صراع اللغات

صراع اللغات

   شغلت طرق التفكير اللغوي وما يتشعب عنها من بحوث ثقافية بال دارسي الإنسانيات بشكل عام، وأثارت نتائجها العلمية - التي تخرج بين الحين والحين - إدهاشاً وغرابة مما جعلها محل نظر وجدل كبيرين؛ فقبلتها عقول ورفضتها أخر؛ وبين القبول والرفض تباينت الأحكام واطردت حتى غدت اللغة علماً مهما يفرض على الإنسان أن يتغيا بلوغ منتهاه، وإن عجز عن ذلك - والمرء يعجز لا محالة - وجب عليه أن يحصل على كفايته منه بمقدار يفرقه عن العجماوات إن كان من عامة الناس، وبمقدار يهيئه لسلامة التفكير والإبداع إن كان من خاصتهم. 

لكن، ما اللغة التي يجب أن ينهل منها الإنسان؟ الإجابة عن هذا السؤال ستكون مفتوحة ضرورة؛ فاللغات جميعها مباحة مشروعة للناطقين في الظرف الطبيعي للتواصل الإنساني؛ لأن الإنسان ابن بيئته واللغة نتاجها، وكلاهما يتصل ببعضهما بعضاً اتصالاً عضوياً، فلا مندوحة للإنسان لأن يغفل بيئته وصداها اللغوي إلا إذا غشيته حالة من التمرد تضطره إلى أن يهجرها إلى أخرى، أو مسته حالة من الجنون تفصمه عن نفسه وبيئته ولغته، وفي المقابل فإن البيئة من غير الإنسان فضاء من العدم والفراغ.   
وهذه الإباحة المطلقة في الاختيار يسوغها تساوي اللغات الإنسانية في ما بينها من حيث القيمة الدينية والدنيوية، فلا توجد لغة أفضل من لغة، قال ابن حزم: «وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (سورة إبراهيم: 4). وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (سورة الدخان:85). فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك». 
غير أن مبدأ تعادل الألسنة وتساويها وظيفيا لم تقنع به جمهرة من الناس أخذت على نفسها- لأسباب خارجة عن اللغة- تضييق السعة الدنيوية بين البشر، فصنعوا حواجز عدائية قسمت الناس أمماً وأعراقاً متنافرة أشد التنافر، حتى ضعفت بينهم فرص التقارب والتلاقي، وما تحمله عادة من جميل العفو ونبل التسامح، فانتشر بين عامة الناس وبعض خاصتهم ضرب من الصراع اللغوي الساذج أذكت ناره أفكار ثقافية متعدية أسوأ ما يكون التعدي؛ فإذا بمتكلم لا يحسن النطق بلغته من غير الوقوع في اللحن يحقر لسان الآخر ممن اعتاد على الفصاحة والبيان. وإذا بلسان فقير لم يهب أبناءه أخيلة خلاقة تصيرهم أدباء ممتازين، يحقر لساناً طوت آدابه الأرض، وكان هذا كله وليد نظر مغلق (دوغمائي) تضوعت منه رائحة شعوبية متقادمة لم تستطع الحضارات أو المدنيات على تطورها وازدهارها إسكات دعاتها؛ فعمل سعاة الشر فيها بشغف شديد على بعث روحها بعثاً جديداً، واستعمالها لمحو كل فضل وإحسان عند الآخر. 

