علي السبتي.. انكسارات الـحب الواقعية
المحبوبة في شعر علي السبتي هي جزء من الواقع، وهي لا تقف بذاتها منفصلة عن الواقع أو فوق الحياة كما يحدث في الشعر الرومانسي، بل تأتي المحبوبة دوما مصحوبة بارتباطات مع الواقع. وهنا يصبح موقف الشاعر علي السبتي نحو المحبوبة هو أحد تجليات موقفه تجاه الواقع، وليس تجاه الذات. وبذلك تتجاوز تجربة الحب عند السبتي مسائل اللذة والعذاب المعتادة في المذهب الرومانسي.
ولذا نجد تجربة الحب لدى السبتي تختلط بمسارات الحياة الاجتماعية وبتطوراتها مما يؤدي إلى تحولات جذرية في التجربة – كما سنرى.
ففي أولى قصائده عام 1955، وعنوانها «رباب»، يقول السبتي:
بمن انشغلت يا رباب قولي لا تحابي؟
أبشاعر حلو القوافي ذي أغاريد عذاب..
أما تغني، تطرب الدنيا وتهتز الرحاب
غناك أروع ما لديه، فأنت فينوس الجميلة..
أبهى من القمر المشع يطل من خلف السحاب
أم بالغنى المترف الرحب الجناب؟
رب القصور تطاولت حتى السحاب..
و«الكاديلاك» تجوب أنحاء المدينة..
تحكي على الدنيا حكايات حزينة..
تروي حكايا الظلم والعرق المذاب..
قصص امتصاص المال من تعب الشباب
رب «الكاديلاك» الجميلة يا رباب..
نشر الدمار بأمتي.. نشر الخراب..
من دمع هذا الشعب راح
يعب كاسات الشراب.
هنا يتوجه الشاعر بالخطاب المباشر إلى شخصية محددة، بلغة بسيطة من دون تعقيدات، رغم إتيانه على ذكر «فينوس» - وهو ما يرجح أن يكون بعض تأثر برمزية «السياب» - لكن في السياق ذاته السبتي البسيط.
تخلق قصيدة السبتي هنا نوعًا من المفارقة والمفاضلة والتضاد بين نموذجين لشخصين يتنازعان قلب رباب، وهما:
الشاعر حلو القوافي الذي يغني لرباب ويطربها..
وصاحب القصور والكاديلاك..
ويقدم السبتي مفاضلته بين النموذجين، فيدين صاحب الكاديلاك ويحذرها منه، ويصفه بأنه «غول»، فيقول:
قارون عاد بوجهه العربي أقسى من أخيه
المال يغدقه فيجري كالجداول كالبحور..
فيدير أفئدة الصبايا..
يا أنت يا غولا يخيف إذا ادلهم الليل أو طلع النهار
يا باعثا في الأرض آلاف البغايا..
بغد تثور الأرض، فتقتلع الجذور..
وتعود للدنيا الشموس وضيئة الدم والإهاب..
تتجلى هنا اللهجة الثورية الشعبية التي سادت خمسينيات القرن الماضي، تدين ثراء الأغنياء، وتراه سببا لشقاء الفقراء.
بينما يصف السبتي نموذج شخصية الشاعر بشكل مختلف، ويصر على طرح السؤال على رباب، فيقول:
بمن انشغلت رباب يا أمل المعنى؟
يا من خلقتك من هواي البكر لحنا
لحنا كما شاء الغرام وشئت أنت
يبقى على الأيام أقوى من تصاريف الليالي..
من مال قارون يجر على الدنا زهوا ذيوله
لا يوجد هنا إغراق في الصور أو الرموز. فالقصيدة أشبه بحوار واقعي.
لكن السبتي يصنع من الحوار قصة شعرية تامة، فهو يسارع إلى عتاب رباب:
أنسيت شاعرك المتيم يا رباب..
أنسيت أشعاري وحبي والعذاب؟
وسرعان ما تأتيه إجابة رباب:
وأتى الجواب
همسات شاعرة تهيم في الخيال
لا لا تصدق ما يقال
أنا لم أبع قلبي. وهل قلب يباع؟!
