السهل الممتنع في رسالتيْ الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع

السهل الممتنع في رسالتيْ الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع

لا يُذكر عبدالله بن المقفع - الفارسيّ الأصل - في سجلّ تراثنا العربي، إلَّا وتذكر معه ترجمته البديعة لكتاب «كليلة ودمنة» عن الفارسية، وهي الترجمة التي جعلت من الكتاب أشهر الآثار الأدبية المعروفة لابن المقفع، ومعها رسائله المشهورة: رسالة «الصحابة»، و«اليتيمة»، و«الأدب الصغير»، و«الأدب الكبير». وهي الأعمال التي ضمنت لابن المقفع مكانه ومكانته بين أدباء تراثنا العربي - في العصر العباسي - ليس بوصفه مترجمًا أو كاتبًا أو حكيمًا, وإنما باعتباره واحدًا من كبار أصحاب الأساليب في العربية، وأكثرهم سلاسة وإشراقًا ووضوح بيان حتى لكأنه أسلوب عصري. وأكثر ما تتضح خصائص هذا الأسلوب الذي ابتكره ابن المقفع، وأصبح عنوانًا عليه حين يقال فيه: السهل الممتنع، في رسالتيه: «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير».

ولعل من أطرف ما يقال عن «الأدب الصغير» ما ذكره الدكتور عبدالعزيز نبوي في تقديمه للكتاب الذي يضم الرسالتين معًا والصادر عن الدار المصرية اللبنانية، ضمن مشروعها التنويري في إعادة نشر روائع التراث العربي، ومن بينها أعمال ابن المقفع، فقد جاء في هذا التقديم: «ومن الجدير بالذكر أنه حين صدر الأدب الصغير سنة 1911 بتحقيق أحمد زكي باشا, قرر أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية آنذاك - وزير التربية والتعليم الآن - تدريس الكتاب في المدارس المصرية، ليشبّ النشء على الحكمة والأدب، وتنطبع نفوسهم الرطبة على مكارم الأخلاق منذ نعومة أظفارهم، إلى جانب اعتيادهم التراكيب الفخمة والأساليب الجزلة، مع جمال التقسيم في عرض الأفكار وصياغتها في قالب الإبداع». واختتم التقديم بضرورة الالتفات إلى أهمية كتب ابن المقفع: «أمير البلغاء، وسيد الحكماء».
أما ابن المقفع نفسه، فقد كان على درجة عالية من التواضع وهو يصف نفسه بأنه في الأدب الصغير مجرد ناقل، وهو ما يبدو في قوله: «قد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب وصِقالها وتجلية أبصارها، وإحياءٌ للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق».
وإن كان الدكتور نبوي يرى أنّ له فيه من الإبداع لطف الصياغة وحُسن الاختيار وجمال العرض. ذلك أن «الأدب الصغير» يتضمن دروسًا أخلاقية تُرغّب في العلم، وتدعو المرء إلى تهذيب نفسه، وتُروِّضها على الأعمال الصالحة، وتوصي بالصديق، وتتكلم عن سياسة الملوك.
يقول ابن المقفع - ولنتأمل في أثناء قراءتنا لهذه السطور من «الأدب الصغير» سلاسة لغته وتدفق أسلوبه وإيقاع فواصله وعذوبة تناوله: «وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق، إن شاء الله! الواصفون أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين, فلينظر امرؤ أين يضع نفسه، فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبًا من اللبّ يعيش به، لا يحبُّ أنَّ له به من الدنيا ثمنًا. وليس كلّ ذي نصيب من اللبّ بمستوجب أن يُسمّى في ذوي الألباب، ولا يوصف بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلاً، فليأخذ له عتاده، وليُعدَّ له طول أيامه وليُؤْثره على أهوائه. فإنه قد رام أمرًا جسيمًا لا يصلح على الغفْلة، ولا يُدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة. وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
وليعلم أنّ على العاقل أمورًا إذا ضيعها حكم عليه عقله بمقارنة الجهال.
فعلى العاقل أن يعلم أنّ الناس مستوون في الحبّ لما يوافق، والبغض لما يؤذي، وأنِّ هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال، هُنّ جماع الصواب وجماع الخطاء، وعندهن تفرقت العلماء والجهال، والحزَمةُ والعجزة. الباب الأول من ذلك: أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسرُّه، فيعلم أن أحقَّ ذلك بالطلب (إن كان مما يُحبّ)، وأحقّه بالاتقاء (إن كان مما يكره) أطوله وأدومه وأبقاه: فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفسُ والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلاً ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكْلة والساعات على الساعة.