سذاجة المفاضلة
وتجاوز الأمر حدود الشعوبية الثقافية والاجتماعية، فعدا على جوهر المعتقدات، ذلك أن أي معتقد يفتقر - ضرورة - إلى لغة ما تجمع شرائعه وتعاليمه، وبها وحدها يمكن فهمه فهماً صحيحاً، وبها وحدها يمكن ممارسة طقوسه وشعائره ممارسة يشعر معها العبد بمتعة التعبد والخضوع، ويرضى عنها - في الوقت نفسه - إلهه المعبود، ومعنى هذا أن كل معتقد له لغة أولى تتنزل في رحابه منزلة التقديس، وصفة القداسة هنا ليست لمجرد اللغة وإنما لكون اللغة حاملة للمقدس نفسه؛ ومن أجل ذلك بدأ الشعوبيون باللسان فقللوا من قيمته وشككوا في قدرته متشوفين إلى دحض المعتقد نفسه. وارْتَدَت الشعوبية في العصر الحديث حُلة زاهية جاذبة؛ فانتشرت النزعات القومية النابتة انتشاراً واسعاً، وأصبحت معها كل قومية تتعصب إلى لغتها، وتصد أي محاولة إنسانية لاقتحام أسوارها، حتى تناءت بعض الشعوب عن الواقع الدنيوي بعد أن استمرأت - طوعاً أو كرهاً - عيشها الجديب المتوحش خلف ستار من حديد تغشاه ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يعلو خلف تلك الأسوار من الفكر سوى ما تتبناه ذهنية القومية الضيقة؛ ولا عجب بعد ذلك أن يترك هؤلاء اللغة وعلومها وما تجمعه حروفها وكلماتها وتراكيبها من قيم ثقافية ومعالم حضارية، ليشغلوا أنفسهم بسذاجة مفرطة بالمفاضلة بين اللغات، مما لا ينفع جاهلاً ولا يفيد عالماً. 
ولاقت هذه النزعة التفاضلية رفض المعتقدات السامية لها؛ ذلك أن بغية المعتقدات هي التقارب بين الأمم والشعوب، وتحقيق أسباب التعارف بينهم بما يخلق تسامحاً ووئاماً يهدمان الحواجز وينفيان العداوات، والطريق إلى ذلك لا يكون إلا بالتواصل ولا تواصل إلا باللغة، ومن ثم كانت اللغات حلقة الوصل الأثيرة بين الأمم، فلم يمسسها على تقادم أعمارها أو حداثتها ما يعيبها من حيث هي منطوق لساني مجرد، بل عد الله -عز وجل- وجود اللغات واختلافها آية من آياته، قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (سورة الروم: 22)، وإذا كان كذلك فإن اللغة ومحمولاتها السامية تبرأ من تلك الآراء التي ينظمها أصحابها في تراتب تفاضلي تمجّه طبيعتها الحرة التي تمنح المتكلمين حرية اختيار لسان يواتيهم ويجيدون التفكير به، كما تمنحهم حرية التعبير بأي مستوى من مستوياتها الفصيحة والتداولية. وعلى الرغم من سلامة هذا التصور الإنساني الكوني لم يكتب له الفوز، فغلبته النزعات الفكرية والقومية المغلقة؛ ولم يستطع - بعد مقاومة ودفع - الحؤول دون دخول اللغة - من غير ذنب - في حلبة صراع حضاري أعقبت المتصارعين فيها نتائج وخيمة؛ فقد دالت دول، وشردت أمم، وقوضت حضارات تبعتها ألسنة كان لها شأو عظيم في عصور ماضية؛ إذ كانت «اللغات تتبع الحضارة صعوداً وهبوطاً» على حد تعبير ولفنسون.  

حيوية اللغة العربية
وبالنظر إلى العربية نجدها من بين اللغات الحية التي استطاعت - على الرغم من تعدد صراعها مع الآخر تارة ومع نفسها تارة أخرى - المحافظة على صورتها التي انتهت إلينا قبل مبعث الإسلام بقرنين؛ فلم تصبها شيخوخة قاهرة تأتي على ذاكرتها أو تشوه روحها، فازدادت على طول لياليها جدة وشباباً مستمرين، لكن ذلك الشباب أصابه في مراحل تاريخية مس من الكسل والجمود أبقاه ساكناً سكون الجمادات، فمنذ عصر النهضة والعقلية العربية تعيش أزمة نفسية كبيرة - لم تعشها طوال تاريخها، فقد انعدمت الثقة باللسان والعلم العربيين.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذت العرب في نهاية القرن غفوة عجيبة جعلتهم يحلمون سريعاً أحلاماً غريبة، فرأوا في ما يرى النائم لغتهم مهجورة من أهلها، ضعيفة أمام اللغات الأُخَرْ، ومهددة أخيراً بالزوال والانقراض، وهذه التخيلات هي نتاج عصر الصراع اللغوي الثقافي الذي خاضته العربية واعية أو غير واعية بعد قرون من الهدوء والسكينة؛ إذ كانت في ماضي الزمان تتفرد بالسلطة السياسية، والقوة اللغوية، والعظمة العلمية، ثم ألفت طارفها وتليدها يتداعيان أمام لغات حديثة الميلاد كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية تمكن أبناؤها من منحها قوى عظيمة صيرتها في فترة زمنية وجيزة لغات عالمية أخذت بالانتشار سريعاً من خلال وسائل مشروعة كالعلم والمعرفة والصناعة والاقتصاد والعمران، وأخرى غير مشروعة كبعض حركات الاستعمار التي تبنت فكرة تغيير ثقافات المجتمعات المستَعْمرة من خلال تغيير ألسنتهم. ومهما يكن الأمر، فإن العصر الحديث أرغم اللغات جميعاً على الدخول في صراع كريه أو تنافس شريف - سمِّه ما شئت -، فلم تعد فكرة اللغة الواحدة هي المسيطرة على المدنيات الحديثة، فما ساد قديماً لا وجود له الآن.
