مجموعة «كناري» لأحمد الخميسي: حبّ جارف للبشر وحنين إلى دفئهم

مجموعة «كناري» لأحمد الخميسي: حبّ جارف للبشر وحنين إلى دفئهم
        

          لعلّ هناك «وجهين» رئيسيين متداخلين أشد التداخل، يشكّلان «عالم» الكاتب أحمد الخميسي: أولهما وجه عام يثير قضية على جانب خطير من الأهمية، حول دور المثقف في المجتمع المعاصر. بدا ذلك حين لم ينعزل بعيدًا عما يجري في المجتمع العربي من ظواهر، خاصة بعد أن أسس له مكانًا متميزًا كناقد أدبي ومترجم، بل آثر الانغماس في أحداث الواقع الجارية، وأن يكون له رأي فيها وهو ما تجلى في قضايا عديدة عبر عشرات المقالات، ثم في كتاب «الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر» (2008)، الذي تناول فيه ظاهرة الفتنة الطائفية بين الأقباط والمسلمين بعمق ومسئولية.

          الوجه الثاني هو وجه «المبدع» الخاص الذي بدأ به حياته الأدبية حين ولد ككاتب قصة عندما صدرت له مجموعة مشتركة مع آخرين عام 1967، بعنوان «الأحلام، الطيور، الكرنفال»، ثم أخذته دوامة الحياة، وارتحل إلى موسكو، حيث حصل على رسالة الدكتوراه، واجتذبه عالم الترجمة فأصدر عدّة أعمال أدبية مترجمة عن الروسية، إضافة إلى عدد آخر في السياسة حتى رجع ثانية إلى عالم الإبداع بعد انقضاء سبع وثلاثين سنة فأصدر مجموعته الثانية «قطعة ليل» عن دار ميريت بالقاهرة (2004) التي تكونت من اثنتي عشرة قصة. وبعد ست سنوات أصدر مجموعته الثالثة «كناري» عن دار أخبار اليوم (2010) التي تكونت من عشرين قصة. وهو وإن بدأ بالكتابة (الواقعية) إلا أنه لم يجعلها قيدًا عليه بل اجتهد للبحث عن أشكال أخرى تتجاوزها، فجنح إلى عالم «فانتازي» يشبع رغبته في التجريب والتجديد فازداد عدد القصص الفانتازية إلى ست في مجموعة «كناري» بعد أن كانت أربعًا في مجموعة «قطعة ليل»، وهو ما عكس اهتمامًا وعكوفًا على عالم القصة القصيرة. وعندما أخلص أحمد الخميسي لعالم القصة أخلصت له هي بالمقابل وفتحت له مخزون كنوزها فأتحفنا بعدد من قصص بديعة التكوين، نادرة المثال، عميقة المغزى، تفيض حبًا جارفًا للبشر وحنينًا إلى دفئهم!

          كيف انعكس هذان الوجهان على قصصه القصيرة؟!

          وما أهم التيمات التي شغلت تلك القصص؟

قصة «باب مغلق»

          ازدادت رقعة القصص الواقعية في مجموعة «كناري» إلى 14 قصة بعد أن كانت 8 قصص في مجموعة «قطة ليل»، ولعل خير نموذج لهذا النوع كان قصة «الباب المغلق»، التي كان أحمد الخميسي موفقًا أشد التوفيق في اختيارها لتكون مفتتحًا لكتاب «الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر» (2008)، فهي ركيزة (فنية) تعكس بصدق جوهر الأزمة بين طرفي الأمة. ولم يكن ممكنًا أن يتجاهلها وهو يعد مجموعة «كناري» للنشر، فهذا مكانها الطبيعي لأنها قصة بديعة، كل شيء فيها محسوب بدقة فنية بالغة. لكنه أعمل قلمه في عنوانها فحذف أداة التعريف ليصبح «باب مغلق» فاتحًا باب الأمل ومجال التأويل على مصراعيه. تقدم القصة ببساطة آسرة علاقة بشرية لها طرفان: الطرف الأول الأستاذ «موريس» الذي يعمل محاسبًا في أحد البنوك وزوجته مدام «جانيت»، التي تعمل في مدرسة تعليم لغات أجنبية قرب المنزل. تجاوز الاثنان سن الإنجاب دون أن ينجبا، لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء تتخللها نزهات وزيارات يوم الإجازة. الطرف الثاني هو الطفلة «هدى» ابنة «محمود» بوّاب العمارة، الذي جاء من أسوان منذ زمن، وسكن أسفل السلالم وحين توفيت زوجته تركت له ابنة وحيدة صغيرة هي «هدى»، كانت تشتري ما يحتاج إليه من احتياجات وخاصة لمدام «جانيت».

