه هنا، وقد قضى وقتاً في الجليل قبل أن يذهب إلى الجنوب?

لا شباك هنا، ولا الأخوان... سمعان الذي يقال له بطرس واندراوس أخوه، هنا المكان، جبل التطويبات، وجبل آخر يطل على القادم من الشمال صوب المدينة. لعلنا نقرأ تطويبات المسيح هنا على جبل التطويبات حيث بنيت كنيسة بالاسم نفسه هنا... صغيرة وجميلة تطل على البحيرة والمدينة من جهة الشمال: 

طوبى‭ ‬للمساكين‭ ‬بالروح‭ ‬لأن‭ ‬لهم‭ ‬ملكوت‭ ‬السماوات

طوبى‭ ‬للحزانى‭ ‬لأنهم‭ ‬يتعزون

طوبى‭ ‬للودعاء‭ ‬لأنهم‭ ‬يرثون‭ ‬الأرض‭ ‬

طوبى‭ ‬للجياع‭ ‬والعطاش‭ ‬إلى‭ ‬البر‭ ‬لأنهم‭ ‬يشبعون

طوبى‭ ‬للرحماء‭ ‬لأنهم‭ ‬يرحمون

طوبى‭ ‬للأنقياء‭ ‬القلب،‭ ‬لأنهم‭ ‬يعاينون‭ ‬الله

طوبى‭ ‬لصانعي‭ ‬السلام‭ ‬لأنهم‭ ‬أبناء‭ ‬الله‭ ‬يدعون

طوبى‭ ‬للمطرودين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البر‭ ‬لأن‭ ‬لهم‭ ‬ملكوت‭ ‬السماوات

طوبى‭ ‬لكم،‭ ‬إذا‭ ‬عيروكم‭ ‬وطردوكم‭ ‬وقالوا‭ ‬عليكم‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬شريرة‭ ‬من‭ ‬أجلي‭ ‬كاذبين‭. ‬افرحوا‭ ‬وتهللوا‭: ‬لأن‭ ‬أجركم‭ ‬عظيم‭ ‬في‭ ‬السماوات،‭ ‬فإنهم‭ ‬هكذا‭ ‬طردوا‭ ‬الأنبياء‭ ‬الذين‭ ‬قبلكم‭.‬ (مت5 :1-12)

جميلة وإنسانية تلك العظات... تمنحنا الأمل.

 

بين‭ ‬الماء‭... ‬والماء‭ ‬ماء‭ ‬الرمز

ما بين الماء المالح في البحر الميت، والماء العذب في بحر الجليل تناقض العناصر، وتناقض المواقف السياسية، وهي لوحة يتأملها ساسة هذا العالم.

أما ذلك الطير الذي يرتفع في السماء وينزل على ماء البحيرة كي يصطاد سمكة أو يسبح في مائها فإنه بجناحين يأخذنا معه لنحلم ونطير.

ماذا بقي بانتظار يأجوج ومأجوج؟!

 ها نحن نرى المدينة من جهة الشرق، ندور حول البحيرة شمالا، ثم ننحني إلى الجانب الغربي، فتبرز لنا من فوق الجبال مرآة جميلة كاملة الروعة... مرآة كبيرة كافية لنرى أنفسنا وتاريخنا ومستقبلنا القادم لا محالة.