 
 الأنا والآخر 
وما من شك في أن القول بصراع اللغات، أو بعبارة أقل حدة تنافس اللغات، يعني اعترافاً ضمنياً بوجود (الآخر) اللغوي مقابلاً لـ (الأنا)؛ إذ لا صراع إلا بوجود متصارعين، وكذلك لا تنافس إلا بظهور متنافسين، وأقطاب الصراع متنوعة الأفكار فهي حضارية، مدينية، ثقافية، وأيديولوجية، وبازدياد هذا التنوع يزداد الثراء اللغوي؛ وثراء اللغة يعني تطورها وانعتاقها من دوائر الضيق إلى الفضاء الفسيح حيث ملتقى الأفكار وتلاقحها، فإذا تسالمت في ما بينها وأفادت الواحدة من الأخرى نتج عن ذلك اجتماع بشري سليم، وإذا تعادت ورأت كل واحدة في الأخرى خصماً يضمر طمسها والحلول بدلا منها أصبحنا أمام تمزق بشري عليل، وأياً كانت النتيجة فاللغة العظيمة لابد لها أن تمتحن قدراتها سواء قدرة العطاء للآخر أم الاكتساب منه، أو قدرتها على التفوق ومقارعة الخصوم.
واللغة  - أي لغة - يمكن تقسيمها معرفياً إلى ثلاثة أقسام - لا رابع لها - تتحدد بها طبيعتها وضرورتها، وقوتها وضعفها، وبقاؤها وفناؤها: الأول اللغة تواصل وإبلاغ، والثاني اللغة أداة العلم، والثالث اللغة علم من العلوم، واللغة التي تحوي هذه الأقسام الثلاثة يصح أن نطلق عليها مسمى (اللغة الحية)؛ فتواصل الأمة في ما بينها دليل على وجودهم من حيث هم أمة مستقلة، واتخاذها لغتها وسيلة للعلم دليل على اتساعها وشمولها لكل ما يستحدثه العقل، وأخيراً درسها من حيث هي علم دليل على تميز قواعديتها وثرائها بالنصوص الرفيعة من الشعر والنثر. 
وحققت العربية هذه الشروط الثلاثة، فهي لغة أمة تتواصل في ما بينها بلسان عربي تختلف مستوياته تبعاً لاختلاف ثقافة المتكلمين، لكنه في النهاية لسان واحد يستخدم الحروف نفسها والتراكيب نفسها. كما أنها لغة للعلم أثبتت قدرتها على صياغة العلوم في مراحل حضارية سابقة، وإن تعرضت في العصر الحديث لجمود مرده جمود العقل العربي نفسه وعدم قدرته على الإبداع في المجالات العلمية التطبيقية. وأخيراً فإن العربية لغة علم أصيل، إذ تقف قواعد نحوها وصرفها ودلالتها وأصواتها وشعرها ونثرها، تقف جميعاً دالة على عظم هذا العلم العربي وأصالته.   