كل الكلام إشاعة.. لا.. لا تصدق ما يشاع.
شخصيات هذه القصيدة هي ثلاثة نماذج اجتماعية تنسج قصة معهودة: المرأة بين الشاعر والثري صاحب الكاديلاك. ورغم النهاية السعيدة التي اختارها الشاعر على المستوى الحواري والرومانسي، فإن القضية تبقى عالقة وغير محسومة على المستوى الوجودي والرمزي.
يستمر هذا النموذج الاجتماعي الثلاثي مع الشاعر علي السبتي في كثير من قصائده، حيث يقدم للقارئ حكاياته مع رباب بطرق مختلفة في قصائد مختلفة. لكنه يستمر كشاعر في التصارع مع الثري المترف (صاحب الكاديلاك)، للفوز بحب رباب المرأة.
وهنا يكون طرفا الصراع هما الشاعر في مقابل الثري صاحب الكاديلاك، بينما المرأة ليست طرفًا في الصراع. لكن مواقعها تختلف باختلاف القصيدة – كما سنرى.
ويقدم الشاعر علي السبتي شهادته للقارئ باعتباره طرفًا رابعًا شاهدًا على مسار الحكاية. وتتطور القصة وتتغير أحوال رباب، ومعها مواقف الشاعر، ومواقع الثري صاحب الكاديلاك.
ففي قصيدة كتبها في بداية عام 1965، بعنوان: «في الليل يذوب الجليد»، وتفصلها عشر سنوات عن قصيدة «رباب»، يقول السبتي:
عيناك من خلف الستارة تبسمان..
ويداك تضطربان حين تلوحان..
وتلوح من شفتيك إذ تتأوهان.. لي دعوتان..
خلي المكان وذوَّب الليل الزمان
نام «الغراب».. ألست تسمع؟
نام أرهقه السعال
يا ليته لا يستفيق.. أكان ما أبغي محال؟
ومناي لو نوم اللحود ينام، كي ما أستريح
وأريح قلبا من تشبثه جريح
ماذا لو اني لم أكن بنتا أصيلة؟
لو كنت مثل الأخريات لفزت بالفرص الخضيلة
لو كنت مثل سعاد أو ليلى لعشت كما أريد
بنتا تريد فتستطيع وليس والدها يريد
فيمزق الروح البريء صيانة لدم القبيلة
من أن يلوثه دم من بعض أبناء العذاب
يا مجد آباء تعفر بالتراب
سأدوسه لأظل غانمة شبابي
إن باع أهلي جسمي الريان للمال الوفير
فلقد وهبتك قلبي الصخاب بالدم والشعور.
وفي هذه القصيدة، فاز صاحب الكاديلاك بالزواج من المرأة «رباب»، ما سبَّب لديها انفصالا بين الجسم وبين القلب. فهي زوجة الثري، لكن قلبها مازال مع الشاعر. وهي تناديه «في الليل» حين «يذوب الجليد»، حيث الجليد يرمز للجسم من دون الروح ومن دون القلب ومن دون «الدم والشعور». فتنادي المرأة على الشاعر، وتتمنى لو أن الزوج الثري لا يستيقظ من منامه.
ونلحظ في هذه القصيدة، حدوث قدر من الانقلاب في الأدوار والمآلات والمصائر. فعلى العكس من قصيدة «رباب»، تبادر المرأة بتوجيه الخطاب إلى الشاعر. بينما كان الشاعر هو الذي يبادر المرأة بالسؤال عن مشاعرها. ثم تنتظر المرأة الجواب من الشاعر، بينما كان الأمر على العكس في قصيدة رباب.
