ثقافة الـجَمال.. في عصر المساكين

ثقافة الـجَمال.. في عصر المساكين

الجمال.. قيمة ومعنى وشكل ومضمون.. الجمال في عصرنا أصبح حاجة أشد إلحاحا من أي عصر آخر.. وهو عصرنا المكتظ بالمساكين من كل نوع! فهل يمكن أن يقدم الجمال حلولا لمساكين هذا العصر.. وما أكثرهم؟ فهم في أمس الحاجة إلى حلول بديلة عن الضعف والمهانة والضيق والعوز والضغوط وكل أنواع «المسكنة».. هؤلاء المساكين في عصرنا، المساكين بالمعنى الاجتماعي والعنصري والاقتصادي والجنسي.. فهل يمكن أن تساهم وسائل ثقافة الجماهير Popular Culture (الآداب والفنون والرياضة والإعلام وغيرها من منافذ وأدوات ثقافة الجماهير) في تقديم ونشر «ثقافة الجمال» في عصرنا، عصر المساكين؟ هل يمكن أن تعوضهم – بالجمال - عن فقدان الحق والخير في حياتهم ولحياتهم؟

الجمال.. تعويض؟! 
الجمال في ثقافتنا العربية أكثر من مجرد ملاحة الشكل أو المظهر.. لغتنا العربية، بعبقريتها التاريخية والثقافية غنية بمعاني الجمال، التي تجعله أكثر من مجرد «جمال» خارجي شكلاني، ففي معجم «لسان العرب» لابن منظور، هناك معانٍ كثيرة غنية لكلمة «جمال»، ومنها: «الجمال»: مصدر الجميل، والفعل «جمل»... وقال فيه «ابن سيده»: «الجمال» الحسن يكون في الفعل والخلق. وقد «جمُل» الرجل، بالضم، جمالا، فهو جميل وجمال.. و«التجميل»: تكلف الجميل. قال «ابن الأثير»: والجمال يقع على الصور والمعاني، ومنه الحديث: «الله جميل يحب الجمال»، أي حسن الأفعال كامل الأوصاف.. وقال «اللحياني»: «وجمالك أن لا تفعل كذا وكذا أي لا تفعله، والزم الأمر الأجمل».. و«أجمل في طلب الشيء»: اتأد واعتدل فلم يفرط.
الجمال في الثقافة الغربية الكاثوليكية اكتشف فيه بعدا جديدا واحد من رموز الثقافة الغربية الكاثوليكية (المفكر فون بلتاسر) أن الجمال ينقذ الحياة من اللامبالاة بها.. وكيف أن الغرب في ثقافته المعاصرة  قد استخدم صفة «جميل»? لإنقاذ الإنسانية من «إهمال الوجود» – على حد تعبيره – وذلك مرورًا بهومر Homer ومارتن هيدجر وبينهما كثيرون. أيضا حقيقة الجمال تأتي كقيمة متعالية الوجود، تدعونا إلى الانخراط في العالم، حيث الجمال يمنح نفسه لنا بكل حرية وبغض النظر عن الاعتبارات الشخصية، فالجمال هو من يقدّمنا إلى وجود غني غير مرهق، وهو ما يجعلنا ندرك الطبيعة السخية للوجود الذي نعيشه، فالجمال الحقيقي بالمعنى الروحاني العميق، هو «امتياز الحب»، لأن الحب وحده هو ما يختبر الجمال كعطية مجانية بالكامل، فالجمال يتكون من: المعنى، الإدهاش، الفرح، والفهم «الممتن». 
الجمال في الثقافة الهندية القديمة هو المتجدد دائمًا من لحظة إلى أخرى، فهو دائما «الجديد»، وهو ما ينزع العقل من براثن عالم الرتابة والروتين والاعتياد، حيث الأشياء تبقى قديمة عتيقة مضجرة من دون الجمال.
