خمسة أساقفة مسلمون

خمسة أساقفة مسلمون

يبدو أن صفحة الأندلس لم تطو بعد، لا عند العرب بالطبع ولا عند الإسبان أيضا، بدليل أن المؤرخ الإسباني الكبير رافاييل أصدر قبل فترة دراسة مبنية على الوثائق الإسبانية المحفوظة في مكتبة الإسكوريال، تعيد إلى الذاكرة ما حلّ بالموريسكيين بعد سقوط غرناطة. فقد فُرض التنصير على من تبقى من المسلمين في الأندلس، ومن كان يثبت إسلامه كان يحاكم صوريا، ويحرق لاحقا وهو حي. ولعل من أفجع الصور التي يشير إليها المؤرخ الإسباني صورة خمسة أساقفة كاثوليك من أكبر أساقفة غرناطة، وممن كانوا يمارسون مهامهم الدينية في أكبر كنائسها، قد أحرقوا وهم أحياء داخل كنائسهم، بعد أن ثبت لمحاكم التفتيش أنهم ليسوا مسيحيين إلا في الظاهر، وأنهم يمارسون إسلامهم سرًا. ويمكننا أن نفترض استنادا إلى هذه الواقعة، أن الأسر التي ينتمي إليها هؤلاء الأساقفة كانت أُسَرًا مسلمة سرا أيضا، ولكنها كانت مضطرة لأن تُرسل أبناءها إلى المدارس الإسبانية، لأنه لم تعد للمسلمين مدارس خاصة بهم. ويبدو أن كفاءة هؤلاء الطلبة هي التي دفعت المسئولين عن هذه المدارس إلى التوصية بإلحاقهم بالمدارس الدينية ليتخرجوا فيها أساقفة وقساوسة. وكان من الطبيعي أن يذعنوا لذلك وأن يذعن معهم أولياء أمورهم، لئلا يتخذ رفضهم قرينة على إسلامهم، وعندها ستجري تصفيتهم، وفي أحسن الأحوال ترحيلهم إلى الخارج، وهذا ما حصل لمئات الآلاف من الأندلسيين بعد سقوط غرناطة.

ولكن حرق هؤلاء الأساقفة ذوي الرتب الرفيعة في الكنيسة بسبب إسلامهم السري له مدلولات كثيرة، منها أن العسف البالغ القسوة الذي مارسه الإسبان بحق الموريسكيين لم يتمكن من القضاء على الإسلام على النحو الذي خططوا له ومارسوه، فالإسلام ظل ينبض زمنا طويلا في القلوب والضمائر على النحو الذي ذكرنا. وهذا يعني أن قرار طرد الموريسكيين من إسبانيا عجز عن استئصالهم، وأن دخول الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا ظافرين إلى غرناطة لم يحقق لهما كل ما اشتهياه. ففي تلك الفترة العصيبة لجأ الموريسكيون إلى وسائل مختلفة للحفاظ على إسلامهم، منها إخفاء تراثهم الديني داخل جدران بيوتهم. وإلى وقت قريب كان الإسبان الذين اشتروا تلك البيوت يعثرون، إذا أرادوا ترميمها، على بقايا ذلك الإرث الروحي العظيم لموريسكيي الأمس القريب نسبيًا. ولكن على الرغم من الروح الظلامية العاتية التي فرضتها الكنيسة بوجههم، فإن الإسلام الأندلسي استمر يحيا تحت أشكال مختلفة في غرناطة وإشبيلية وقرطبة وبقية حواضر الأندلس وإلى اليوم، فعدد الإسبان الذين يكتشفون جذورهم الإسلامية في تزايد دائم. وكان لوركا، أكبر شعراء إسبانيا في العصر الحديث، يعتبر نفسه واحدا من مواطني مملكة غرناطة، وقد دعا كوديرا كبير المستعربين الإسبان في القرن العشرين (وكان الأمير شكيب أرسلان يعيد اسمه إلى أصله العربي «قُدَيرة») إلى تعريب أوربا وأسلمتها. كان من رأيه أن أوربا غرقت في المادية، وأن سبيل علاج هذه المادية هو إعادة الروح العربية الإسلامية إليها، وخاصة أن هذه الروح كانت الشرارة التي أيقظت أوربا من رقادها ووهبتها نهضتها الحديثة.

ولكن المشهد بالغ الدلالة على أن الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، الذي استمر ثمانية قرون بالتمام والكمال، ظل يحيا ولو في الروح والوجدان، وكان المؤرخ الإسباني أمريكو كاسترو قد ذكر مرة أن تاريخ بلاده لم يتشكل على النحو الذي تشكل عليه لولا الحقبة الأندلسية. وإذا كان الأمير شكيب أرسلان قد أشاد في كتابه «حاضر العالم الإسلامي» بإسلام بلدان التركستان وما وراء النهر، معتبرًا أن الإسلام إذا زال من كل مكان، فإنه لا يزول من تلك الجبال الآسيوية، فإن الإسلام الأندلسي لا يقلّ صلابة عنه، بدليل أنه استمر إلى اليوم يتواصل بصورة أو بأخرى، وبدليل أن الذين بقوا واضطهدوا أعظم اضطهاد، واضطروا للمجاملة أو للتقية، كانت سرائرهم عامرة بإرث الآباء والأجداد .