التسامح والسلام
«السلام» من أسماء الله الحُسنى، وتحية الإسلام، وأمل الإنسان في العيش الكريم... السلام أساس استمرار حياة الإنسان في أي مجتمع كان، فهو غاية يستقر بها الأمن والأمان، في كل زمان ومكان، لذا نادت به وأوجبته كل الشرائع والقوانين والأديان. إنّ السلام ليس فقط الأمن الذي يصاغ على شكل صلح مكتوب أو معاهدة بين طرفين أو أكثر، إنما هو إطار يتسع كثيراً عن ذلك ليشمل كل وجوه الحياة التي يعيشها الإنسان، أولها السلام مع الذات، ثم السلام مع الآخر.
ولا يكون السلام مع الآخر إلا بالتساهل معه والتنازل له والعفو عن زلل أو خطأ ارتكبه، فالسلام أصل يُفترض، والتسامح إحسان مندوب, لذلك يعلمنا ديننا الحنيف، من كتاب الله وسُنّة نبيه، فيقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195)، ويقول نبيّه «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». يؤكد ذلك القول إنّ الأخلاق دوائر تدور حول نقطة المركز، والذي هو النفس، لتصل بقدر ما تتسع دوائرها إلى إدراك محيط أخلاقها، فكلما اتسعت تلك الدوائر وكَبُرَ المحيط، تَجَمّل الإنسان بالرقي وكاد يصل إلى المثالية. وقصة الخَلْق التي ترويها كتب الأديان المُنْزَلة على الرسل عليهم السلام، وخاتمها القرآن الكريم، تذكر بأنّ ملائكة السماء عند خلق آدم عليه السلام تساءلت دعاءً إلى الله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }(البقرة: 30)، خشية منهم أن يتبدد السلام من على الأرض، ويسود الفساد الذي يؤدي إلى الفوضى، فتنقلب جنة الأرض إلى جحيم، فلا حياة بغياب السلام ولا عيش كريماً. إنّ النظام الكوني في التعامل مع الآخر، إنساناً وحيواناً وجماداً، باطناً وظاهراً، شكلاً ومضموناً، يقوم أساساً على السلام، ليعود كل ذلك في النهاية بالخير على الإنسان نفسه. ويتبين لنا أنّ كل الحدود الشرعية والعقوبات القانونية إنما هي تشريع لمنظومة الحياة الإنسانية بعدم التعدي على حدود السلام، مثل ذلك عقوبات القتل والسلب والإرهاب، والتعدي على النفس والمال والكسب والعمل، والإضرار بالأرض والماء والهواء، وإفساد الزرع والكلأ. كل هذا كان الإنسان عنه مسؤولاً... إنها أمانة حملها الإنسان وهو يعلم بأنها ثقيلة كثقل الجبال، ولن يستطيع حملها أو تحمُّلها إلا بالعزيمة والإيمان بمبدأي التسامح والسلام.
يقول الإمام الشافعي:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ
أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ
إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ
لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ
وأُظْهِرُ الْبِشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضهُ
كما إنْ قدْ حَشا قَلْبي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ داءٌ وَدَواءُ النَّاسِ قُرْبُهُمُ
وفي اعتزالهمُ قطعُ المودَّاتِ
ويأتي «التسامح» ليكون الوسيلة المُثلى للبدء بالمصالحة والعيش بسلام، فهو المغفرة عن جور الجائر والعفو عن عدوان المعتدي، والسماح له بالاعتذار وتقبله، بشرط ألا يعود لممارسة خطيئته في الجور والعدوان... تلك هي «التوبة». وتمدُّنا المصادر التاريخية بكثير من الأخبار عن التسامح من أجل السلام، ونضرب منها مثلاً الرسول الأعظم في تسامحه مع من جار عليه من الأقارب والأباعد الذين آذوه في شخصه ودعوته. كان تسامحه - صلى الله عليه وسلم - من أجل السلام، الذي كان أساساً لانتشار الدعوة وقيام دولة الإسلام. وفي التاريخ الحديث، سجّل الجزائريون في تسامحهم مع الفرنسيين، سجلاً من العفو والغفران من أجل السلام. وفي جنوب إفريقيا، حين دعا نيلسون مانديلا شعبه إلى التسامح مع حكومة بريتوريا العنصرية، كل ذلك كان من أجل السلام. وأخيراً، الكويت التي قُتل أبناؤها وشُرِّد أهلها واحتُلَّت أرضها فدُمِّرت منشآتها وأُشعلت النيران في آبار نفطها، تراها وترى أهلها اليوم أصفياء بحبهم للعراق حكومة وشعباً. ولايزال أهل الكويت متفاعلين مع مجريات الأحداث العالمية، يجودون حبّاً في الإنسان، ويهبّون لمساعدة المحتاجين والمنكوبين في كل دول العالم بلا استثناء، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وحين تقوم دولة الكويت بتقديم المساعدات للدول عن طريق المؤسسات الحكومية، وأشهرها «الصندوق الكويتي للتنمية»، يغار منها شعبها فيجزل العطاء للمؤسسات والهيئات والجمعيات الخيرية الأهلية، المحلية والإقليمية والعالمية، لتقدم العون المباشر للشعوب، ومن أشهر هذه المؤسسات: «الهيئة العالمية الإسلامية» و«الهلال الأحمر الكويتي».
