المواطنة اللغوية

المواطنة اللغوية

حين نسافرُ، شرقًا وغربًا، وبالتحديد إلى بلد تكون اللغة العربية غريبة عن أهله، بعيدة عن لسانهم، فإن  كثيرين منا تخفق قلوبهم طربا حين يطالعون لافتة كتبت حروفها باللغة العربية، أو يبتهجون عندما تصافح عيونهم مجلة تحمل عنوانًا عربيًا، وكأنهم وجدوا في هذه الحروف الساكنة بالأماكن النائية وطنًا، وهذا حق، فاللغة وطن ثقافتنا، واستخدامها والتجويد فيها هو جزء من مواطنتنا، والقرب منها أو الابتعاد عنها يحدد موقفنا من هويتنا الثقافية.

في «الديرة»، وهي المفردة التي تعني، ضمن ما تعني؛ البيت، والعاصمة، وقلب البلد، كنا في منطقة الخليج العربية ننزل، قبل عقودٍ، إلى أسواقنا، فتطالع العيون لافتاتٍ كُتبت بالخط النسخ المحبب، أو الرُّقعة الرشيق، أو الفارسي الأنيق، وجُلها إن لم يكن كلها تحمل أسماءً عربية، لمعانٍ وصفاتٍ أو حتى لأسماء عائلات عربية. وحين استعار أصحاب المحال أسماء لتجارتهم من وراء الحدود لم يتجاوزا بلاد الشام ومصر والعراق، فبقي الحس العربي في اللافتة يعبِّر عن انتماء عروبي أصيل. 
ثم بدأت العلامات التجارية تغزو السوق، بين وكيل لساعةٍ أنتجتها أوربا، أو موزع لسيارة صدَّرتها الولايات المتحدة، أو تاجر صوف غُزل في إنجلترا، أو بائع أجهزة حديثة مستوردة من اليابان، وهكذا تسامقت اللافتات الضخمة بأسمائها الغريبة، حتى أصبحت السماء والجدران تتحدث بلغات غير العربية، وحين تنقل أسماء هذه العلامات التجارية إلى لغتنا الأم، تبقى ترجمة حرفية، تطابق لفظا أجنبيا لا معنى له في اللغة العربية.
إنني أتأمل بإعجاب موقف دولة وحيدة، هي اليابان، تدافع عن لغتها كما يحارب الساموراي من أجل مبادئه. ونحن نعرف ما وصلت إليه بلاد الشمس المشرقة من تقدم صناعي، بإنتاجها الفذ وتقنياته الخلابة، لكنها أدركت أن اللغة هي مسألة حياة، فدافعت عنها وأمَّنت مكانتها وكفلت حمايتها بكل السبل لأجيالها القادمة لتكون لغة قوية تكسر هيمنة اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية.
لقد أطلقت اليابان مشروع الجيل الخامس في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، لتجني اليوم ثمار هذا الدرع الواقي للغة، المستندة إلى أدب ثري وتقدُّم تكنولوجي. يحدث هذا في وقت تتهافت فيه دولنا العربية للانضمام إلى مجموعات لغوية للمحتل السابق لبلادنا مثل «الأنجلوفونية»، و«الفرانكفونية»، و«الإسبانوفونية»، بل وتحاول ألمانيا أن يكون لها تكتلها اللغوي يجمعها مع النمسا وسويسرا، لتأخذ هي الأخرى مجموعة جديدة تستقطب مستعمراتها السابقة بالمثل في «الجرمانوفونية»، وكأننا رضينا من الغنيمة بالإياب، وخلصنا إلى أننا لن نتحرر يومًا، وإن تحررت أرضنا، فستبقى عقولنا أسيرة للغات مستعمرينا السابقين، الذين ينفقون أقصى ما لديهم لاستمرار الاحتلال اللغوي، باعتباره جزءا أصيلا من مشروع وجودهم، على حساب وجودنا.
أما اليوم، فإن كل ما كان صرعة جديدة، وموضة عابرة، باستخدام الحرف الأجنبي واللفظ الغربي في الشفاهي والمدون، قد أصبح اليوم جزءًا أصيلا من الكتابة الإعلامية والإعلانية، وباتت القنوات المرئية وبرامجها تحمل أسماء أجنبية، ويتحدث مذيعوها بالعامية، حتى نكاد نعترف بأن اللغة العربية أصبحت غريبة في دارها، وكأن هذه التيارات الجارفة التي تغرقنا تريد أن تزيح اللغة إلى المعاجم، بعيدًا عن حياتنا اليومية، حديثًا وكتابة، شفاهة وتدوينا، وهو أمر لو تعلمون عسير، لأنه يعني أننا نهدر حقنا في الحياة، كلما أضعنا حقنا في اللغة، وحق اللغة علينا.

