اللغة الحية مدخل إلى الأنثروبولوجيا اللغوية

اللغة الحية مدخل إلى الأنثروبولوجيا اللغوية

تُعد‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬اللغوية‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬البينية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن؛‭ ‬إذ‭ ‬تدرس‭ ‬التأثير‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬ومختلف‭ ‬الأنشطة‭ ‬والممارسات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أي‭ ‬تأثير‭ ‬اللغة‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬المجتمع‭ ‬والثقافة،‭ ‬وكذلك‭ ‬تأثير‭ ‬الممارسات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬اللغة؛‭ ‬ازدهارها‭ ‬وأفولها،‭ ‬حياتها‭ ‬وموتها‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬اللغويات‭ ‬تتناول‭ ‬اللغة‭ ‬مستقلة‭ ‬منزوعة‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬الإنساني‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أي‭ ‬تنشغل‭ ‬بالجوانب‭ ‬التركيبية‭ ‬والنحوية‭ ‬والدلالية‭ ‬فحسب،‭ ‬فإن‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬اللغوية‭ ‬تتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لتتناول‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الحية،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الممارسات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفعاليات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المختلفة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يأتي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬الحية‭.. ‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬اللغوية‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كتبته‭ ‬لورا‭ ‬أهيرن،‭ ‬أستاذة‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬رتجرز‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬يُعتبَر‭ ‬الكتاب‭ ‬مدخلًا‭ ‬سهلًا‭ ‬إلى‭ ‬مبادئ‭ ‬وأسس‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬اللغوية‭ ‬دون‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬تبسيط‭ ‬أو‭ ‬تسطيح‭ ‬الإسهامات‭ ‬القيمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬يضم‭ ‬الكتاب‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬فصلًا‭ ‬مُقسَّمة‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقسام‭ ‬أساسية،‭ ‬يضم‭ ‬كل‭ ‬قسم‭ ‬أربعة‭ ‬فصول‭.‬

 

المحور الأساسي الذي يدور حوله القسم الأول من الكتاب هو اللغة ذاتها، وفي هذا القسم تُبين الكاتبة كيف يمكن دارسة استعمال اللغة باعتباره صورة من صور السلوك الاجتماعي. وتوضح أهيرن أن الأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة معزولة عن سياقها الاجتماعي أو باعتبارها وسيطا محايدا لعملية التواصل، وإنما هناك علاقات متبادلة بين اللغة والممارسات الاجتماعية المختلفة، ولا يمكن فصل اللغة عن الثقافة والعلاقات الاجتماعية، فحياة اللغة مرتبطة بالسياق الاجتماعي الإنساني. 

تستهل أهيرن هذا القسم بتقديمها بعض المصطلحات والمفاهيم الأساسية التي ستعتمد عليها في مناقشاتها اللاحقة في الكتاب، والتي يمكن تطبيقها في السياقات الاجتماعية المختلفة، مثل مفهوم الممارسة، ومفهوم التعبيرات الإشارية. كذلك تناقش أهيرن كيف يمكن إجراء بحث أو دراسة في مجال الأنثروبولوجيا اللغوية، حيث توضح ما الأسئلة والقضايا التي يطرحها الباحثون، وكيف يمكن بلورة هذه الأسئلة، وما المناهج التي يستخدمها الباحثون لإجراء أبحاثهم ودراساتهم، وكذلك تناقش بعض المعضلات العملية الإجرائية والأخلاقية التي يتعرض لها الباحثون خلال دراسة اللغة في المواقف الاجتماعية الواقعية الحقيقية.

ومن بين القضايا المهمة التي يناقشها هذا القسم قضية اكتساب اللغة، حيث تركز أهيرن على دراسة كيفية اكتساب وتعلُّم الأطفال الصغار اللغة لأول مرة خلال عملية إدماجهم في المجتمع وفي الممارسات الثقافية. 