ومما سبق من إشارات يتبين لنا أن العربية من حيث هي لغة تمتلك صفة العالمية أو الكونية، غير أن هذا التصور قد يكتسب في هذا الزمان صفة تاريخية غير واقعية، ولبيان ذلك لابد من طرح هذين السؤالين: من يحتاج في هذا الزمان إلى تعلم العربية؟ وما سبب الحاجة إليها؟ 
لو طرح هذان السؤالان في عصر النهضة الأوربية لكانت الإجابة عنهما يسيرة أشد اليسر، ذلك أن العربية في ذلك الزمان كانت لغة العلم والمعرفة، الإنسانية، فكان الناس على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم بحاجة شديدة إلى تعلمها وإتقانها، أما في زماننا فالعربية لم تعد لغة العلم والمعرفة وإنما اكتفت بأن تكون لغة قوم يتواصلون بها ويدونون بحروفها علومهم الخاصة، ومعنى هذا أن العربية فقدت صفة مهمة من صفات اللغات العالمية، ونقصد بها صفة العلمية العامة التي تلبي حاجات الناس الدنيوية مهما كانت منازعهم العرقية والاعتقادية.  
وإذا كان كذلك، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن العربية اليوم هي لغة قومية ودينية فحسب، والحاجة إليها تدور رحاها في هاتين الدائرتين، فهي لغة أمة تنطق بها وتُعرف بها، وهي لغة ثانية لأمم شتى جمعهم الإسلام وألَّف بينهم، ولن تجد أمة تتخذ العربية لغة لها لا تنتمي للعرق العربي أو تدين بالإسلام.
والسؤال الآن: هل أثر هذا الانحسار في العربية سلباً؟ ذكرنا سابقاً أن العربية عاشت دهوراً طوالاً من غير أن يتغير تشكيلها الأول، ومعنى هذا أن اللغات الحية تبقى فيها صفة العالمية ملازمة لها حتى بعد فقدان بعض صفاتها؛ ذلك أن الأمة العربية مازالت الأمة الأولى في العالم التي تتوجه إليها أنظار الأمم بوصفها جزءاً من دائرة صراع عالمي قديم/جديد لم تجد البشرية وسيلة إلى إنهائه؛ حتى بات من الصعب على الأمم الأخرى نفي وجود العربية، إذ هي عندهم حليف تارة وعدو تارة أخرى، وهذا يجعلنا نصف العربية وصفاً جديداً فهي قومية ودينية وهي أيضاً لغة سياسية بوصفها طرفا من أطراف الصراع الإنساني، وإذا كان كذلك فلاتزال العربية تحتفظ بصفة العالمية؛ لأن جرس أصوات محمولاتها القديمة/المتجددة لاتزال - بسبب ديمومة الصراع - تثير حفيظة أقوام يأخذهم الغضب كل مأخذ عند سماع جرس أصواتها حتى يجعلوا أصابعهم في آذانهم.
وعلى هذا فإن العربية المعاصرة هي لغة قومية يبلغ تعدادها ثلاثمائة مليون، وهي لغة دين يبلغ تعداد أتباعه ملياراً ويزيدون، وهي لغة أمة تواجه مناطقها صراعات سياسية ارتدت أثواباً مختلفة طوال مائة عام من العصر الحديث، وعلى هذا لا يحق للآخر أن يزدري العربية أو ينتقص من قيمتها المعرفية والثقافية والحضارية، قال تيري إيجلتون: «والحق أن الثقافة الغربية - بصرف النظر عن أغلاط المشاركة الوجدانية هذه، تبدي إخفاقاً يستحق التوبيخ في تخيل الثقافات الأخرى». والآخر قد يصمت عن الكلام في العربية أو لا يصمت، وفي كلتا الحالين على العرب أن يحتملوا عبء اللغة الثقيل عليهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل الدؤوب من أجل إعادة النظر في طريقة البيان التداولي، ونشر مستوى لغوي يتفق وحجم التعليم الكبير الذي تفخر به - خطأ - الدول العربية دائماً؛ فمن غير المعقول أن تنتشر دور العلم والمعاهد والجامعات في القطر الواحد ثم نرى حملة الشهادات أكثر الناس جهلاً بلغتهم، فلا يستطيع الواحد منهم أن يقيم جملة واحدة على رجليها. كما أن عليهم النظر في طريقة واقعية لدخول العربية في لغات العلم الطبيعي والتطبيقي، وأخيراً عليهم أن يحافظوا على بقية العربية علماً، وأن يعملوا جادين على إعادة الروح العلمي إليها من جديد ■