الربيــع العربــي .. من التلبيـــس إلى التدنيـــس

الربيــع العربــي .. من التلبيـــس إلى التدنيـــس

سمّى لفيف من المهتاجين «الزلازل» الّتي هزّت بعض البلاد العربيّة أواخر سنة 2010 وبداية 2011  ثورات, واعتبرها آخرون «فورات» تلطيفا بالنسج على منوال توفيق الحكيم عندما وصف «ثورة» عبدالناصر, إذ قال في «عودة الوعي»: «ظنّناها ثورة فإذا هي فورة». واعتبرها المبالغون الحالمون «تسونامي» لا يبقي ولا يذر، وهو لا محالة في آنه آت على الأخضر واليابس، لكنّه آيل إلى هدوء مؤذن بجنان تزيّن الأقطار بعد زوال الرجس الذي توطن عقودا. 

هتف «المستضعفون» و«المقموعون»  والجياع المتضوّعون كلّ بالشعار الذي به يحلم، وعليه علّق آماله والذي ظلّ يتلجلج في صدره عقودا. 

وجه التسمية
بادر الغرب بتعيين «الحراك» الدّائر في بعض البلاد العربيّة و«التبدّل» الحاصل فيها «ربيعا». وهو بهذا التوصيف حمّال الأوجه يسجّل حضوره الرّمزي ويؤكد أنّه على الدّوام صاحب الفكر التأليفي الذي يجد الصّياغة المناسبة في الوقت المناسب لكلّ ما يجدّ ويستجدّ داخل حدوده وخاصّة خارجها. فالمصطلحات هو الذي ينحتها مجرّدة، ثمّ يضفي عليها من المعاني والأبعاد المبطّنة والمعلنة ما يريد وما يشاء والأحداث هو محرّكها. والأمثلة على ذلك لا تحصى. لقد اختلق منظّرو الفكر المركزي الأوربي وسدنة الاستعمار من غلاة الاستشراق الكولونيالي: «أسطورة الآباء المؤسّسين» وشيّدوا على أساسها فكرا عنصريّا وفلسفة إقصائيّة. لقد هلّل لهذه «الأسطورة البدعة» العديد من مفكّري الشرق الذين نخصّ بالذكر منهم طه حسين. وفي المقابل دحضها آخرون مثل المفكر وعالم الاقتصاد سمير أمين.
أمّا الأسطورة الثانية التي تقول إنّ نهضة العرب في القرن التاسع عشر قد خرجت من رحم الغرب، فإنّها تسقط مفهوم التراكم التاريخي وتكرّس مفهوم «اللحظة الصفر» لا تقبل حتّى بالنّسبة إلى الشعوب البدائيّة الأغرق في البدائيّة. ولسنا في حاجة لأن نذكر بأن بحوث عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود لوفي شتراوس Clause Levi Strauss أكّدت أن لا وجود لشعوب من دون ثقافة ومن دون دولة. وقد ألّف بيار كلاستر كتابا بعنوان «مجتمع اللاّدولة» ناقش فيه هذه المسألة نقاشا مستفيضا. 
ومن المفاهيم الملتبسة مثل مفهوم الربيع العربي عبارة «مهمّة الرجل الأبيض» هذه المهمّة التي لا يخفى طابعها العنصري التحقيري والتي أرادها الغرب تحضيريّة للهمج. وهي في الواقع توطينيّة استغلاليّة سالبة للخيرات مستلبة للهويات والثقافات.