ويظهر أن القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية وتنــوع طرق تفاعل الآباء مع الأبناء، كلها عوامل تؤثر في عملية اكتساب الطفل اللغة، وأن عملية اكتساب اللغة ليست قاصرة على  مرحلة الطفولة فحسب، وإنما تستمر مع المراحل المختلفة للحياة أو تعلُّم لغة ثانية.

تختتم أهيرن هذا القسم بمناقشة العلاقة بين اللغة والفكر والثقافة، حيث تؤكِّد أن العاملين في مجال الأنثروبولوجيا اللغوية في الوقت الحالي يرون أن تأثير اللغة في الفكر والثقافة هو أنها تجعل الإنسان يميل أو ينزع إلى رؤية معينة للعالم، أو لديه قابلية واستعداد أكبر لهذه الرؤية من غيرها، ولكنه ليس تأثيرًا حتميًا، أي أن اللغة لا تفرض هذه الرؤية دون غيرها، تقول أهيرن «إن اللغة التي تتكلمها قد تجعلك أكثر ميلًا واستعدادًا لرؤية العالم بطريقة معينة، لكنها لن تمنعك من رفض هذه الرؤية أو تغييرها».

 

المجتمعات‭ ‬اللغوية

في القسم الثاني تنتـــــقل أهـــــيرن من القضايا الأساسية إلى مناقشة الصور المتعددة لما تُطلِق عليه «المجتمعات اللغوية»، وتُركز على فكرة «المجتمع اللغوي»، أي المجتمع الذي يستعمل لغة واحدة على اختلاف لهجاتها؛ ما المشترك الذي يجمع بين أفراد وأعضاء مجتمع لغوي بعينه؟ وما نوع التفاعلات والعلاقات القائمة بينهم؟ وما الحدود المكانية التي يمكن أن تجمع أفراد مجتمع لغوي واحد؟ ثم تمضي أهيرن خطوة أبعد لتضع هذه المجتمعات اللغوية في سياق عالمي أوسع، حيث تناقش التعددية اللغوية في ظل العولمة، والحدود الفاصلة بين اللغة واللهجة، وتوضح أن الأفراد الذين يتحدثون لغتين أو أكثر في منطقة ما قد يجمعهم موقف واحد مع أفراد آخرين في منطقة أخرى في العالم، ولذا فمن المهم عند إجراء أبحاث حول الممارسات اللغوية أو الاجتماعية مراعاة التعددية اللغوية لدى الأفراد والمجتمعات. 

وإذا كان الباحثون في مجال اللغويات يُركزون عادة على اللغة المنطوقة فقط، فإن أهيرن تنظر إلى اللغة بمنظور أوسع وأشمل، حيث تتناول الطبيعة المركبة للغة في صورتي الكتابة والشفاهية، وتؤكد أن دراسة ممارسات الكتابة في السياق الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع الممارسات الكلامية الشفهية تكون مفيدة وكاشفة إلى حد كبير.

 

حياة‭ ‬اللغة‭ ‬وموتها

تُناقش الكاتبة واحدة من أهم القضايا المتعلقة باللغة بشكل عام، وهي قضية موت اللغة وحياتها؛ ما الأسباب التي تؤدي إلى تعرض كثير من اللغات في العالم للخطر؟ وما الأفكار والممارسات التي تقف وراء أفول وانقراض لغة ما تدريجيا؟ وماذا يعني القول إن لغة ما أصبحت ميتة أو منقرضة؟ وكيف يمكن بعث الحياة من جديد في لغة ما؟ تذكر أهيرن أمثلة عديدة للغات اندثرت واختفت في القرن العشرين، وتُقدم معلومات إحصائية لوصف وتحليل عوامل الخطورة التي تتعرض لها اللغة والتي تؤدي إلى ضعفها وأفولها تدريجيا، مثل الاقتصار على تعليم اللغات الأجنبية للأطفال في الصغر، والتوقف عن تعليم اللغة الأم سواء في مرحلة الطفولة أو في مراحل تالية. وتعتبر أهيرن أن نسبة اللغات الآمنة في العالم لا تزيد على 10 في المائة من مجموع اللغات في العالم، وأن بقية اللغات في خطر الانقراض والاندثار. هذا الجزء المهم من الكتاب بمنزلة جرس إنذار لمن يهمه أمر حياة لغته وبقائها وازدهارها.