          هنا، وجهان متقابلان: «موريس» وزوجته شخصان بالغان، بينما «هدى» طفلة يتيمة الأم. توفر الوظيفة للزوجين دخلاً معقولاً بينما تعيش الطفلة على تلبية طلبات السكان وخاصة مدام جانيت، يسكن الزوجان شقة بالطابق الأول، بينما تقطن هدى حجرة في بير السلم تأكيدًا لوضعها الاجتماعي، إضافة إلى أنه يتضح من اسميهما أنهما قبطيان بينما هدى مسلمة.

          هنا، في هذه القصة، إعداد جيد لمسرح الأحداث، فكل الظروف مواتية لنشوء علاقة بين الطفلة والزوجين اللذين لم ينجبا، لأنهما وحيدان وهدى وحيدة بالمثل تفتقد أمها المتوفاة وتعيش في كنف أب مريض. وهو ما تحقق تدريجيًا فعلاً، بعد أن اعتاد الزوجان وجودها، حتى إذا ما انصرفت فسرعان ما «ينسل شيء ما من الجو، ويحلّ شعور خفيف قاتم في الصالة وعلى كسوة المقاعد، ويسري مثل الدخان في الحجرات الأخرى، شعور بالوحدة والأسف».

          ساعد على تطوّر هذه العلاقة موت الأب، وعدم وجود أي أقارب له، حتى أصبحت إقامتها عند الأستاذ موريس أمرًا مسلما به، واشترت لها جانيت فستانا وحذاء جديدين، بل فكّرت في وضع سرير لها في الغرفة الصغيرة.

          وإذا ببوادر الأزمة تغشى الجو، حين تفشت شائعة بأن الأستاذ موريس أخذ البنت الصغيرة وح يخليها نصرانية! ح يعلمها على طريقتهم!. وبدأت دوائر الحصار تضيق حول الأستاذ موريس بدءا من سؤال من أكثر من جار حول أخبار البنت هدى. وعندما تكرر السؤال أحسّ الرجل بالخطر، فحكى لزميل له عما جرى فنصحه بأن يطرد البنت على الفور، كي لا يتسبب بقاؤها عنده في مشكلة في الشارع والحي وربما أبعد من ذلك النطاق! استنكر موريس أن يطردها، لأنه كان يعي أنها تحبهما وأنها مستريحة عندهما. لكن العيون بدأت تلاحقه على امتداد الشارع بنظرات تترقب قراره، وتحثه عليه. ثم أصبحت النظرات تنطوي على وعيد مكتوم، وبدأت الكلمات العابرة تصبح أكثر وضوحًا وحدة.

          أخيرا، حكى موريس لزوجته كل شيء، فجلست على حافة السرير وبكت طويلاً، ثم نهضت ومضت إلى المطبخ، ونادى الرجل هدى، لكنه ظل صامتًا في حضرتها لفترة، ثم استجمع شجاعته، وطلب منها أن تغادر الشقة، فبكت ورفضت أن تغادر، وعندما رأت إصراره جرت مستنجدة بـ «جانيت» في المطبخ، التي أشاحت بوجهها كأنها لم تسمعها. وفي الأيام التالية كرر موريس ما قاله، وأخيرا جذبها من ذراعها بقوة ووضعها خارج الشقة. ظلت البنت تخمش الباب المغلق كقطة، وتبكي بحرقة وترجوه وتستحلفه بالنبي كي يدخلها، فيرد عم موريس والدموع تفر من عينيه: «ما اقدرش يا بنتي.. والعذرا ما اقدر والنبي والعذرا والنبي».

