«يوتوبيا المدينة المثقّفة» لـخالدة سعيد عمل أكثر من تأريخي

«يوتوبيا المدينة المثقّفة» لـخالدة سعيد عمل أكثر من تأريخي

عبر‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬يوتوبيا‭ ‬المدينة‭ ‬المثقفة‮»‬‭ (‬دار‭ ‬الساقي‭ - ‬2012‭)‬،‭ ‬تضع‭ ‬الكاتبة‭ ‬والناقدة‭ ‬خالدة‭ ‬سعيد‭ ‬قارئها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مدينة‭ ‬متوهجة‭ ‬ومثيرة‭ ‬للجدل،‭ ‬هي‭ ‬بيروت،‭ ‬إبان‭ ‬زمنها‭ ‬الذهبي‭ - ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬ثقافيًا‭ - ‬بيروت‭ ‬الحريات‭ ‬والمختبر‭ ‬الثقافي‭ ‬لكل‭ ‬جديد،‭ ‬حد‭ ‬الغرابة،‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬الغناء‭. ‬ففي‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬أضحت‭ ‬‮«‬بيروت‭ ‬عاصمة‭ ‬اللجوء‭ ‬العربي،‭ ‬السياسي‭ ‬وغير‭ ‬السياسي،‭ ‬والعاصمة‭ ‬الأولى‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ومع‭ ‬نهاية‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬ببيروت‭ ‬ليُكرّس‭ ‬عربيًا‭ ‬ويجد‭ ‬شهرته‮»‬‭. ‬

هذه بعض ملامح بيروت كما بدت من خلال استعادة تاريخها الذي شهد قيام خمس «مؤسسات» ثقافية، بطموحات خاصة متميزة تبدو اليوم أقرب إلى أحلام مثالية، كما تقول الكاتبة. هذه المؤسسات أو الكيانات نهضت في الفترة الأخصب للبنان، أي بين الاستقلال الفعلي (أي بعد جلاء الجيوش الفرنسية) والحرب الأهلية (1946 - 1975)، وهي الندوة اللبنانية لميشال أسمر، واللقاء الفيروزي الرحباني ومجلة «شعر» ليوسف الخال، ومجلة «مواقف» لأدونيس ودار الأدب والفن لجانين ربيز.

وما يجدر ذكره هنا وكما تنوّه الكاتبة أن هذه المؤسسات، التي تستحضر مسيرة «النهضة العربية»، قامت بالدرجة الأساس على مبادرات فردية غير مدعومة اقتصاديًا أو طوائفيًا أو سياسيًا أو فئـــويًا من أي نـــــوع، وهو ما ضمن لها الاستقلالـــــية في برامجها وأهدافها ومجمل مسيرتها. 

من هنا يُستفاد درس بالغ الدلالة والأهمية للنهوض والانطلاق بتجارب مماثلة عمادها الفكر والموهبة، بالدرجة الأساس، والتصميم على «تقديم» شيء لمجتمعاتنا التي ينقصها الكثير.

 