كل هذه التعبيرات والمعاني والقيم للجمال يحتاج إليها المساكين بشدة، بل قد يتمتعون بهذه المعايير الجمالية والقيم الجمالية دون أن يدري الذين يظنون في أنفسهم أنهم أرقى وأغنى وأفضل وأجمل من المساكين في مجتمعاتنا المعاصرة.. فما علاقة الجمال بالمساكين في عصرنا، بثقافة الجماهير أو ثقافة البوب Popular Culture؟   وكيف تمنح «ثقافة البوب» أو ثقافة الجماهير حاليا الجمال للمساكين كتعويض لمسكنتهم؟

جمال المساكين يبقى.. وقبح البطش ينتحر
في روايته الخالدة «البؤساء»، يطرح فيكتور هوجو تحليله العميق الآسر المؤلم لطبقة الفقراء المساكين في فرنسا القرن التاسع عشر. يصف وينتقد فيكتور هوجو في روايته الظلم الاجتماعي في فرنسا في الفترة الواقعة بين سقوط نابليون عام 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب عام 1832. وبتحليل صفات ذلك العصر وصفات تلك الطبقة من البؤساء: «المعدمون، الشحاذون، الداعرات، السارقون، وغيرهم»، نجد أنها الطبقة أو الفئة التي مازالت سائدة حاليا في كثير من المجتمعات، ففي دراسة جماعية قام بها راشيل جوود وديفون هيل ولين والاش بكلية  Mount Holyoke لعصر فيكتور هوجو الذي كتب فيه ومن وحيه رائعته البؤساء، حددوا سمات كثيرة بالوثائق الإعلامية والتاريخية والفنية لذلك العصر (عصر البؤساء). والغريب أو اللافت في الأمر أن تلك السمات المميزة لعصر البؤساء نستطيع نحن أن نرى فيها تشابها مع سمات عصرنا الآن! فقد كتب فيكتور هوجو نفسه في مقدمة روايته: «تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفا اجتماعيا هو نوع من جحيم بشري. فطالما توجد لامبالاة وفقر على الأرض، فإن كتبا كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائما».
فعلى مستوى الطبقات الاجتماعية والصراع بينها، نجد أن الطبقة البرجوازية الصاعدة بقوة من مكانها بالطبقة المتوسطة في سبيل الوصول إلى الطبقة الارستقراطية، نجد أن تلك الطبقة البرجوازية داست على الطبقة الفقيرة واحتقرتها، بل استخدمتها لتحقيق أغراضها الوصولية التطلعية نحو الانضمام ضمن الطبقة الأرستقراطية. لذلك استخدمت الطبقة البرجوازية طبقة الفقراء وقودا لمحرك طموحها الاجتماعي، فحولت طبقة الفقراء إلى طبقة من «البؤساء» أو «المساكين». وبالتالي ليس غريبا أن طبقة الفقراء المعدمين كان أعضاؤها يُدفعون دفعا وقهرا إلى أعمال منافية للقانون والأخلاق: الدعارة والسرقة والتسول وغيرها. وليس أشبه من تلك السمة بسمة عصرنا، حيث استغلال الطبقة البرجوازية الصاعدة بقوة أخلاقيات مادية إلى الطبقة الأرستقراطية على حساب الطبقة الفقيرة المعدمة. فأمام هذا الكم الهائل الذي تمتلئ به المجتمعات الشرقية من ضحايا الفقر من المساكين الذين دُفعوا دفعا إلى مصير مجهول، نستطيع أن نلاحظ الأيادي الخفية التي تستخدمهم وقودا أيضا لصعودها إلى الطبقة الراقية، فالنساء تُدفع دفعا وقصرا إلى ممارسة البغاء أو هن ضحية من ضحايا الرجال المعتدين عليهن. والفقر هو المتواطئ الأول مع كل نفس شريرة تستغل حاجة أو مسكنة الإنسان الاقتصادية أو الاجتماعية.