          الباب، هنا حاجز مانع للتلاقي، بعد أن أصبحت البنت مطرودة من جنة المأوى، على الرغم من أن «خلف كل ناحية شخص وحيد بحاجة إلى الآخر»، لا يستطيع أي من الطرفين تجاوزه، إلا بتوافر شروط معينة، الشروط ليست مرهونة بإرادة الطرفين وحدهما، بل هي رهن بقوى أكبر تحكم المجتمع ككل، إنها شروط أزمة أكبر تلقي بظلالها على الواقع. وسيظل الباب قائما إذا ما استمرت هذه الآلية تحكم، ولن ينتهي أمره إلا عندما ينتشر الوعي ونقتنع جميعًا بأننا إخوة داخل مجتمع واحد، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين، وإلا فجحيم الفرقة والعزلة والأحزان بانتظارنا جميعًا.

ذكريات

          بدت إحدى التيمات المشتركة بين المجموعتين في استعادة علاقات قديمة ربما كانت مستمدة من مرحلة طفولة الراوي، الذي قد يتوارى وراءه أحمد الخميسي، كذكرى لها مكانة خاصة وتأثير متميز على حياة الراوي. ظهرت أولاً في ثلاث قصص من مجموعة «قطعة ليل» قد تكون ذكرى علاقة مع أب (قصة «إغفاءة») أو ذات أبعاد إنسانية أعمق تارة من خلال موت أم الراوي، فإذا هو في المقابر وسط الأحزان يستعيد ذكرى علاقة وقعت في فجر شبابه مع ابنة عمه المتوفاة، التي كانت تكبره بعشر سنوات (قصة «غيمة»)، وتارة أخرى تجري متابعة موت أم وتدهور حال أسرتها فيما بعد الوفاة، بينما غابت تدريجيًا صورة الأم في غياهب النسيان (قصة «السند»)، أو مع سلطانة الطرب في حفلتها الخاصة، التي كانت أهم ذكرى عامة في حياته، ظل يحملها بولهٍ بين جنباته إلى سنوات شيخوخته وحين أراد أن يضعها على محك الواقع اكتشف أن التغيير قد اجتاح كل شيء (قصة «نقطة عابرة»). تقلصت مساحة تلك التيمة في مجموعة «كناري» إلى قصة واحدة هي «ليلة مبهمة»، التي استعاد فيها عجوز -أجرى عملية صعبة في القلب - ذكرى  سهرة كاشفة للحب مع أمه وهو في السابعة من عمره بعد اعتقال أبيه!

من الخاص إلى العام

          بدا عنصر الأزمة معادلًا للخروج من العالم الواقعي إلى عالم (فانتازي) عاكس لعمق تأثير تلك الأزمة وهو ما تجلى أولاً في قصة «موج أبيض» من مجموعة «قطعة ليل» حين اكتشف زوج خيانة زوجته فانصرف إلى حجرته تاركًا إياها مع قطتها ليبدأ أولا في غرفته ظهور فيض عالم خيالي من قطط كلما أبعد واحدة ظهرت أخرى، ليكتشف حين يغادر البيت أن القطط قد  فرضت سيطرتها على العالم الخارجي أيضا، بما يوحي بأننا نرى العالم من خلال منظور أزمتنا (الخاصة).

          تطورت هذه المعالجة في مجموعة كناري حين انعكست آثار القضية الفلسطينية في اثنتين من قصصها بشكل فني، أولاً مع قصة «بط صغير أبيض» التي حوصر الراوي فيها بتأثير أزمة عامة من القصف  اليومي لمدن فلسطين حتى وصل إلى قناعة بأنه لا شيء يتغير إلى الأحسن وهو ما دفعه إلى التوقف عن متابعة أي وسائل إعلام. لكنه ما إن يفتح التلفزيون لمشاهدة مقدمة نشرة أخبار إلا وتندفع نعوش الأطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلى مختلف أرجاء شقته، لتحاصره داخلها، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ سرعان ما تحولت تلك النعوش إلى سرب من بط صغير أبيض يتحرك وراءه إلى أي مكان يمضي إليه. وإذا كان بطل قصة «موج أبيض» قد رأى قطط الخيانة تسيطر على العالم الخارجي، فإن راوي قصة «بط صغير أبيض» سرعان ما تحوّل هو أيضا إلى بطة صغيرة بيضاء راحت تحجل معها بصمت على أمل أن تهتم يد بشرية من الخارج وتدق الباب عليهم!