الفصل‭ ‬الأول‭.. ‬الندوة‭ ‬اللبنانية‭: ‬

بيت‭ ‬الفكر‭ ‬ومرصد‭ ‬التحولات

أولى هذه المؤسسات المدروسة في كتاب خالدة سعيد، المكوّن من ستة فصول وملحق، هي «الندوة اللبنانية» لمؤسسها ميشال أسمر (1917 - 1984).  لم تكن لميشال أسمر أي سلطة سوى سلطة المعرفة والحلم، لكنه استطاع استقطاب الجميع إلى «ندوته» من سياسيين، أصحاب قرار، إلى مثقفين وأدباء وحالمين أمثاله، كلهم حضروا على منبر الندوة وأدلوا بما لديهم أو ناقشوا ما كان يُطرح ويُعرض من رؤى وأفكار. على منبر الندوة وقف الشاب كمال جنبلاط وكان أول المحاضرين، عبر محاضرته، «رسالتي كنائب»، في العام 1946. كما وقف حميد فرنجية وحبيب أبي شهلا وأسد الأشقر وبيار الجميل وشارل الحلو وموسى الصدر وغسان تويني والأب يواكيم مبارك والأب غريغوار حداد والمطران جورج خضر وصبحي الصالح وليلى بعلبكي ويوسف الخال وأدونيس وقسطنطين زريق وسهيل إدريس وناديا تويني وسلوى نصار وسعيد عقل وشارل مالك وصلاح لبكي وبطرس البستاني ورينه حبشي وغيرهم كثيرون، (إذ بلغ عدد المحاضرين 400  محاضر على مدى ربع قرن). حتى زوار لبنان من الشخصيات العالمية التي كانت لها رؤيتها ومشروعها الثقافي أو السياسي، عملت الندوة على استقطابهم، أمثال رئيس جمهورية السنغال وقتها ليوبولد سنغور، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، كذلك المؤرخ آرنولد توينبي والمستعرب جاك بيرك. إذن ما من صاحب مشروع جديد، سواء كان سياسيًا أو ثقافيًا أو فكريًا أو اقتصاديًا، وسوى ذلك من اختصاصات إلا قد عرفته الندوة، حتى أضحت هذه المؤسسة الأهلية المدنية توجّه تفكير الدولة على صعيد خططها ومشاريعها الاقتصادية والقانونية والتشريعية.

وكانت أعمال الندوة تصدر في مجلدات باسم «محاضرات الندوة». شخصيًا كنتُ قد اقتنيت عددًا واحدًا، قديمًا، من هذه المجلدات من مكتبة المثنى في شارع المكتبات المعروف في بغداد باسم المتنبي، بداية الثمانينيات، وربما هو العدد الوحيد المتسرب إلى العراق، وقد يكون نسخة من مكتبة شخصية، إذ لم نألف في العراق توزيع محاضرات الندوة، هذه المحاضرات التي هي سجل حافل لتاريخ ثقافي عرف أبهى لحظاته وأكثرها احتدامًا. في كتابها، تتوقف الباحثة خالدة سعيد، بالتناول والدرس، عند البيانات الأربعة لكل من سهيل إدريس، قسطنطين زريق، يوسف الخال، ليلى بعلبكي، إضافة إلى محاضرة الأب يواكيم مبارك.

البيانات‭ ‬هي‭:‬

1ـ ممَّ يشكو الأدب العربي الحديث؟ لسهيل إدريس (1925 - 2008) لمناسبة إصداره مجلة الآداب عام 1953.

وقد كانت هذه المحاضرة دعوة للالتزام، فقد شدّد على أهمية وضرورة أن يتمثل الأدباء روح عصرهم ومجتمعهم.

2ـ «العرب والثقافة الحديثة» هو عنوان محاضرة قسطنطين زريق (1909 - 2000)، وقد ألقاها مطلع العام 1956، وقد كانت بيانًا بكل معنى الكلمة، حسب وصف الكاتبة. أتى زريق في بيانه هذا على تحديد مقومات الثقافة الحديثة في العالم، كما ضمنه دعوته إلى تحديث الثقافة العربية.

3ـ المحاضرة الثالثة «مستقبل الشعر في لبنان» ليوسف الخال (1917 - 1987)، ألقاها مطلع العام 1957 بعد صدور العدد الأول من مجلة «شعر»، فكانت بحق «بيان الحداثة الشعرية العربية»، كما سمته الباحثة. قدم يوسف الخال، عراب الحداثة الشعرية العربية، وفقًا لما يرى الكثير، فهمًا دقيقًا وحقيقيًا لمعنى الحداثة. فهو يبدأ محاضرته بشن هجومه، شأن كل صاحب مشروع أو رؤية طليعية تتناقض والإرث الجامد، على الشعراء منذ بدايات عصر النهضة حتى مطلع الخمسينيات.