ويجيب الشاعر:
أنا يا حبيبة لست أنكر أن حبك في دمائي
لكنَّ لي شممي وشامخ كبريائي
أخلاق ملاحين تحرس لي إبائي
تأبى دمائي أن تعيش على فتات المترفين
أو أن ألص لذاذة من نائمين
أنا من عرفت ولن يغيرني البعاد
سأضم جرحي بين أضلاعي وأحلم في الرقاد
بغد يذوب به جدار الثلج في كل البلاد
تتجلى رمزية «الثلج» في القصيدة بوضوح، فترفعها في مستوى التصوير على قصيدة «رباب» السابقة، ما يشي بحدوث تطور في شعرية السبتي. لكن تبقى الرمزية في قصيدة «في الليل يذوب الجليد» مقتصدة ومحدودة (بين الثلج والجليد والغراب)، ولا تخرج عن نطاق البساطة المعهودة في أشعاره، بحيث تظل مفهومة من العامة وجماهير المتلقين لأشعار السبتي. فمازالت الكلمات العينية غير الرمزية أعلى تأثيرا في القصيدة، مثل: البنت الأصيلة – القبيلة – سلطة الأب – المال – الجسم – أخلاق الملاحين.. إلخ!
وتختتم القصيدة بتأمل الوضع الحزين للمرأة، وهو ما يختلف عن الخاتمة السعيدة المتعلقة بالشاعر في القصيدة السابقة:
نام الغراب وأنت ساهرة العيون
تتطلعين إلى البعيد.. تفكرين
ماذا جنيت من الوجاهة والعراقة والنقود؟
ومناك أبعد ما تكون وأنت في بيت اللحود
يمتصك الألم الدفين فتذبلين!!
ونلحظ تطورًا في مفهوم الحب لدى الشاعر، حيث انتقل من عتاب الحبيبة في قصيدة «رباب» والنجاح في الحصول على تطمينات منها بأنها له وليست للثري صاحب الكاديلاك، إلى موقف مختلف تماما، كأنه فيه قد نفض يده عن الحبيبة وتباعدت بينهما السبل، فأصبح لا يملك إلا أن يتركها تواجه مصيرها وحدها.
ونجد تطورًا آخر في قصيدة «رسالة إلى صديقة مثقفة»، كتبها في نهاية عام 1965 أيضا، حيث يقول:
صديقتي،
إذا سمعت يوما أني أحب..
وأنني أبيت لا أنام
لما يهيج بي الغرام
فلا تصدقي – وحق روحك – الكلام
مازلت من عرفت، قلبه بدون قلب
أود أن أحب أن أذوب أن أطب..
تكون لي حبيبة، رباب أو سمر
فذاك لا يهم
ما أبتغيه أن أحس بالحنين بالألم..
صديقتي
قد كنت في الصغر
عشقت بنت جارنا التي في عينها حور
وفي حديثها فتون
وكنت حينما تمر
أقول ما أريد أن أقول بالعيون
وبعدها
حلَّق فوق دارها
نسر أخاف أهلها
فشالها
وخلَّفت فؤاد من أحبها
تسحقه الظنون
وهكذا تأتي خاتمة الحب في هذه القصيدة الثالثة أشد تعاسة من سابقتيها، بل أيضا نلحظ أن الشاعر هنا أصبح لا يخاطب حبيبته مباشرة، وأصبح يحكي عنها لامرأة أخرى، وهو ما يشير إلى مزيد من تباعد المسافات، حيث غاب صوت الحبيبة تماما من القصيدة، بل وغاب حتى صوت المرأة التي يحكي لها الشاعر حكايته التعيسة.
عقب ذلك بسنتين اثنتين، وفي عام 1967، يكتب السبتي قصيدة أخرى «رابعة»، بعنوان «سيدتي»، فيقول:
سيدتي..
أقولها بالرغم من حشرجة الأنين
بأضلعي لست الذي تبغين
فلست أملك القصور فوق شاطئ الخليج
ولم يكن أبي من السراة أو صحابة الأمير
بل كان عاملا أجير..
فأنت تبحثين عن منابع الثراء ..
وما ثرائي غير أحرف وكبرياء
ومن أود أن تكون لي إنسانة لا تعرف الحساب
لكنها تحس بالشباب حيثما يمور في عروقها الشباب
تحبني شاعرها الذي ما مثله إنسان
ترى خرابتي التي أقطنها كأنها بستان
وأنت يا سيدتي مولعة ببهرج الأشياء..
لست الذي به تفكرين..
أنت تكذبين!