المدهش أيضا في الدراسة السابقة نفسها الخاصة بسمات عصر البؤساء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أن الفقراء أو طبقة المساكين أو البؤساء اجتماعيا أو اقتصاديا رغم كل ما عانوه من ظلم، فإنهم كانوا ينظمون سلسلة من الاعتراضات والمسيرات الشعبية واللقاءات الجماهيرية للمطالبة بتحسين أوضاعهم، وكأنها ثورة منظّمة على الظلم وقد حدثت بالفعل ضد الملك لويس فيليب في العام 1832. ولعل ذلك ما نشاهده بأم أعيننا الآن في كثير من الساحات العربية على الشاشات، حيث ثورة البؤساء والمساكين ليسوا فقط المساكين اقتصاديا بل المساكين إنسانيا: فاقدو الحرية، الجوعى إلى الخير العام لأوطانهم، العطشى إلى العدل والمساواة. أما النساء آنذاك، فهن الأكثر «مسكنة» بلا منافس! فقد كن – كباقي النساء في كل العصور والأوطان- الأكثر معاناة من المسكنة والطابور الأول من المساكين. وبالتالي، ليس من الغريب أن تهب النساء آنذاك وحسب الدراسة المذكورة إلى الانتفاضات الاجتماعية، وليس غريبا أن تؤسس نساء الطبقة العاملة أو أصحاب الأعمال المحدودة نوادي كثيرة للمرأة، بل وأول جريدة نسائية (نسوية) feminist  في فرنسا تنادي بحقوق المرأة المسكينة اقتصاديا واجتماعيا وجنسيا (الاستغلال الجنسي من الاغتصاب إلى الدفع لامتهان مهنة البغاء). وما أشبه اليوم بالبارحة، وخاصة في مجتمعاتنا العربية، التي تعج بالنساء المساكين اقتصاديا واجتماعيا وجنسيا، مما يدفع النساء، حاليا، إلى تأسيس جمعيات ومؤسسات ونواد خاصة بهن، وإن حتى في كيانات افتراضية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
 الأطفال أيضا كانوا يُرغمون على العمل المضني بعيدا عن أي درجة من التعليم أو حتى تغذية مناسبة. فكان الأطفال يطلقون في الشوارع إما للتسول وإما لممارسة الأعمال الإجرامية كالسرقة.. وهل في ذلك اختلاف كبير عن أطفال الشوارع في مدننا العربية الحالية؟
 في نهاية الرواية العظيمة، يقدم فيكتور هوجو الحل الجمالي للمساكين: انتحار القبح مُمثلا في ضابط الشرطة الأفاق الكئيب القبيح جافير، وكأن السلطة الغاشمة التي لا تتعامل مع الإنسان على أنه إنسان وتدمر حياته باسم القانون سوف يأتي لها يوم لتنتحر، كي يبقى جمال البساطة والصراع مع الاحتياج حتى الانتصار. 
لذلك.. نستطيع إذن أن نسمّي عصرنا: «عصر المساكين»، فالأرقام والإحصائيات عربيا وعالميا تشهد بما لا يدع مجالا للشك أننا نعيش عصر المساكين اقتصاديا واجتماعيا وجنسيا.. تماما كما كان عصر فيكتور هوجو، عصر «البؤساء»، فالمساكين أيضا موجودون بكثرة وسط زهور العالم العربي: شباب وبنات العرب المساكين بفقدان الحرية، والمساكين بفقدان الإحساس بالقيمة والكرامة الإنسانية، والمساكين بصراعات مع الأجيال السابقة التي لا تستطيع عبور الفجوة المعرفية، بل والمساكين بتطلعات مادية معقولة لا تتعدى بيتا وزوجة أو زوجا وخبزا متوافرا دائما، لكن البطالة والقمع والقبح في كل مكان تجرّف داخلهم أبسط الأحلام المشروعة، والأرقام والإحصائيات تعكس ذلك بوضوح شديد، من نسب مساكين العنوسة المتعاظمة شبابا وشابات، إلى مساكين معدلات الطلاق المبكر المتعاظمة، إلى ظروف اقتصادية متدنية تمنع الحلم العادي لأي شاب في أن يتزوج ويشبع احتياجاته العاطفية والجنسية والنفسية، فضلاً عن المساكين بحلم «يوتوبيا» أو مدينة فاضلة عربية بعد عصور من مدن الصفيح والمخيمات والأسمنت المغشوش والقيادات الورقية.

الجمال.. سلطة المساكين
تمنح رواية «رادوبيس» لنجيب محفوظ التي صدرت في العام 1943 الجمال «كسلطة» للمساكين، من خلال بطلة الرواية الغانية الحسناء «رادوبيس» الفتاة الريفية البسيطة التي رفعها جمالها، فأصبحت محط أنظار صفوة رجال المملكة من قادة ووجهاء وتجار وفنانين بمن فيهم «فرعون» نفسه. لقد جعل محفوظ من «رادوبيس» امرأة وحيدة لا أصل لها ولا حسب، فقط السلطة الوحيدة التي تملكها هي «الجمال»، وكأنه يقول إن تعويض الفقر والحرمان وفقدان كل شيء يكمن في الجمال، على الرغم من أن هذا الجمال قد تحول إلى سطوة وسلطة، من خلال القدرة الفائقة لدى «رادوبيس» على استقطاب السلطات المتنوعة، بدءا من المال والقوة والسلطان وحتى الفن، ممثلة في شخصيات الرواية: التاجر (عانن)، وقائد الحرس (طاهو)، والملك (فرعون)، والنحات (بنامون).