 

اللغة‭ ‬والسلطة‭ ‬والتمييز‭ ‬الاجتماعي

في القسم الثالث والأخيــر من الكتاب، تنتقل أهيرن لتتناول قضايا أكثر عمقًا داخل بنية المجتمعات اللغوية القائمة بالفعل، قضايا مثل النوع والعِرق والقومية والسلطة، وذلك بفحص ودراسة الأبعاد المختلفة لأنـــماط التمييز الاجتماعي واللـــــغوي وعدم المساواة داخل مجتمعات بعــــينها، وكــــيف يرتبط كلٌّ منها بالآخر. فتتناول الكاتبة مثلًا قضيــة الفروق اللغوية بين الرجل والمـــرأة، وتناقش وتُحلل بعض الأفكار السائدة حول طرائق الكلام لدى الرجال والنساء من خلال الحوارات اليومية العادية بين الرجال والنساء، وتُكرس جزءًا كبيرا لتفنيد بعض الخرافات الشائعة نتيجة الاستسهال والتسطيح وعدم الدقة، وتقول إن أكثر ما يُميز العلاقة بين اللغة والنوع هو التركيب والتنوع. ثم تتعرض لقضية التمييز والاختلاف العرقي وعلاقتها باللغة والممارسات اللغوية، وذلك من خلال حالة الأمريكيين من أصول إفريقية.

تختتم أهيرن كتابها بفصل أخير يجمع خيوط الموضوعات التي تعرضت لها على طول الكتاب، وذلك لتقديم رؤية عن الممارسات اللغوية المترسخة في آليات السلطة، وتُشير إلى أن ما يربط هذه الموضوعات المختلفة ببعضها البعض ويلعب دورًا في كلٍّ منها هو وجود نوع أو نمط من «السلطة» وعلاقاتها وتجلياتها المختلفة في اللغة أو من خلال اللغة. وتذكر الكاتبة أن العاملين في حقل الأنثروبولوجيا اللغوية يستندون في تناولهم للعلاقة بين اللغة والسلطة إلى ثلاث مقاربات أساسية لفكرة السلطة، هي: مفهوم الهيمنة كما صاغه وعبَّر عنه رايموند ويليامز، وكتابات ميشيل فوكو حول السلطة والخطاب، وأعمال بيير بورديو عن اللغة والسلطة الرمزية والسوق اللغوية. وبينما يتجنب معظم اللغويين الحديث عن علاقة اللغة بالسلطة تمامًا، ويُفضِّلون تناول اللغة باعتبارها موضوعًا للتأمل بدلًا من اعتبارها أداة للفعل والسلطة، ترى أهيرن أنه عند النظر إلى استعمال اللغة باعتباره نوعًا من السلوك الاجتماعي، فإن القضايا المتعلقة بالسلطة والقوة تُصبح قضايا أساسية ومركزية.

وأخيرًا، يمكن القول إن مادة الكتاب وموضوعاته ليست موجهة إلى القارئ المتخصص فحسب، وإنما هي في متناول القارئ العام، فالأمثلة التي تتناولها الكاتبة مأخوذة من الحياة الواقعية وتلمس قضايا معاصرة مثل العولمة والقومية والتمييز الاجتماعي..إلخ. فالكتاب - كما تقول الكاتبة - بمنزلة دعوة إلى الجميع لاستكشاف فكرة أن استعمال اللغة يعني الانهماك في صورة من صور السلوك الاجتماعي، ما يؤدي إلى تقدير أفضل لما تعنيه اللغة الحية .