4ـ المحاضرة الرابعة «نحن بلا أقنعة» لليلى بعلبكي، الروائية الرائدة صاحبة الرواية المعروفة «أنا أحيا»، ألقتها منتصف العام 1959. هذه المحاضرة بيان رفض صارخ، رفض رائد مكتوب بلغة غريبة تمامًا عن لغة محاضري «الندوة»، كما تقول سعيد، وعن لغة الكتابة المعهودة. ليلى بعلبكي في محاضرتها هذه وأفكارها الجريئة المقدمة بكلمات بنبض الشارع ومن واقع الشباب وقاموسهم الصادم في كثير من الأحيان، بهذه اللغة دافعت بعلبكي عن تمرد الشباب، مستبقةً برفضها وثورتها «ثورة الطلاب أو الشبان في العالم بعقد كامل. وقد كانت رائدة في تصوير القلق والغثيان اللذين يعانيهما الشباب، ورائدة في رفض قيم الاستهلاك».

خاتمة الفصل الأول للكتاب كانت شخصية فذة هي شخصية الأب يواكيم مبارك (1924 - 1995)، وقد كان ميشال أسمر صاحب «الندوة اللبنانية» تعرّف عليه عبر كتابه «إبراهيم في القرآن»، وبتأثير هذا الكتاب يسافر أسمر إلى باريس من أجل دعوة الأب مبارك المقيم في فرنسا منذ العام 1945 لغرض الدراسة أولًا ومن ثم العمل والتدريس في معاهد وجامعات فرنسا وبلجيكا، لاحقًا. كما عمل منذ العام 1950 ولمدة خمسة عشر عامًا سكرتيرًا للمستشرق وعالم الإسلاميات لوي ماسينيون. كان ميشال أسمر قد قرر دعوته إلى الندوة، للمشاركة في سلسلة من ثماني محاضرات حول «المسيحية والإسلام في لبنان»، على أن تكون المحاضرة الختامية في موضوع الحوار الإسلامي وغنى هذا الحوار. 

 

بين‭ ‬فيروز‭ ‬والأخوين‭ ‬الرحباني

ترى الكاتبة أنه لأجل فهم النهضة الغنائية التي حققها الثلاثي عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، لابد من النظر إلى تجربتهم هذه ضمن سياق تاريخي هو تاريخ لبنان الحديث أو تاريخ الدولة اللبنانية الحديثة. وتقرر الكاتبة أن المشروع الرحباني يتلخص في استعادة فردوس مفقود يتطور ليتجسد في ما يمكن تسميته بـ «يوتوبيا» القرية اللبنانية أو القرية الفاضلة (على غرار المدينة الفاضلة). وإذا ما كان فن الرحابنة قد تمكن من «أسطرة» القرية اللبنانية وإكسائها هالة الفردوس أو المكان المحلوم، عمومًا، فإنه بغضّ النظر عن هذه الهدفية في الفن، غير أن الأخوين رحباني بمعية فيروز التي «جنّحت» ألحانهم بصوتها وأدائها، بتعبير الكاتبة، قد جعلوا من موسيقاهم ونصوصهم الشعرية في حدّ ذاتها فردوسًا ويوتوبيا، على مدى نصف قرن، من الدأب والاجتهاد حدّ «الحلول» شغفًا وانصهارًا في عوالم الجمال والإبداع, كما يكتب في الفصل الثاني.  