من أجل ذلك استحقت دولة الكويت أنْ تُكرَّم بكونها مركزاً إنسانياً عالمياً، وأن يكرَّم أميرها سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، قائداً إنسانيّاً.
من أجل ذلك، لم تر مجلة العربي عنواناً لملتقاها في هذا الشهر (مارس 2015م) أفضل من «ثقافة التسامح والسلام»، تكرّم فيه بعض الجهات التي حملت على كاهلها مسؤولية «التسامح والسلام» ثقافياً وعلمياً وعملياً وإنسانياً، وتلك الجهات هي:
- الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، وهو أول مؤسسة إنمائية في الشرق الأوسط تقوم بالإسهام في تحقيق الجهود الإنمائية للدول العربية والدول الأخرى النامية.
- جمعية الهلال الأحمر الكويتي، التي تقدم المساعدة والعون من دون تفرقة بين دين أو مذهب أو جنس أو لون، ومن دون الالتفات إلى المعتقدات السياسية والفكرية.
- الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية (مركزها دولة الكويت)، التي تعد واحدة من كبريات المؤسسات العالمية في الحقل الإنساني، ومشروعاً عملاقاً لخدمـة البشرية، وهي هيئة مستقلة، متعددة الأنشطة، تقدم خدماتها للمحتاجين في مختلف المعمورة من دون تمييز أو تعصُّب، وبعيداً عن التدخل في السياسة أو الصراعات العرقية.
- منظمة أطباء بلا حدود (فرعها في العالم العربي في دولة الإمارات العربية المتحدة)، وهي المنظمة الطبية الإنسانية الدولية التي أنشأتها مجموعة من الأطباء والصحفيين في فرنسا بتأسيسها عام 1971م، وتقدّم الرعاية الطبية إلى الشعوب المتضررة من العنف أو الإهمال أو الأزمات في نحو 65 بلداً.
- مؤسسة مجدي يعقوب لأمراض وأبحاث القلب - مركز أسوان للقلب (جمهورية مصر العربية)، وهي مؤسسة غير ربحية تقوم بإجراء عمليات جراحة وقسطرة القلب للأطفال والكبار بالمجان.
- موسم أصيلة الثقافي (المملكة المغربية)، الذي أحيا حوار الشمال والجنوب، ومد الجسور بين الثقافات العربية والإفريقية والأوربية.
- مجلة التفاهم/التسامح (سلطنة عمان)، التي كرَّست محتواها لإحياء مفاهيم الحوار والتفاهم والتسامح، وقدمت صورة عصرية للثقافة الإسلامية في محيطها الذي يتماسُّ مع الثقافات الإنسانية دون استثناء.
- مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني (المملكة العربية السعودية)، الذي أُسس ليكون قناة للتعبير المسؤول من أجل محاربة التعصُّب والغلوِّ والتطرف، والذي أوجد مناخاً نقيّاً تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي.
ووضعت محاور هذا الملتقى من أجل دعم واستيعاب ثقافة التسامح والسلام، والعمل على ذلك، ويُناقَش فيه هذان المبدآن العظيمان من المبادئ الإنسانية، لغةً واصطلاحاً، لتضع «العربي» بين يدي قرائها خلاصة مفاهيم الإصلاح التي أقرَّتها الأخلاق الإنسانية جمعاء، ودعت إليها الثقافات والحضارات، والشرائع والأديان، والقوانين والنظم. وتدور محاور ملتقى مجلة العربي الرابع عشر في جلساته حول كل ما يعنى بثقافة التسامح والسلام، على شكل أوراق علمية عن دور الكويت الإنساني، ودور المؤسسات الثقافية والتعليمية، في الإسلام، وفي التاريخ، وفي الإعلام، في الفنون.
ودعوتنا إلى التسامح والسلام ليست فقط دعوة إلى العفو عمن من أسرف في الخطأ وأجرم وطغى وتكبَّر، بل هي أيضاً دعوة إلى ضبط النفس ونبذ الخوف، والتصدِّي للعنف والإرهاب، فمتى ما ساد الخوف في النفوس حلّ الوهن والضعف والاضطراب في العقول والأجساد، وشُلَّ الإبداع الفـــكري، وتراجعت مسيرة التقدم العلمي، وحلَّ ظلام الجهل محله، ليُثْقِل الإنسان فوق حِمْلِه رهقاً، وهذا بالضبط ما يريده ويخطط له بأنانية أعداء الإنسانية لأمتنا العربية والإسلامية ■