العربية محورًا لمنظومة الثقافة 
إن اللغة ليست المخزون الثقافي للماضي وحسب، فليست هي فقط أشعار المعلقات، وسرديات النصوص، ومدونات التاريخ، وإنما هي كذلك  عصب مجتمع عصر المعلومات تؤدي فيه دورا مهما لكونها محور منظومة الثقافة. وما استخدام اللغة في المعالجات الآلية، عبر الكمبيوتر والهواتف النقالة وغيرها من الوسائط إلا اعتراف بكونها نبعًا طبيعيا لتكنولوجيا المعلومات، وما يستطيع العالم أن يبني تقنيته ويطورها بمعزل عن اللغة، ولذلك تكون إشاعة اللغة استخدامًا وتعليمًا وتطويرًا محورا أساسيا لتثبيت هويتنا كي تتفق وتتماشى وتنسجم مع التطور الصناعي.
إن التدوين عبر الإنترنت، في صوره التي نعرفها، ومنها آيات التخاطب عبر وسائط الدردشة، والبريد الإلكتروني، يمكن أن يكون دافعا لتعلُّم اللغة. فإذا كانت اللغة الشفاهية محملة بتراث تاريخي وميراث أسطوري، فيجب علينا، حين ننقلها إلى الإنترنت، أن نصعد بها مرحلة أعلى من التقويم، وهو مع الأسف ما لا نلحظه في معظم المخاطبات، التي تنحو إلى العامية المحكية بلهجاتها المتباينة، أو تستسيغ الحروف اللاتينية لكتابة المفردات العربية، أو تهدم أركان اللغة، هدمًا يتخطى الآني للقادم، واليوم للغد. وسيكون لنا رجوع إلى الرسائل الإلكترونية في عدد قادم.

مأساة اللغات الهجينة 
المواطنة اللغوية تلزمنا، كمواطنين، الاهتمام بأطفال المستقبل، فبدلا من أن يكونوا في كل المراحل الدراسية بالمدارس الأجنبية دارسين للغات غير العربية، يجب الانتباه إلى البديل الأجدى وهو تأسيسهم، منذ البداية، في لغتهم العربية. إنها اللغة الأم التي تعد بوابة حياة، وهي لا تمكِّن من القراءة وحسب، بل ومن الفهم، والمشاركة، فهي أساس لغوي قويم، واجتماعي سليم، وعلمي صحيح لكي يكونوا بناة لمستقبل أمتهم. 
أزعمُ أن للمؤسسات دورًا مؤثرا في إشاعة هذه الفوضى، فهي التي تجيز أسماء اللافتات في المحال والمؤسسات التجارية، وهي التي تبيح البرامج ومحتواها في الإذاعات السمعية والبصرية، وهي التي تتغاضى عن الاهتمام باللغة حين تحارب لغة الضاد معركة وجود وسط تنوع لغوي كبير، خاصة وأن منطقتنا - مثالا - بها عشرات الجنسيات التي تحاول فرض حضورها من خلال اللغة، بجرائد ومحطات بث خاصة، بإعلانات موجهة بلغات هؤلاء، وبتكوين لفظي ومفردات غزت البيوت التي يعمل بها الآسيويون، لتولد لغاتٌ هجينة، تجافي الصواب، وتحارب الفصحى، وتصد اللغة العربية بمقوماتها عن أداء هدفها في الربط المحكم بين سلوك المواطن وهوية الوطن. 