وفي الفصل الثالث.. مجلة «شعر»: تحرير الشعر وتحرير الإنسان، تشير الباحثة إلى أن مجلة «شعر» لم تبتدع فكرة التجديد من عدم  ولم تكن منقطعة عن الوضع الثقافي العربي العام، فهي انطلقت عن حاجة وتطلعات وقد سبقتها تجارب مهمة، على الصعيد الشعري، لأسماء صار لها حضورها, فقد وصل معظم الشعراء الأركان إلى مجلة «شعر» مكتملين، السيَّاب والملائكة كانا في ذروة شاعريتيهما، فضلًا عن يوسف الخال نفسه وتوفيق صايغ وأدونيس ومحمد الماغوط الذي وصل يحمل ديوانه الأول الشهير «حزن في ضوء القمر» (...) الوحيد من الأركان، الذي كانت بدايته العربية واكتماله في هذه المجلة هو أنسي الحاج. بهذا المعنى كانت المجلة حاضنًا ومختبرًا، كما أنها هيّأت مناخًا مؤاتيًا لتحويل ما هو فردي إلى حركة وتيار. وكما هو معروف، لم تسلم المجلة وروادها من الهجوم والتشكيك والاتهام طوال فترة صدورها وحتى توقفها، وما بعد ذلك. ولا تزال أصداء تلك الطروحات تتردّد حتى اليوم. بأي حال، لا يمكن هنا، تلخيص تاريخ هذه المجلة ودورها، رغم محدودية انتشارها، بسبب المنع الذي طالها والحصار، الذي جوبِهت به «فقد قاطعها في آن واحد مثقفو اليمين، بل أهل اليمين ومثقفو الأحزاب القومية العربية على تنوعها، وأيضًا، وربما بعنف أكبر، مثقفو الأحزاب اليسارية». إذن في عرض كهذا، يصعب إيجاز سيرة «شعر» في الوقت الذي استدعى الحديث عنها لمختلف ميزاتها وخصائصها أو تاريخها - سلبًا أو إيجابًا - العديد من الكتب والرسائل الجامعية عدا البحوث والدراسات في الصحافة العربية وحتى الأجنبية. 

 

الفصل‭ ‬الرابع‭.. ‬مجلة‭ ‬‮«‬مواقف‮»‬‭: ‬يوتوبيا‭ ‬نقدية

بالتعاون مع عدد من الكتاب والفنانين، أصدر أدونيس مجلة «مواقف» في خريف العام 1968، واستمر صدورها على مدى ربع قرن، حتى العام 1994. صدرت بداية مرة كل شهرين، وبعد السنوات الأولى صارت فصلية. وشأنها شأن مجلة «شعر»، لم تسلم «مواقف» من المنع - في ستة بلدان على الأقل - ولم تسلم من هذا المنع المتكرّر إلا في لبنان والمغرب وتونس، وقد كان المغرب العربي بعد لبنان هو مجال انتشارها في السنوات العشر الأخيرة من عمرها، كما تشير الكاتبة. صدرت «مواقف» في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967 وفي مناخ شهد تصاعد النقد الذاتي بما يعنيه ذلك من غضب وتفجر أسئلة تشكّك بكل شيء. وقد كان أدونيس في طليعة من استهلوا تلك المرحلة عبر نصه الموسوم «بيان من أجل 5 حزيران»، هذا النص كما تقول الكاتبة حظي بشهرة خاصة، وقد طبع مرحلة من مراحل الكتابة العربية وُسمت في وقت ما باسم «النقد الذاتي بعد الهزيمة». في ذلك المناخ المحتدم الذي ساد بعد النكسة «بدأ أدونيس التفكير في إصدار مجلة تتولى عمليًا طرح أسئلته وأسئلة المرحلة، وتشكل ملتقى للقلقين المتسائلين والجذريين الباحثين، القادرين على إعادة النظر في كل شيء، بدءًا من المعايير إلى التعريفات الأولى للفن والشعر خاصة، حتى أسُس الحقائق والأديان وصولًا إلى القراءات والتقويمات المستقرة للتاريخ». في صميمها، كانت «مواقف» امتدادًا بشكل أو آخر لمجلة «شعر»، سواء لناحية الهواجس المحركة لإصدارها أو لطبيعة مهمتها، «إنما «مواقف» ذهبت إلى مدى أبعد وأكثر جذرية، وتحركت في مجال أوسع...». 