والباب الثاني: أن ينظر فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه. فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف، ولا رجاءه في غير المدرك، فيتوقّى عاجل اللذات طلبًا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقّيًا لبعيده. فإذا صار إلى العاقبة، بدا له أن فراره كان تورُّطًا وأنّ طلبه كان تنكُّبًا.
والباب الثالث: هو تنفيذ البصر بالعزم، بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبُّت في مواضع الرجاء والخوف. فإنّ طالب الفضل بغير بصرٍ تائه حيران، ومبصرَ الفضل بغير عزم ذو زمانةٍ محروم.
وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها والإثابة والتنكيل بها».
ثم يقول عبدالله بن المقفع في رسالة «الأدب الصغير»: «وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك، مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل ألا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس - ما استطاع - إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق، فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل.
فإن الخصال الصالحة من البرِّ لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين. وليس لذي الفضل قريب ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبَّته.
ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أَحبُّ إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
وعلى العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولّى، وأن ينزل ما أصابه من ذلك ثم انقطع عنه منزلة ما لم يُصبْ، ويُنزل ما طلب من ذلك، ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب. ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلُغنَّ ذلك سكرًا ولا طغيانًا. فإنّ مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون. ومن نسيَ وتهاونَ، خسر. 
وعلى العاقل أن يُؤنسَ ذوي الألباب بنفسه، ويُجرِّئهم عليها حتى يصيروا حرسًا على سمعه وبصره ورأيه: فيستنيم إلى ذلك ويريح له قلبه، ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه. 
وعلى العاقل - ما لم يكن مغلوبًا على نفسه - ألّا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعةٍ يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثِقاته، الذين يصدُقونه عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعةٍ يُخلى فيها بين نفسه وبين لذَّتها، مما يحلُّ ويجعلُ. فإنّ هذه الساعة عون على الساعات الأُخر وإنّ استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوةٍ لها وفضلُ بُلْغة.
وعلى العاقل ألا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزوّدٍ لمعاد، أو مَرمَّةٍ لمعاش، أو لذةٍ في غير مَحْرم».
فإذا جئنا إلى رسالة «الأدب الكبير», وجدنا ابن المقفع يقدم لها بتوطئة في فضل الأقدمين على العلم، ثم يوجه حديثه في هذه التوطئة إلى طالب العلم، فيحثه على معرفة الأصول والفروع، ثم ينقسم الكتاب بعد ذلك إلى قسْمين: الأول في السلطان، ومما جاء في هذا القسم - كما يقول الدكتور نبوي - إياك وحب المدح، تجنَّب الغضب والكذب، تفقد أحوال الرعية، أدب صحبة السلطان، احتمل ما خالفك من رأي السلطان.
وأما القسم الثاني فقد أفرده ابن المقفع للصداقة والصديق. ومما جاء في هذا القسم: ابذل لصديقك دمك ومالك، لا تنتحل رأي غيرك، لا تخلط الجِدَّ بالهزل، لا تتطاول على الأصحاب، ادعاء العلم فضيحة، العدل في العدو، والرضا نحو الصديق، اختيار الصديق، صيانة اللسان، الاحتراس من سوْرة الغضب، ذلِّل نفسك على الصبر، لا تكن حسودًا، كيف تعامل عدوّك، حاذر الغرام بالنساء، الصبر على الأعمال يخففها، إياك والجبن والطمع، احترس مما يقال فيك، كيف تجالس الناس، حسن الاستماع، حسن المجالسة وسوؤها.
يقول عبدالله بن المقفع في مستهل رسالة «الأدب الكبير»: «إنا وجدنا الناس قبْلنا كانوا أعظم أجسامًا، وأوفر مع  أجسامهم أحلامًا، وأشدَّ قوة، وأحسن بقوتهم للأمور إتقانًا، وأطول أعمارًا، وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارًا.
فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علمًا وعملاً من صاحب الدين منا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل.
ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل الذي قُسم لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفوْنا به مؤونة التجارب والفطن.
وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يُفتحُ له الباب من العلم أو الكلمة من الصواب وهو في البلد غير المأهول، فيكتبه على الصخور مبادرةً للأجل، وكراهية منه أن يسقط ذلك عمَّن بعده.
 فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على أولاه، الرحيم البرِّ بهم، الذي يجمع لهم الأموال والعُقد إرادة ألا تكون عليهم مؤونة في الطلب، وخشيةَ عجزهم إن هم طلبوا.
فمنتهى علم عالـمِنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغايةُ إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم. وأحسن ما يصيب من الحديث مُحدّثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع، وآثارهم يتَّبع.
فيا طالب الأدب إن كنت نوْع العلم تريد فاعرِف الأصول والفصول. فإن كثيرًا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون درْكهم دركًا. ومَنْ أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصْل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.
فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة. فالزم ذلك لزوم من لا غنًى عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حُرمه هلك، ثم إن قدرْت على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل.
وأصل الأمر في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خُفافًا، ثم إن قدِرْتَ على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضارّه والانتفاع بذلك كلّه فهو أفضل.
وأصل الأمر في البأس والشجاعة ألا تُحدِّث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوهم. ثم إن قدرْت على أن تكون أول حاملٍ وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر فهو أفضل.
وأصل العلم في الجود ألا تضنّ بالحقوق على أهلها ثم إن قدرْتَ أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطول على من لا حق له فافعل فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السَّقط بالتحفظ. ثم إن قَدرْتَ على بارع الصواب فهو أفضل.
ثم إن قدرْت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بوجوه المطالب فهو أفضل».
ويختتم ابن المقفع مدخله إلى هذه الرسالة بقوله:
«وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة، التي لو حنكَتْك سنٌّ كنت خليقًا أن تعلمها، وإن لم تُخبرْ عنها. ولكنني قد أحببتُ أن أقدّم إليك فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجريَ على عادة مساويها، فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساوي، وقد يغلب عليه ما بدر إليه منها للعادة. وإنَّ ترْكَ العادة مؤونة شديدة ورياضة متعبة».
ويقول ابن المقفع:
«إن ابتليت بالسلطان فتعوَّذ بالعلماء.
   واعلم أن من العجب أن يُبتلى الرجل بالسلطان، فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه وعمله، فيزيدها في ساعات دعته وفراغه وشهوته وعبثه ونومه. 
وإنما الرأي له، والحقّ عليه، أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ له من طعامه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه.
وإنما تكون الدّعةُ بعد الفراغ.
   فإذا تقلّدْتَ شيئًا من أمر السلطان، فكن فيه أحد رجلين: إما رجلاً مغتبطًا به، محافظًا عليه، مخافة أن يزول عنه، وإما رجلاً كارهًا له مكرهًا عليه. فالكاره عامل في سُخْرة: إما للملوك، إن كانوا هم سلّطوه، وإما لله تعالى، إن كان ليس فوقه غيره.
وقد علمت أنه من فرّط في سُخرة الملوك أهلكوه. فلا تجعل للهلاك على نفسك سلطانًا ولا سبيلاً.
وإياك إذا كنت واليًا، أن يكون من شأنك حبُّ المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثُلمة من الثُّلم، يتقحَّمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك بها، ويضحكون منك لها.
واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبُّه المدح، هو الذي يحمله على ردّه. فإنّ الرادَّ له محمود، والقابل له معيب.
لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك، ورضى سلطانٍ، إن كان فوقك، ورضى صالحِ من تلي عليه.
ولا عليك أن تلهوَ عن المال والذكر، فسيأتيك منهما ما يحسنُ ويطيب ويُكتفى به.
واجعل الخصال الثلاث منك بمكان ما لا بُدَّ لك منه، واجعل المال والذكر بمكان ما أنت واجدٌ منهُ بُدّا». ثمّ يقول: «إنك إن تلتمس رضى جميع الناس، تلتمس ما لا يُدرك.
وكيف يتفق لك رأي المختلفين، وما حاجتك إلى رضى من رضاه الجوْر، وإلى موافقة مَنْ موافقتُه الضلالة، والجهالةُ؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل. فإنك متى تُصبْ ذلك تضعْ عنك مؤونة ما سواه.
لا تُمكّن أهل البلاء الحسن عندك من التدلّل عليك، ولا تمكننَّ مَنْ سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم. لتعرف رعيَّتك أبوابك التي لا يُنالُ ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافُك خائفٌ إلا من قِبلها. 
احرِص الحرص كلَّه على أن تكون خابرًا أمور عُمّالك، فإن المسيء يَفْرقُ من خُبْرتك قبل أن تُصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس، في ما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تعاجلُ بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الرّاجي.
عوّد نفسك الصبر على من خالَفك من ذوي النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تُسهّلنّ سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسنّ والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه، أو يستخفُّ به شانئ».
ويقول ابن المقفع:
اعلم أنّ الـمُلْك ثلاثة: ملكُ دينٍ، ومُلكُ حزم، ومُلْكُ هوى.
فأما مُلْك الدين فإنه إذا أقام للرعية دينهم هو الذي يُعطيهم الذي لهم ويُلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل السّاخط منهم منزلة الرضى في الإقرار والتسليم.
وأما مُلْكُ الحزم فإنه يقوم به الأمر، ولا يسلم من الطعن والتسخّط، ولن يضرَّ طعن الضعيف مع حزم القوىّ.