مَنْ يقاوم حصان طروادة؟
تطحننا العولمة وكأنها تأتي تمتطي حصان طروادة، لتخرج مقوماتها، وعلى رأسها اللغة الأجنبية، فتطمس المكون الوطني المحلي، لأن العولمة تؤدي حتما إلى سيادة لغات الدول المهيمنة بالسياسة والاقتصاد والثقافة والقيم، وهذا بدوره يهمش اللغات القومية والثقافات النوعية، وما الإنترنت إلا إحدى أدوات هذا «الطروادي» الذي يعتمد على غفلتنا وإهمالنا للغتنا.
يتوقع خبراء «اليونسكو» أن تنقرض 3000 لغة تمثل نصف لغات العالم، بنهاية القرن الحادي والعشرين، أي أن هناك لغة واحدة على الأغلب تنقرض كل أسبوعين. وإذا كان ذلك يهدد اللغات التي تنحصر في بلد واحد أو قومية واحدة أو بقعة جغرافية وحيدة، فإن اللغة العربية يمكن ألا تعاني إذا أتيح لها الانطلاق، ليقوم بها أهلها، فتكبر بهم، ويكبرون بها.
قد تنتشر اللغة الإنجليزية في التقنية، وقد تكون لغة دراسة، ولكن اللغة العربية جزء أصيل من المكون الحي لثقافتنا. ولا ضير من وجود لغتين تتجاوران وتتحاوران وتحققان معا ما يصبو إليه المجتمع، فهناك بلد ثنائي اللغة، مثل بلجيكا، وهناك آخر ثلاثي اللغة، مثل سويسرا، وهناك بلد متعدد اللغات مثل الولايات المتحدة، ولم يؤثر ذلك سلبيًا في نهضة المجتمعات هناك. ويكفي للاستدلال على أهمية اللغة أن نعرف قدرتها على أن تكون رابطا اجتماعيا محكمًا، باعتبارها وسيلة تواصل ثقافي فعال، ومن هنا تعد إجادة اللغة تنمية للولاء الثقافي للأمة، والوطن، والمجتمع، والأسرة. كما أن لغتنا العربية هي بوابة لدراسة تراثنا الذي ربطنا بجذورنا.
إن ما يتهدد لغتنا ليس فقط في لافتة أجنبية تعلَّق هنا وهناك، وليس مجرد برنامج مسموع أو مرئي ينطق بغير الفصحى السليمة، وإنما هي أزمة شاملة تمتد من المهد إلى المجد، حيث إن تعليم اللغة اقتصر عليها كأداة جامدة بنحوها وصرفها ودلالاتها، ناسيــن جانبها الأهم الذي يستخدم في حياتنا اليومية، وأعني به وظيفتها لدى العلماء والأدباء على حد سواء.
نحن بحاجة إلى ثورة لدعم اللغة العربية، وهو ما تبادر إلى ذهننا حين اتخذنا العام 2014 ليكون عام اللغة العربية، ونقطة انطلاق لخطة عمل تشمل المناهج الدراسية، والمعاجم اللغوية، خاصة تلك التي تهتم بالناشئة، وتدشين مشروع لتعليم لغتنا العربية لأبناء الأمة الإسلامية من خارج الدول العربية، لأنها لغة القرآن الكريم، فضلا عن الاهتمام بها في فضاء أبناء جالياتنا بدول المهجر.
ومن علامات العولمة تلك القنوات الأجنبية التي تستخدم لغتنا العربية مزدوجة مع لغاتها، فهناك القناة الألمانية بلغات العربية والإنجليزية والألمانية، وهناك القناة الخبرية الفرنسية 24 مزدوجة اللغة، وهناك «روسيا اليوم» بالعربية والإنجليزية، مع مادة صوتية روسية أحيانا، هذا يعني أن تلك القنوات، بلغاتها ومحتواها هي أيضا أحصنة طروادية.
قبل أكثر من نصف قرن لم تكن هناك من آليات للإعلام المصور العابر للقارات إلا في ما تقدمه الصحافة المكتوبة، وهو الذي مهد لظهور مجلات ثقافية مصورة عربية وغربية تمارس تأثيرها بفض بكارة مناطق وموضوعات جغرافية واجتماعية وتاريخية، ولعل مجلة العربي خير نموذج على ذلك، حيث تجاوز تأثيرها ودورها لأكثر من 55 سنة جغرافية دولة الكويت، إلى كل المجتمعات الناطقة باللغة العربية.