«الربيع العربي» مفهوم مستنسخ ملبّس
لم يكن استعمال هذا التوصيف لما حدث في مغرب البلاد العربيّة ومشرقها بريئا ولا اعتباطيا بل مقصود. 
لقد استعملت عبارة «الربيع» في مضمار التحوّلات السياسيّة أوّل ما استعملت لتوصيف ما حدث في الجمهوريّة الاشتراكيّة التشيكسلوفاكيّة عندما قرّر الحزب الشيوعي التشيكسلوفاكي اعتماد اشتراكيّة ذات وجه إنساني وسياسة تحرّريّة نسبيّة. بدأ ربيع براغ Prague يوم 5 يناير 1968 بتسلم الإصلاحي ألكسندر دوبشاك Alexandre Dubcek الحكم وانتهى يوم 21 أغسطس 1968 بغزو البلد من قبل جيوش حلف وارسو بقيادة الجيش الأحمر. أجهضت هذه «الثورة السياسيّة الثقافيّة» بسرعة فائقة وبتدخل خارجي. وهي التي انطلقت في شهر يناير وهو الشهر نفسه الذي انطلقت فيه «الثورتان التونسيّة والمصريّة»، أي «الربيع العربي» الذي تواصل مدّه إلى شهر فبراير الذي اشتعلت فيه نيران «الثورة» في ليبيا. وقد سبقت هذه الحركات انتفاضة أهل اليمن التي كانت لها الريادة والسبق في المضمار، والتي يبدو أنّها لم تشد اهتمام المفكرين في الغرب بالدرجة التي أثارتها حركات الشمال الإفريقي التي أيقظت دعاة الفكر المركزي الأوربي، فوجد في الحين التسمية المناسبة لما جرى، فأضفت التسمية القديمة على الحدث الجديد تيمّنا واستشرافا لما ستئول إليه الأحداث في بلاد هذا الربيع الجديد.
ومن هنا جاء تلبيس الأحداث التي شهدتها المنطقة العربيّة كلمة «الربيع» ليس تفاؤلا بتحوّل دورة الزمان العربي من شتاء ثقيل الوطأة أفقد السنديانة العاتية المعمّرة كلّ أوراقها إلى ربيع تستعيد فيه تلك الشجرة خضرتها، بل للتذكير بأنّ ما من دابّة في الأرض إلاّ وللغرب عليها قدرة وسلطان، وله في سيرورتها  فعل وتأثير. وفي هذه التسمية تضمينات متماثلة حتى لا نقول إنّها تستبشر بالحلول وتتمنّى أو تتوقع الانكسار والفشل. فليس التفاؤل بالمستقبل المشرق وليس التفاعل الودّي والتعاطف الصادق مع جحافل الحفاة والعراة والجياع والمضطهدين والمهمّشين الذين خرجوا متحدّين قوى البطش والقتل هو الذي حدا بأصحاب «النوايا الحسنة ودعاة الخير» إلى تلبيس «كلمة ربيع» لما جرى ويجري في بعض البلاد العربيّة، بل لأنّهم يعتقدون أنّ هذا الربيع سيئول إلى ما آل إليه ربيع براغ، ولاسيّما أنّ عمره كان قصيرا والربيع هو أقصر فصول السنة.

ربيعان عربيّان قبل الحرف
يتعلّق الربيع العربي الأوّل بما أقدم عليه والي مصر محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر من إصلاحات رفعت مصر إلى درجات عليا من الرقي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. لكنّ تواطؤ الدولة العلية مع الإنجليز أوقف هذا الدفع، فآلت الأمور إلى ما آلت إليه من دمار وتخلف.
أمّا الثاني فيخصّ ثورة الشريف حسين-شريف مكّة الّتي أعلنها على الأتراك العثمانيين يوم السبت 10 يونيو 1916 وكلّلت بالنجاح. لكنّ هذا الربيع سرعان ما أحاله الإنجليز إلى شتاء غائم بنفي الخليفة الثّائر الذي توفّي في عمان 1931. 
إنّ تبعات ذينك الحدثين اللذين أعقبا انتصار الثورة العربيّة الكبرى، والتي انتهت بمأساة لم تزل تلقي بظلالها على الأوضاع في المنطقة العربيّة عامّة، وعلى العلاقات الدوليّة بصفة أعمّ.