نلحظ هنا تطورًا آخر في مصائر الحب لدى الشاعر، وفي موقفه نحو المرأة، خلال الفترة التي استعرضناها منذ قصيدة «رباب» في عام 1955، وعبر قصيدة «في الليل يذوب الجليد» في بداية عام 1965، وقصيدة «رسالة إلى صديقة مثقفة» في نهاية عام 1967، وحتى قصيدة «سيدتي» في عام 1967. وهو تطور نحو مزيد من اليأس من الحب، ومزيد من الانكسار في العلاقة مع المرأة، وفي الصراع مع الثري صاحب الكاديلاك.
فباستعراض عناوين القصائد الأربع: رباب - في الليل يذوب الجليد - رسالة إلى صديقة مثقفة – سيدتي»، نجد أن العنونة تتطور من اسم المرأة الحبيبة (رباب)، إلى وصف حالة شعورية متعلقة بالليل والجليد، إلى وصف للصديقة، إلى لقب عام (سيدتي)، وهو ما يصح مناداة أي امرأة به، في مرتبة أقل من الحبيبة ومن الصديقة. فهذا التطور في عنونة القصائد، يشير إلى تطور في تصعيد في مسافات التباعد بين الشاعر وبين الحب والمرأة المحبوبة، بحيث أصبحت في النهاية مجرد سيدة.
كذلك نلحظ أن نهاية القصيدة الرابعة «سيدتي» تختلف تماما عن خاتمة أول قصيدة توجهت نحو المرأة حين كانت محبوبة (رباب)، بحيث تغيرت النهايات من النهاية السعيدة إلى نهاية تعيسة، كما يلي:
ففي القصيدة الأولى ختم الشاعر قصيدته بجواب رباب الإيجابي، حين قالت:
لا لا تصدق ما يقال
أنا لم أبع قلبي. وهل قلب يباع؟
كل الكلام إشاعة.. لا.. لا تصدق ما يشاع.
بينما جاءت خاتمة القصيدة الرابعة «سيدتي»، بصوت الشاعر ليقول لها وكأنما يعيد صياغة نهاية القصيدة السابقة:
لست الذي به تفكرين..
أنت تكذبين!
نلاحظ هنا أن النهايات تغــــيرت تــماما لدرجة الانقلاب، بحيث تحولت النهاية السعيدة إلى نهاية تعيسة وربما اختفى الصراع مع الثري صاحب الكاديلاك، بل اختفى صاحب الكاديلاك أساسا من المشهد، لنجد أنفسنا في القصيدة الرابعة أمام طمع المرأة نفسها، التي لم تعد مجرد إنسانة خطفها «النسر»، بل أصبحت هي نفسها تبحث عن الزواج بشخص ثري، وترفض الشاعر. وهكذا ينقلب الصراع مع الثري صاحب الكاديلاك على الفوز بحب المرأة، إلى صراع من نوع مختلف تماما، ليتحول إلى صراع مع الطمع والمادية التي تسللت إلى نفس المرأة ذاتها، حتى رغم غياب الثري صاحب الكاديلاك عن المشهد الشعري.
هنا تتغير الرؤية الشعرية بشكل واضح، من صراع الثنائيات البسيطة بين الشاعر والثري صاحب الكاديلاك، إلى الصراع بين الشاعر والمطامع المادية نفسها بغضِّ النظر عن تجسدها في شخصية محددة. فلم تعد المطامع المادية متجسدة في شخصية محددة لها سمات محددة مثل امتلاك القصور والسيارات الكاديلاك مثلا, بل أصبحت قابلة للتجسد حتى في شخصية المرأة التي كانت محصنة في الأشعار الأولى عام 1955، لتصبح «كاذبة» في الأشــــعار المتقدمة عام 1967.
وربما كان كل هذا التطور مرتبطًا أيضا بتطورات الزمن العربي نفسه بين الأعوام 1955، وهو زمن الثورات العربية الشعبية والجماهيرية، إلى نهاية عام 1967، وهو زمن النكسة والانكسارات العربية.
ما يعني أن الحب والتجربــــة العاطفـــية للــــشاعر جاءا متوازييــــن مع تصاعدات وانكسارات حالة الأمة العربـــيـة كـــكل فــــي الفــترة 1955 – 1967.