الفصل الخامس.. دار الفن والأدب: الثقافة كنسيج حياة

«الثقافة هي ما يغيّر الحياة»، من هذا الفهم ومن هذه الرؤية شرعت جانين ربيز في إشادة حلمها ويوتوبياها الثقافية المنفتحة على العالم، عبر مؤسسة «دار الأدب والثقافة». ربيز وهي القادمة من خلفية رياضية، هندسية، بحكم تخصصها العلمي، ومن شغف مسرحي تجسد في انضمامها منذ العام 1962 إلى «فرقة المسرح اللبناني، التابعة لمهرجانات بعلبك الدولية ونشطت في إطار لجنة المسرح...»، لم تكن ممثلة أو مشاركة في البداية، فدورها اقتصر، بدايةً، على الإحاطة والرعاية، بتعبير المسرحي منير أبودبس.

غير أن جانين لم تتوقف عند هذا الدور، بل أرادت لحضورها أن يكون مدعمًا بالمعرفة والاختصاص، وهكذا كان، فسافرت إلى فرنسا لدراسة المسرح في أهم مراكزه، وهو معهد ستراسبورج. أثناء دراستها تولّدت لديها فكرة إنشاء مجمع مسرحي يضم معهدًا للمسرح يشمل جميع الاختصاصات ومرافق لكل ما يتعلق بالمسرح، إضافة لمخطط لمحترفات وصالات عرض وتدريب نقاش. وحين حملت مشروعها إلى وزارة الثقافة، اعتمدته الوزارة كأساس لإنشاء معهد المسرح في الجامعة اللبنانية، غير أن هذا لم يرض حلم جانين ربيز، ومن هنا فكرت بالبديل فكان «دار الفن والأدب». يكفي أن نلقي نظرة على بعض ما قامت به هذه الدار من نشاط وفعاليات لندرك حجم هذا المنجز وعالميته ومدى الاضطلاع بهمّ رفد الحياة الثقافية وإثرائها بشكل لا ينهض به إلا من كان مسكونًا بهاجس الثقافة ومطبوعًا بالذكاء وروح العطاء والمقدرة على التحرك والمبادرة. «في هذه الدار كان يتم اللقاء بأعلام الطليعة اللبنانية والعالمية في الأدب شعرًا ونثرًا، ولا سيما أقطاب الشعر الحديث، وفي المسرح والموسيقى والفلسفة والسينما وقضية النساء وثورة الطلاب والتحرر الاجتماعي، والهندسة والفنون. كان هناك غروتوفسكي، جان بير دي مانديارج، ثيودوراكس، آرابال، حسن فتحي، يوسف شاهين، مارجريت دوراس، نزار قباني، فرانسوا شاتليه، بازوليني، شفيق عبود، مكسيم رودنسون، كاتب ياسين، منير بشير وغيرهم كثر». أما في ميدان السينما، فقد تعدد المختصون الذين نظموا البرامج السينمائية، بحيث تحضر الاتجاهات الإبداعية الجديدة وأفلام رواد الفن السينمائي من مختلف البلدان. فكانت هناك أفلام سويدية وصينية ويابانية وإيطالية وسوفييتية وألمانية وفنلندية وحتى سعودية. وكان هناك أسبوع أفلام جزائرية، فضلًا عن الأفلام الفرنسية والأمريكية والمصرية. وفي النتيجة قدمت الدار مائة وخمسين عرضًا سينمائيًا لأفلام الطليعة في العالم. 