جمال التمرد.. للذين بلا رجاء
نموذج متميز من ثقافة الجماهير التي ناقشت وقدمت مشكلة المساكين بأنواعهم، وقدمت إليهم حلا جماليا، رواية «المساكين» للروائي العظيم دوستويفسكي، التي تدور عن حياة ثلاث شخصيات داخل الأحياء الفقيرة في مدينة 
سان بطرسبرج بروسيا، حيث كانوا يعيشون بلا رجاء، واعتبرهم دوستويفسكي ضحايا اضطهاد الشر للخير.. ولذلك يقول هذا الروائي العظيم في رسالة له لأخيه: «من المحزن أن يعيش المرء بلا رجاء». وقد اعتبر هذه الرواية الناقد الروسي بلينسكي رواية عظيمة، لأنها قد تمردت على النظام القائم – النظام الاجتماعي الظالم - الذي طحن المساكين.
 ولم يختلف الأمر كثيرا في رواية دوستويفسكي الأخرى «مذلون مهانون»، التي تصور مأساة الموظف الصغير الذي يحيا حياة بائسة فيها الكثير من الذل والمهانة. لكن دوستويفسكي في روايتيه يقدم التمرد والرجاء كنوع من الجمال للمساكين تعويضا لهم عن الخنوع واليأس. 

جمال الحب والتواصل.. للمساكين نفسيًا
رواية جديدة «نُزل المساكين» للطاهر بن جلون, تحكي قصة أستاذ جامعي دفعته تناقضات علاقاته مع أسرته وقومه إلى الهجرة إلى إيطاليا، ليقيم في نُزل متواضع في نابولي وسط نوعيات مختلفة من الجنسيات والثقافات والخلفيات العقائدية، لكنها كلها تجمعها صفة المسكنة النفسية، حيث الصراعات الداخلية مع الذات والآخرين أيضا، وقد أدت تلك الصراعات إلى عالم غريب يسكنه – بل يسكن - هؤلاء المساكين: السيدة العجوز، والرجل مومو الإفريقي، وجينو عازف البيانو، والمرأة إيفا، والراوي.. هؤلاء كما يصفهم الكاتب نفسه «العائلة التي كانت أكثر وجودًا في النزل، نزل المساكين، ملجأ الوحدة الكبرى، ملجأ جرحى النفوس، المجروحين والمشوهين والعرج ووجوه صاغها الشقاء والحزن».
وقد وصف هو نفسه ذلك النزل بمساكينه بأنه «نزل غرقى الحياة، وساحة لتجمع اللصوص أو بعض الأشخاص الذين ضربتهم اللعنة, يقبعون فيه ليدفعوا ثمن أخطائهم. إنه ليس مطهرًا بل يشبهه». إن ذلك النزل هو رمز ساحة العالم الآن, والصراعات التي تجمع بين المتخالفين في الثقافة والخلفيات.. كما يعكس هذا النزل ما وصل إليه الإنسان في عالمنا من تعقيدات الحياة وقذارتها ظاهرًا وباطنًا, مما ولد تعقيدات الصراعات. 
ويأتي الحل الجمالي للمساكين نفسيا من الطاهر بن جلون من خلال روايته هذه في كلمتين: الحب والتواصل مع الآخرين، فبينما نبحث عن الخلاص مع شخصيات الرواية، نجد أن الحب في هذا العالم أضحى هو الملاذ والهدف. الحب الإنساني النقي والطاهر، والبعيد عن جميع أنواع الصراعات. ولأن البطل في القصة هو ذلك الكاتب الذي هجر بيئته وهاجر بعيدا عن أزماته مع المقربين إليه بين أرضه وعشيرته، يختار تلك الحياة الجديدة وذلك النزل الممتلئ بالمساكين نفسيا بغرض التطهر النفسي والرغبة في إعادة اكتشاف الذات من خلال التواصل مع الآخرين خارج نطاق الحدود والأعراف الضيقة. فالحب والتواصل هما الجمال النفسي المقدم كحل مقترح على المساكين نفسيا.