 ربيع الألفيّة الثالثة: التّدنيس
يختلف هذا «الربيع» عن الأوّل والثاني  بطبيعة الأسباب والدّواعي. فإذا كان الأوّل سعيا إلى التقدّم والمنعة الاقتصاديّة بدفع من شخص، وإذا كان الثاني نتاج ثورة بطل رفض التبعيّة وعقد العزم على دحر السّالب المستلب، فإنّ الثالث لا قائد له ولا خطّة تحكمه، فهو وليد حراك شعبي ضدّ الفقر والجوع بكلّ أشكاله. وهو عبارة عن انفجار فاجأ الجميع رغم أنّ ترتيباته دبّرت في الخفاء قبل سنوات من وقوعه. حملت رياح ما يسمّى تجاوزًا بـ«الرّبيع العربي» بعض القادة المستبدّين على الهرب تاركين بلدانهم لقمة سائغة للعيّارين والقتلة والمجرمين من كلّ الأصناف ومسرحا للفوضى «الخلاّقة». وقد تبيّن أنّ الأمر يتعلّق بفوضى هدّامة. 
ظننا ما حدث في بعض ديار العرب «تطهيرا» تعقبه سلامة وعافية تنضح طهارة بمعنى هدم يليه بناء وإعمار، لكنّ الرّياح جرت في الجملة بما اشتهت سفن مدبّري الانتفاضات في الخفاء ولم تجر بما تشتهي حشود الجائعين والمظلومين، فاستحال «الربيع» كابوسا مزعجا وخريفا غائما وفي بعض الأحيان إلى دمار شامل.
لقد هزّ هذا الربيع أركان دول عريقة معمّرة وبنى مجتمعات وثقافات ظننّاها محصّنة ومتصوّرات للحاضر والمستقبل خلناها غير قابلة للاختراق والارتداد.

مجتمع اللادولة
لــــقـد خـــصــــّص بيــــــــــار كـــــلاســـــــتر     Pierre Clastre عملا مفردا لمناقشة هذا المفهوم يحمل العنوان نفسه «مجتمع اللادولة»، لقد كنّا في البلاد العربيّة نتندّر بأنّ بلد «القائد» ملك ملوك إفريقيا مجتمع اللاّدولة، وذلك لغياب مقوّمات الدولة وأركانها. رحل ملك الملوك وترك وراءه بلدا ممزّقا تحكمه ميليشيات مسلّحة منها ما لا يؤمن بالدولة الحديثة ويرفض ثقافتها ويحلم بإقامة إمارات إسلاميّة. 
والنّوادر في هذا المضمار كثيرة والمناداة باستئناف دولة الخلافة المستبدّة أكثر. وعون الجميع وعدّتهم في بلوغ هذه المقاصد إرهاب معتزم حسم المسألة بالحديد والنّار والقضاء على الدولة ومؤسّساتها ودساتيرها، لكنّ المؤسف أنّ الجميع يتدرّج نحو حروب أهليّة مدمّرة قد يكون مؤدّاها تفكّك الدولة وانتصاب مجتمع اللادولة. إنّ قوّات الأمن والجيش والحرس والدرك والقمارق أصبحت في نظر المعاول الهدّامة طواغيت يجب القضاء عليها حسب خطّة محكمة النّسج والتدبير، أمّا الدساتير الوضعيّة فهي انحراف وتحريف وكفر وبهتان، والاختلاط في المدارس والمجتمع والمؤسّسات دعارة ورجس يحرسهما الشيطان، وفي هذا المضمار ينبغي أن نشير إلى زحف الطائفية في بلدان عرفت بانسجام مكوّناتها الدينية مثل مصر وسورية، وهو ما ينذر بخطر تفكّك هذه الدول.

انهيار الاقتصاديات
تعيش بلاد ما يسمّى بالربيع العربي حالة من الانهيار الاقتصادي لا نظير لها في تاريخها الحديث والمعاصر، حتى أنّ بعض هذه البلدان أضحت على وشك إعلان الإفلاس والعجز عن الإيفاء بتعهّداتها لرفض الصناديق المقرضة والأصدقاء والأقرباء مساعدتها، متعلّلة بضبابيّة الرؤية السياسيّة وغياب الاستقرار والأمن. وهذا الأمر صالح بالنّسبة إلى بعض «الدّول» التي تتمتّع بموارد طبيعيّة خرافيّة. فقد تعطّلت في هذه البلدان الغنيّة آلة الإنتاج وتوقّف استغلال الثروات نتيجة التنافر والتنازع بين المليشيات التي تريد كلّ واحدة منها التحكّم في تلك الموارد لتحقيق برامجها ومخططاتها.
لقد انتعشت التجارة الموازية حاملة معها كوكبة من الآفات وأهمّها التفكيك التدريجي للنّسيج الاقتصادي ورواج المخدّرات وتجارة السّلاح.
واشتعال أسعار الموادّ الأساسيّة وغير الأساسيّة، زد على ذلك عزوف المستثمرين المحليين والأجانب عن الاستثمار في هذه البلدان لعدم وضوح الرّؤية السياسيّة وغياب الأمن. 