          كما بدت آثار القضية الفلسطينية تارة أخرى في قصة «الحصان الأحمر» التي لو استبعدنا المقدمة التي يرى فيها ولد صغير حصانا أحمر فيجري إلى جدته التي تسرد له حكايته و«الخاتمة» التي تفسر ارتباط ذلك اللون بتضحيات البشر في غزة، لبزغت فورا أسطورة بديعة شديدة الإيحاء لا تحتاج إلى أي تفسير: «أحست الخيل ذات يوم بأنها مهددة بالزوال، فتوافدت من كل بقاع الأرض إلى غابة معزولة، واتفقت على بأنها بحاجة إلى حصان نادر التكوين يلهم الخيل كلها الشجاعة والصبر في دفاعها عن حياتها. قال عجوز الحكمة: لابد أن يكون أحمر اللون ليصبح مرئيًا في أي مكان أو زمان، وقال حصان الخبرة: لكن حصانا كهذا بحاجة إلى بحيرات من الدم عاما بعد عام يغطيه من قوائمه حتى عرفه ليبقى لونه ثابتا، وقالت فرس ولادة: لابد إذن أن يولد في حريق يلقنه الثبات في اللهب، وقالت فرس مرضعة: وأن يأكل أعشابا حمراء، ويشرب ماء أحمر، ويلعق ظلال الحرائق الحمراء، عندئذ لن يمحو لونه شيء، وغمغم الحصان الشاعر: سيكون فردا وحيدا، لا مهرة ولا ولد، لكنه إذا صهل في أعالي الجبال أيقظ في الخيل محبة الريح»!

محور الحب

          يشغل «الحب» محورًا أساسيًا في عالم أحمد الخميسي. بدا ذلك من خلال أربع قصص في مجموعة  «قطعة ليل». عكست قصة «تصادف أنني..» حبًا كبيرًا مخلصًا لسيدة حافظت بوفاء نادر على علاقتها مع شاعر قديم، كما ظهر الحب في أجمل قصص المجموعة «نتف الثلج» من خلال علاقتين قد تبدوان لوهلة متباعدتين لكن جوهرهما كان الحب وذلك من خلال مزج فني بين العام (حب الوطن) والخاص (حب رجل وامرأة)، جرت أحداثها في موسكو حين قام الراوي ومحبوبته بزيارة صديق شده الحنين إلى مصر فانصاع صاغرا وجمع حاجاته وقرر الرجوع مرددا: «الموت في جحيم مصر أبقى من الجنة خارجها». كانت تلك  هي الواقعة (العامة) الصغيرة التي أطلت من خلفية القصة، أما مقدمتهما فعرضت لعلاقة حب آسرة (خاصة) بين فتى وفتاة التقيا مصادفة رغم أنه يعيش في موسكو وتعيش هي في بطرسبرج وهو ما جعل لقاءاتهما صعبة. وعلى الرغم من أنه لم يجرؤ على اتخاذ قرار خاص لجمع شملهما جرؤت هي بمفاجأته بعد أن حسمت أمرها وقررت البقاء والبحث عن عمل في موسكو حتى يحققها حلمهما بالحياة معا، ليستمتعا بدفء الحب. كما قد يعكس الحب لحظة سعادة عند اكتشاف زوجين لنوع الجنين الذي تحمله الأم (قصة «نبضة»)، وقد تعرض قصة «اثنان» تدهور علاقة حب وتفككها بشكل فني على مستويين: أحدهما (ظاهر) من خلال حوار متبادل يخضع للمجاملات والمواضعات الاجتماعية، ومستوى ثانٍ (باطني) حقيقي يعكس مشاعر حقيقية دون تزييف. وتعتبر قصة «كناري» في مجموعة كناري 2010 أعذب قصص المجموعة، بل ومن أعذب القصص القصيرة بشكل عام، بعد أن بلغ فيها أحمد الخميسي أعلا ذرا قصص «الفانتازي»، حين كثف فيها علاقة حب بين طائر كناري صغير ورجل كبير. طائرالكناري رمز للأنثى العاشقة التي ألبسها ثوبا بشريا وهو يهيم بها حبًا ويتيه فخرا بوجودها ويتقبل نزقها صاغرا. وهو، مثل كل علاقة عشق، لا يرى في الكون سواها، وهو ما يؤكده مفتتحها: «وسط ستة مليارات إنسان، وملايين الجبال والبحور، وكل الكواكب والنجوم، لديّ فقط، كل ما لديّ، عصفورة واحدة صغيرة».