 

الفصل‭ ‬السادس‭.. ‬أضواء

في هذا الفصل، تم تناول الشخصيات التالية: المطران جورج خضر، أنسي الحاج، محمود درويش، غسان كنفاني، أورخان ميسّر، علي الناصر، جبرا إبراهيم جبرا، سعاد نجار، سعد الله ونوس. وعلى أهمية كل شخصية من هذه الشخصيات وتفردها في ميدانها وفاعليتها، إلا أنه لم تكن سوى شخصية سعاد نجار من صلب هذا الكتاب ومحور اهتمامه، إنها نوع من توأم لجانين ربيز، فلها ذات الروح وذات الديناميكية والوعي العالي بدور الثقافة، والمسرح تحديدًا، وإن بدت الأخيرة أكثر إيثارًا ونكرانًا للذات، فقد كانت حالمة كبيرة ومؤمنة كبيرة بإمكانات وعطاء الفنان اللبناني وعبقريته، وعلى مدى نصف قرن، خدمت المسرح في بلدها.

 ربما في الكلمات التالية  ما يوجز شخصيتها ودورها «حضرت سعاد نجار، على امتداد نصف قرن، في الحياة الثقافية اللبنانية وفي حياة المثقفين على السواء، ولاسيما في ميدان النهضة المسرحية. حضرت على مستويات متعددة نضالية فنية، وطنية وشخصية. تدين لها الحياة الثقافية بفاعلية ميدانية، مع وفاء والتزام نادرين، كما تدين لها بنظر بعيد وتنظيم يتجاوز التنسيق والترتيب إلى الاستشراف والاستنفار والتخطيط، وهو ما أعطى دورها في النهضة المسرحية اللبنانية خصيصة العماد الضامن». وما يؤلم أنها قضت دون أن تحقق أمنيتها في «قيام مسرح وطني يقدم فضاءه للمسرحيين ويمنح الحوافز والفرص لإبداع أعمال مسرحية». 

وتختتم الكاتبة والباحثة خالدة سعيد كتابها بملحق يتضمن فهرسًا كاملًا لأسماء وموضوعات مجلة الشعر على امتداد أعداها، وفي عهديها، (رغم السهو الذي حدث في القفز من العدد 29 إلى العدد 31 ) وهو فهرست ضروري ومهم لكل من تعنيه هذه المجلة من شعراء وباحثين ودارسين وحتى سائر القراء، وخصوصا مع غياب المجلة وصعوبة الحصول على أعدادها أو الرجوع إليها.

على الرغم  من محاولتنا هذه، فإنه من الصعب إيجاز كتاب «يوتوبيا المدينة المثقفة» أو حتى مجرد التنويه بكمّ المعلومات والتفاصيل الحيوية التي انطوى عليها، فهو كتاب من السعة والغنى لا يمكن لأي عرض أن يفيه حقه. وهو أكثر من مجرد كتاب ذاكرة أو تأريخ، فإضافة إلى مهمته الأساس هذه، فإنّ ما يعنيه وينطوي عليه من  هدف ضمني هو التواصل مع ماضٍ  معافى والتحفيز لاستعادة تلك الروح التي حرّكت ووّسعت من فضاءات الجمال والثقافة، التي هي أولًا وأخيرًا فضاءات الحياة. وقد يكون من المفيد استعارة كلمات سعاد نجار عند تعليلها لمسألة تكليفها صاحبة كتاب «يوتوبيا المدينة المثقفة»، خالدة سعيد، وضع كتاب عن «الحركة المسرحية في لبنان»، الذي صدر بالفعل عام 1988. فهي تصلح أيضًا لتعليل العودة إلى «الماضي الثقافي» في هذا الكتاب. تقول عن ذلك: «لا نؤرخ للمسرح في تلك المرحلة لنصنّمها أو نبكي على أطلالها. ففي الثقافة والإبداع لا وجود لذروة نهائية وتحفة ختامية. المسرح وأي إبداع آخر لا يكون بالتكرير والنسخ، لكن النسيان والإلغاء والتقطع لا تبني نهضة». من هنا فإن كتاب «يوتوبيا المدينة المثقفة» بهاجسه اليوتوبي وبالشغف والإيمان اللذين كُتب بهما هو رسالة لنهضة ولتجديد لا تستقيم دونهما حياة المدينة أي مدينة، وبعيدًا عنهما لا يمكنها أن تكون إلا خارج عصرها .