الفقراء يزدادون فقرا
لقد ازداد الففقراء فقرا وتعزّزت طوابيرهم بالذين فقدوا موارد رزقهم ونزلوا إلى درجة الإملاق. وبالإضافة إلى تفاقم الفقر في أوساط من اعتقدوا أنّ «الثورة» ستمطرهم ذهبا وفضّة، وظهرت مجموعات طفيليّة من الأثرياء الذين جمعوا أموالا طائلة بسرعة مذهلة.

المثقّفون ومحاكم التفتيش
استبدلت في بلاد «الربيع العربي» مظاهر  الحجر على الأفكار التي كانت تمارس بالأمس القريب عن طريق القوانين الزجريّة بأشكال أخرى من الضغط على حرّية التفكير والإبداع. ومن هذه الأساليب المبتدعة في عصر العولمة التكفير والتشهير بالمبدعين والمثقفين في شبكات التواصل الاجتماعي وعلى أعمدة صحافة المجاري وتهديدهم بالقتل. ويوظف في هذا المضمار - كما في غيره - الدّين أداة في الصّراع بين سائر البدائل إلى درجة الخلط بين الأنواع، أمّا الجمع المقصود بين المصحف والسيف إلى درجة المماهاة بينهما فغائياته لا تخفى رغم أنّ الجميع يعلم أنّ الدّين نواة صلبة ومقوّم أساسي من مقوّمات هويّة المجتمعات الإسلاميّة . أضف إلى ذلك ما يروج من خرافات عطّلت العقل وأعادت سلطان الميتوس.

النّخب السياسيّة والتجاذبات المربكة
صاحب «الثورات - الفورات العربيّة» انفجار إعلامي وسياسي غير مسبوق. فانطلقت الألسن وتكرّست حرّية فعليّة في القول والتنظّم، إذ أطلق العنان لبعث الصحف والقنوات التلفزيّة والإذاعيّة والأحزاب التي أصبحت في بعض البلدان تعدّ بالمئات، وهذه أمور محمودة ولاشك، لكنّ الاختلافات الجذريّة بين مرجعيّات الأحزاب، وبرامجها – متى وجد برنامج – قد عمّقت الهوّة التي تفصل بعضها عن البعض الآخر، ما يؤدّي في بعض الأحيان إلى صدامات لا تخدم بالضرورة، فيعسر الوفاق وتتوه السّفينة في أعماق بحار الطموحات والحسابات وتدفع الشعوب ثمن ذلك بؤسا وفقرا ومرضا. والجميع يريد التربّع على سدّة الحكم التي يصحّ في حقّها بيت الشاعر الجاهلي لبيد الذي هجا به ناقته  إذ قال لبيد:
لقد هزلت حتّى بدا من هزالها
كلاها وسامها كلّ مفلس
وخلاصة القول إنّ ما حدث في بلدان الربيع العربي مغامرة مشوّقة رغم أخطارها وويلاتها، لأنّها كشفت المغطّى ووضعت على المحك آراء ونظريّات ومشاريع تخصّ المجتمع والدولة، وفضحت أطماعا ومخطّطات وتوافقات وساعدت على فرز الحبة الجيّدة من الرديئة. وهذا كلّه يساعد على بناء صلب لا يتسنّى إلاّ بإصلاح هيكلي للمنظومة الاقتصاديّة والتربويّة التي تكرّس مناهجها قيم التسامح وتقطع الطريق أمام مساعي غسل الأدمغة وما يترتب عليها من جنوح إلى العنف والإرهاب اللذين بتواصلهما يتأبّد التخلّف وتستحيل مجتمعات الربيع العربي إلى كتائب من الإرهابيين وجحافل من المتسوّلين الحفاة العراة. وهو أمر بدأت بوادره تلوح في الأفق، وبدأت بفضله نسمات الرّبيع العربي تستحيل إلى ريح سموم، والربيع يتحوّل إلى أكذوبة لن يغفر التاريخ لمدبّريها سوء عملهم.
ومع ذلك فإنّ الأمل في النّهوض بعد هذا السقوط يبقى قائما لتوفّر بلدان الربيع العربي على كفاءات عالية متعلّمة وعزم شعوبها على رفض الرداءة والرّجوع إلى عصور الظلمات والانحطاط وهي المسلّحة بالقيم الإنسانيّة العليا.