          إنها الوحيدة المعنية باهتمامه وحبه، أولا نرى محبوبنا بعين المحب كائنًا وحيدًا فريدًا بين كل البشر، يستحق وحده كل اهتمامنا وولهنا، وهي بالمقابل تراه أعظم البشر شأنًا في الكون كله، حين يكلمها بصوته الأجش تقول «يا عندليب»، وحين يرقد بين الأشجار تقول «سبعي يرتاح»، وحين يستحم في النهر تطير فوقه ضاربة الهواء بجناحيها، قائلة «تمساحي في النهر». من أجل كل ذلك الحب يعترف الراوي: «هذه العصفورة هي كل ما لديّ»، ثم يستطرد كمحب عاشق: «أتحمل نزقها، وحماقاتها، وأصبر على تلفتها الكثير برأسها، وأتفهم نظرة عينيها التي تبدو مطمئنة راسخة».

          يسرد الراوي بعضًا من ملامح حبهما الكبير، حين دعته إلى الطيران قليلاً، فأوضح لها أن وضعه البشري لا يسمح له بالطيران بحكم ثقل وزنه، لكنها اعتبرت تبريره مجرد سخافات، وقبضت بمخالبها الدقيقة على ياقة قميصه رفعته إلى الأعالي رغم ثقله. هنا لم يكن القانون البشري هو الذي يعمل بل قانون «الحب» الذي يفعل «المستحيلات»، فقامت بدورة كاملة في الهواء، ودخلت سحابة وخرجت منها، وحين تعبت فردت جناحيها وانزلقت من السماء إلى الأرض ببطء. ثم نفضت الندى عن جناحيها مرددة «ألم أقل لك إن بوسعك أن تطير؟».

          يحكي الراوي لونًا آخر من نزقها حين طلبت منه أن يصعدا جبلاً وعندما وصلا إلى قمته هتفت بعظمة، طالبة منه أن يلقي بنفسه أسفله، فأوضح لها مرة ثانية القانون البشري الحاكم «سنموت يا كناري، ستتحطم ضلوعي على الصخور ولا يبقى مني شيء»، فاعتبرته جبانًا، موضحة له مرة أخرى أن القانون الحاكم هنا هو قانون الحب «وحتى إذا متنا فسيبقى على الأرض حطام الحب وينمو من جديد»، فيضطر تحت إلحاحها أن يلقي بنفسه فيسمع صرختها مذعورة نحيفة فيلقطها بكفه، ويواصل الهبوط إلى السفح ولا يموت، وهو ما أكدته بابتسامة صغيرة تيّاهة بصدق تنبؤها «ألم أقل لك؟ لن تموت.. أنا أعلم». ومع انتهاء النهار وحلول الغروب ينام وتنام هي الأخرى واقفة على كتفه ترتجف، لكنها كأي كناري لا تنام طويلاً، فتغني له «نم ياصغيري، لا تخف، لا شيء ولا أحد في الغابة يجرؤ على تهديدك». هنا، تلعب العاشقة دور أم رؤوم تهدهد طفلها حتى ينام دون خوف في كنفها وتحت حمايتها. وحين يدخل الليل العميق، وتدلهم أمور الحياة،  يختلس نظرة إليها، فتنهره بكبرياء: «نم، لا تخف»، فينساب في داخله ينبوع حنان، ويكاد يتيه فخرًا بأن هذه المعشوقة قد اختارته دون سواه من بين العالمين ليكون حبيبها ومعشوقها الوحيد.