جمال الروح.. لمساكين الهموم القرمزية
 نموذج آخر من نماذج ثقافة الجماهير في تعاملها مع المساكين من جهة والجمال من جهة أخرى .. وهي السينما.. فـ«مساكين السينما» - كواحدة من أهم إبداعات ثقافة الجماهير وأعدادهم فيها وعلى شاشاتها لا حصر لهم - يعيشون الحالة الوجودية للألم والمعاناة والحاجة بكل أنواعها. وواحد من أهم الأفلام التي عبّرت عن المساكين من ناحية وقدمت لهم الحل الجمالي من ناحية أخرى، فيلم «اللون القرمزي»  للمخرج الأمريكي ذائع الصيت ستيفن سبيلبيرغ الذي أنتج عام 1985، وقد نال عنه جائزة الأوسكار كأفضل مخرج عام 1986، وأهمية هذا الفيلم القديم نسبيا  كنموذج لتناوله قصة المساكين «عنصريا» – مع تقديمه للحل الجمالي لهم - أنه مقتبس عن رواية حملت العنوان نفسه للكاتبة آليس وولكر المناهضة دومًا للمواقف العنصرية. في تلك القصة وذلك الفيلم الذي تحول إلى قطعة فنية توثيقية للمساكين عنصريا، يتعرض السود هناك قبل تحريرهم للذل والمهانة من البيض، ومن الأهل أيضًا! وقد أدى دور البطولة في الفيلم ديسرت جاكسون، أوكوشيا بوسيا، ووبي جولدبيرج والمذيعة ذائعة الصيت أوبرا وينفري. فمنذ المشهد الأول  نشعر برغبة في البكاء، تعاطفا مع هؤلاء المساكين، وتحديدا النساء منهم، اللاتي تتم معاملتهن كالعبيد من البيض ومن أهلهن على حد سواء، من خلال قصة أربع شخصيات نسائية: «سيلي» الفتاة المعذبة التي لا صوت لها ولا قرار والمغتصبة من زوج والدتها، فتحمل بطفلين نتيجة هذا الاغتصاب، وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة عامًا من عمرها، لتنتهي في بيت رجل أرمل لديه أطفال جاء بها كخادمة وليست زوجةً! شقيقتها «نيتي» المقربة إلى قلبها وروحها، التي تهرب من منزل زوج والدتها، بعد أن حاول تكرار ما فعله مع أختها «سيلي»، فتلقى المصير نفسه على يد زوج شقيقتها! ومُغنية الملاهي الليلية شوج أفاري، وصوفيا التي تمثل في الفيلم رمز التحدي والصلابة.
 لكن الحل الذي تقدمه القصة، قصة الفيلم، لهؤلاء المساكين عنصريا، يأتي بنوع من الجمال «الروحي»، حيث يخرج الفيلم بهؤلاء المساكين منتصرين روحيا وتحديدا في المشهد الأخير. وكما تكتب عن هذا الحل علا الشيخ في جريدة «الإمارات اليوم» بتاريخ 31 يناير 2013 واصفة إياه بأنه «نهاية روحية»، حيث تدخل القدرة الإلهية في المشهدين الأخيرين من الفيلم، الاقتراب من الروحانيات هو مخرج «سيلي»، أخيرا، تمشي بين الحقول شمسيتها فوق رأسها بخطوات غير متعثرة، رأسها مرفوع إلى السماء، تلفحها الشمس حينًا وتغطي السنابل جزءًا من جسدها حينًا، وكأن الطبيعة هي التي قررت حمايتها من كل مكروه، ليلحقه المشهد الأخير الذي تظهر فيه شقيقتها «نيتي» تقدم لها مفاجأة أنها عثرت على ابنتها هي وابنة أختها وربتهما حتى أن ابنها متزوج، لكنهم لا يتحدثون الإنجليزية، بل لغتهم الإفريقية. مشهدان تلتقي فيهما كل الأرواح، تمامًا مثل ألم المخاض الذي ينسى بمجرد حضن الأم لوليدها الذي خرج إلى النور للتو.
 إن مساكين عصرنا، وهم كثيرون، ربما لا يطمعون إلا في نذر يسير من الجمال أو «ثقافة الجمال» تقُدم إليهم، حيث التحرر من عبودية الحاجة والعوز، بدءا من العوز المادي مرورا بالعوز إلى القبول من الآخرين وانتهاء بالعوز إلى الحرية وتحقيق الذات الإنسانية.. فالجمال إطلاق وتحرير.. عتق.. تعويض.. تمرد على القبح.. حب في زمن الكراهية.. تواصل في زمن الصراع.