اللغة والمرئي
بعد ظهور الإذاعة المرئية، عرف المشاهد، في العالم كله بشكل عام والعالم العربي كذلك، بوجود الأفلام الوثائقية، التي ترتدي مسوح الحقائق, يُستعان فيها بالصور الأرشيفية وشهود العيان، من أجل إيجاد قاعدة جماهيرية للأفكار التي تطرحها. وقد اعتمدت شاشات القنوات العربية على هذه الوثائقيات بشكل كبير لملء فراغ بساعات إرسالها سببه طول ساعات الإرسال، وكذلك عدم وجود إنتاج محلي. وهنا ننطلق للحديث عن كون هذه الوثائقيات بمنزلة كبســــولات إعلامية متحركة تجسد القنوات التلفزيونية الموجهة الناطقة باللغة العربية، فلم يعد هناك تلفزيون عربي يخلو من مادة مصورة قدمت مسبقا في القنوات التلفزيونية الأجنبية، وتمت ترجمتها ودبلجتها لتقدم لاحقا في القنوات العربية نفسها، بما نعده حضورًا مزدوجا لا نجد مثيلا له للثقافة العربية في القنوات التلفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية. 
على شاكلة الأفلام الوثائقية، نلاحظ حضور المسلسلات المترجمة والمدبلجة، على الشاشات العربية، ومن ثَمَّ إلى موقع اليوتيوب الذي يعيد بثها بترجماتها العربية بما يساهم في نشر تلك الدراما المعبرة عن ثقافاتها، مثلما ساهم في نشر ثقافة المسلسلات التركية، والباحث في هذه المواقع على شبكة الإنترنت يدرك كَمَّ الملايين من العرب الذين يتابعون إعادة البث، بما يشكل مشاهدة موازية إضافية للقنوات التلفزيونية الموجهة باللغة العربية. 
في دول مثل إندونيسيا ونيجيريا اللتين يشيع فيهما الدين الإسلامي، والصين والهند، بكثافتهما السكانية المليارية، يمكن أن تؤسس قنوات عربية موجهة تساهم في انتشار اللغة العربية، إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة. هذا ليس فقط نشرًا لثقافة العالم العربي، بل دعوة لنشر اللغة العربية، التي تستمد قوتها من حضورها وتأثيرها ومساهمتها في بناء المجتمعات. 
بهذا يمكننا أن نوجز التأكيد على مواطنة اللغة، داخليا وخارجيا، في دعم تعلُّم اللغة العربية وتيسير استخدامها، وهو أمرٌ سيسهم على المدى القصير والأمد الطويل في إعادة إحياء لها، كمقوم أساس لهويتنا، ومستودع رئيس لثقافتنا، وأداة أهم لتقدمنا. 
إن ترقية المواطنة اللغوية أمر يوجب علينا العناية به مثلما نعنى بأمور حياتنا، سواء بتنمية ثقافتنا العربية، أو العناية بمستقبل اللغة العربية لأجيالنا القادمة. ولعل أولى أدوات ذلك الترقي كله إعادة النظر في كل سلوكياتنا اللغوية المعاصرة الآن، ولن يتم ذلك من دون إعادة النظر في مناهجنا، التي يجب أن تغذي المواطنة بثقافة اللغة العربية، وأدواتها المتمكنة.