وأما مُلك الهوى فلعبُ ساعةٍ ودمار دهر».
وننتقل مع ابن المقفع في «الأدب الكبير» إلى قوله في الأصدقاء: «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفْدكَ ومحْضَرك، وللعامة بشرك وتحنُّنك، ولعدوّك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعِرْضك على كلِّ أحد.
إن سمعت من صاحبك كلامًا، أو رأيت منه رأيًا يُعْجبك، فلا تنتحله تزيُّنًا به عند الناس، واكتف من التزيُّن بأن تجتنيَ الصوابَ إذا سمعْته، وتنسبه إلى صاحبه.
واعلم أنّ انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأنّ فيه مع ذلك عارًا وسُخْفًا.
فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل، وتتكلم بكلامه وهو يسمع، جمعْتَ مع الظلم قلّة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس. 
ومن تمام حُسن الخلق والأدب في هذا الباب، أن تسخُوَ نفسُك لأخيك، بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتُزيّنه مع ذلك ما استطعْت.
لا يكوننّ من خُلقك أن تبتدئ حديثًا ثم تقطعه وتقول: «سوف» كأنك روَّأْتَ فيه بعد ابتدائك إياه. وليكن تروّيك فيه قبل التفوّه به. فإنَّ احتجان الحديث بعد افتتاحه سخفٌ وغمّ.
اخزُن عقلك وكلامَك إلا عند إصابة الموضع، فإنه ليس في كلّ حين يحسنُ كلُّ صواب. وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع. فإن أخطأك ذلك، أدخلْتَ المحنة على عقلك وقولك، حتى تأتي به، إن أتيت به في غير موضعه، وهو لا بهاء ولا طُلاوةَ له».
ويقول ابن المقفع:
«احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتُك فيما بينك وبين عدوِّك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرّضاء.
وذلك أن العدوّ خصمٌ تصرعهُ بالحجة، وتغلبهُ بالحكام، وأنَّ الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ، فإنما حكمهُ رضاه.
 تعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام. ومن حسن الاستماع إمهالُ المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبالُ بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول.
واعلم، في ما تكلّم به صاحبك، أنَّ مما يُهتجن صواب ما يأتي، ويذهب بطعمه وبهجته، ويزُري به في قبوله، عجلتك بذلك، وقطعك حديث الرجل قبل أن يُفضيَ إليك بذات نفسه».
ونختتم هذا اللقاء مع ابن المقفع في رسالتيْه البليغتين: «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير»، بهذه اللوحة القلمية البديعة، التي قدمها في صياغة أدبية رفيعة، وافتنان في التعبير والتصوير، لصاحبٍ له كان من أعظم الناس في عينه. وهو يقول في ختام رسالته:
وإني مخبرك عن صاحب لي، كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأسُ ما أعظمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه. كان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يتشهّى ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وجد. وكان خارجًا من سلطان فرجه فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخفُّ له رأيًا ولا بدنا. وكان خارجًا من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا يعلم، ولا ينازع في ما يعلم. وكان خارجًا من سلطان الجهالة، فلا يُقدمُ أبدًا إلا على ثقة بمنفعة.
كان أكثر دهره صامتًا، فإذا نطق بذَّ الناطقين.
كان يُرى متضاعفًا مُستضعفًا، فإذا جاء الجِدُّ فهو الليثُ عاديًا.
كان لا يدخل في دعوى، ولا يشترك في مِراء، ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيًا عدْلاً وشهودًا عدولا.
وكان لا يلوم أحدًا على ما يكون العذر في مثله، حتى يعلم ما اعتذاره.
وكان لا يشكو وجعًا إلا إلى من يرجو عنده البُرْء. 
   وكان لا يستشير صاحبًا إلا من يرجو عنده النصيحة.
وكان لا يتبرَّم، ولا يتسخّط، ولا يتشهى، ولا يتشكّى.
   وكان لا ينقم على الوليّ، ولا يغفل عن العدو، ولا يخصُّ نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقُوّته.
 فعليك بهذه الأخلاق إن أطقْت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترْك الجميع.
واعلم أن خير طبقات أهل الدنيا طبقة أصفها لك: مَنْ لم ترتفع عن الوضيع ولم تتضع عن الرفيع.
***
بوْنٌ شاسع بين لغة ابن المقفع وأسلوبه، اللذين يكتسيان طابعًا عصريًّا، وما يكتبه كتاب وأدباء يعيشون بيننا اليوم، عقولهم وأقلامهم تنتمي إلى القرون الهجرية الأولى.
هذا هو تفرُّد ابن المقفع، وبعض أسرار عبقريّته.