محور الفن والإبداع

          تكشف قصة «ممشى بين الأعشاب» عن بعض  المعوقات التي قد تشغل الفنان عن الاندماج في عمله والتي ربما يكون مرجعها ذلك التسويف المستمر الذي يلجأ إليه هربًا من بذل الجهد والعرق، شخصية القصة الرئيسية رسام يعمل في مدرسة إعدادية استأجر بيتًا في منطقة نائية ليجعله مرسمًا، أما لوحاته فمازالت مركونة في حجرته ببيت والديه مشاريع لم تكتمل ألوانها، لكنه لم يكن يقصد ذلك البيت إلا عندما تلوح له فرصة علاقة حميمة مع امرأة عابرة، وكانت هذه المرة مع موظفة في مكتب بريد، لم تستسلم بسهولة، بل سرعان ما غرقت في أحزانها حين افتقدت ابنتها التي انتزعت منها وهي صغيرة، فظل هناك حلم يطاردها بأنها تقابل ابنتها فلا تعرفها، وعندما طبطب عليها هدأت، وعندما ودّعها لمح الممشى بين الأعشاب ففكر في ضرورة أن يرسمه ذات يوم. إذا كانت قصة «ممشى وراء الأعشاب» قد مسّت جانبا من عالم الفنان مسّا سريعا، فإن قصة «قصة» قد انتقلت إلى الجانب المقابل، جانب عملية إبداع القصة ذاتها. تبدأ القصة بالراوي الكاتب وهو يلتقط ورقة مجعدة من الطريق يكتشف أنها قصة، فالكاتب يستمد مادته من الواقع، ربما من مجرد عبارة سمعها، أو مشهد رآه، أو حادثة قرأ عنها، تعمل كمحفز يدفعه إلى احتضان تلك الفكرة في مخيلته الإبداعية لتبدأ مرحلة «حمل». وهو ما فعله الكاتب حين التقط تلك الورقة، بعد أن أضفى عليها بعدًا بشريًا، وراح يحنو عليها ويرعاها خلال مرحلة الحمل وهي طفلة صغيرة تحبو وتتعثر ثم تشب وتنمو، بينما كانت رؤى الكاتب الداخلية قد بدأت تتبلور: «إنه مقطوع، سقط على سطح الكون مصادفة، مثل قطرة مطر أو نقطة ضوء، كل ما يجمعه بالعالم وجود مشترك مبهم»، إنه «يعيش هذه الحياة ويتأملها، كأنما يشهدها من خلف زجاج شفاف يحجب عنه العطر والدفء والأصوات». وراحت رؤاه تمتزج بالقصة وهي تنمو: «أصابتها الدهشة وهي تقرأ ما يخطّه عن أحلام شبابه التي لم تتحقق، كل تلك الأحلام؟ وتعجبت كيف يبدأ الإنسان كبيرًا وينتهي صغيرًا!»، و«ارتجفت وشحب وجهها وهو يصف ما تقطر في روحه من شعور بأن السعادة في الحياة وهم عزيز». وهو، في الوقت ذاته، يتذكر «عندما بدأعمله هنا، كان مشحونا بالحماسة، لكنها تبددت وهو يرى كل يوم وجوه الطلاب الفقراء الصفراء، وتمكّن منه الشك في قيمة المعرفة، وكاد يوقن بأن المحاضرات التي يلقيها هي القدر الضروري من الصدق الذي تواصل به الكذبة حياتها».

          وعندما نضجت القصة وبدأت آلام المخاض، رأى أن «عليه أن يضخ إلى قلبها آخر نبضة في قلبه، قبل أن تتملص منه وتفلت مندفعة نهائيا إلى وجودها لتشق الكون بوجهها كما تشق مقدمة المركب بحرا، فيحكم الناس عليها بصفتها حياة قائمة بذاتها». كان قد حاول «أن يودع فيها تلك الجوهرة التي تميّز إنسانًا عن آخر، الشيء المكون من آلاف العناصر والذكريات والعواطف المتفاعلة، الجوهرة التي تشبه قدر الإنسان لأنها تلمع وتنبثق من صميم تكوينه كله وتمضي معه إلى النهاية».

          من أجل ذلك كان يريد أن ينتهي منها قبل أن تهرب من روحه. خمس ليال لم يرفع خلالها سماعة الهاتف، وكانت تمر من أمامه فتستفسر منه عن شيء، فيجيبها بعصبية وبجفاء لم تعهدهما، إنها لحظات الميلاد العصيبة. وفي الرابعة فجرا كان قد أودعها كل ما لديه، فالكاتب يضع في عمله عصارة خبرته ومجمل رؤاه في الحياة والكون من حوله، لكنه لا يحتفظ بما اكتشف لنفسه بل يتيح للآخرين مشاركته فيما اكتشف من خلال النشر!

القصة اللقطة

          هناك أربع قصص في مجموعة «كناري»، اتخذت شكلا متميزا من القصص وهو الشكل الواقعي لما اتسمت به من تكثيف في الحجم، وتركيز في الرؤية، حين اقتصرت على لقطة أو مشهد وحيد لا يتجاوز صفحتين في أغلب الحالات، يفيض حبا وحنانا للبشر، بدا ذلك حين عكست قصة «فرصة سعيدة» أحد ملامح اغتراب أب رجع إلى الوطن مع زوجته وولده الصغير، لكن الزوجة سرعان ما عادت بولدها إلى بلدها فأصبحت العلاقة بين الأب وولده تتلخص في مكالمة تلفونية يجريها الأب كل شهر، يشده حنين لا ينقضي لوحيده البعيد. في قصة «طفل في قفص» نتابع عجوزا وصل إلى عمر اكتشف عنده ضياع كل شيء ولم يبق لديه سوى قدرة العقل الغريبة على التفكير وإدامة النظر في المرايا التي بداخله، إذ به يفاجأ بطفل في الخامسة وضعه أبوه في صندوق وراءه في عجلة ينطلق بها للأمام: «يسدد إليه نظرة سريعة سعيدة ساخرة، حكيمة وآسية، مشبعة ببهجة مريرة، مثل إنسان في مأزق لكنه سعيد به يجد فيه معنى مفرحًا وساحرًا»، فصفت روحه كأنه لم يعش كل تلك الأعوام المربكة. كما تعاطف الراوي في قصة «حرج خفيف» مع ظروف محصل أوتوبيس لا يرد الباقي للركاب وتواطأ معه متجاهلا ما يفعل، لكن حين تكرر الأمر تحول إلى ركوب المترو. وفي قصة «ندم» راود راوٍ عجوز وحيد في معرض الكتاب فتاة في الثامنة عشرة من عمرها تبيع حافظة بلاستيك بها خمسة أقلام مقابل خمسة جنيهات، بأن عرض عليها مائة جنيه مقابل ترتيب كتبه في البيت فترفض، فاشترى منها حافظة، وترك لها عشرة جنيهات، وعند بوابة الخروج يشعر بالندم لفعله فيلتفت إليها فإذا هي تنظر إليه أيضا!

          نحن، هنا، إزاء كاتب له أبعاده المتعددة المتراكبة التي تلوح لنا عبر وجهين رئيسيين متداخلين أشد التداخل يشكلان عالم أحمد الخميسي، وهو ما أشار إليه القاص الكبير المبدع محمد المخزنجي في تقديمه المقتضب البديع لقصص أحمد الخميسي حين قال عنه إنه: «كاتب يمنح نماذجه القصصية شمول الرؤية، التي تمزج - برهافة ورصانة معًا - بين الإنساني العام والوطني الخاص، بين المتخيّل المجنح والواقعية الدافئة».
---------------------------
* كاتب وناقد من مصر.

 

 

حسين عيد*