الحياة في عالم افتراضي
أظنه الكاتب الأمريكي الراحل نورمان ميللر الذي قرأت له رأياً سلبياً أبداه حول الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، قائلاً إنها أكبر اختراع أنجزه العقل البشري، لإضاعة الوقت، وهو قول يصدق على مدمني الحياة مع العالم الافتراضي، والاستغراق في المحافل الصاخبة، التي تقدمها لهم شبكة المعلومات، ومواقع التسلية، وصفحات التواصل الاجتماعي، ومنتديات التعارف والدردشة، التي تستقطب حشود النساء والرجال، ويكفي أن نعرف ما يقوله أصحاب «الفيس بوك»، عن ارتفاع عدد المشتركين في السنوات الأخيرة من أصحاب الحسابات والصفحات، بحيث وصل خلال الأشهر الماضية إلى ألف ومائتين وثلاثين مليوناً من البشر، فأي رقم مهول، هذا الرقم؟ وأي فتح من فتوحات الاتصال والتواصل، وتقنياته الحديثة، وصل إليه عالم اليوم؟
وطبعاً لا يمكن لأحد، مهما كان انتقاده لهذه الشبكة، أن ينكر الإضافة التي قدمتها لإنسان العصر الحديث، إن لم نقل التحوّل الإيجابي الذي أدخلته على حياته، والخدمات التي أتاحتها على مستوى قضاء الحاجات في المجالات الإدارية والمالية، وتخزين المعارف والمعلومات، وتيسير وصولها إلى مَن يطلبها، وما حصل من إنجاز في عالم البيع والشراء وإدارة الأعمال والتسويق والدعاية والتجارة، إلى حد أن الشبكة صنعت عالماً غير عالم الواقع، متداخلاً معه، ويتعامل أحياناً وفق قوانينه، ولكنه يمضي موازياً له، بل ويقدم إلى بعض الناس عالماً بديلاً له، فيما اصطلح الناس على تسميته بالعالم الافتراضي.
لقد أصبح الكثيرون يعتمدون، في صناعة أصدقائهم، على الفضاء الافتراضي، ويختارونهم من بين مَن يتصلون بهم في رحاب هذا الفضاء، وبيننا مَن يملك أصدقاء افتراضيين، أكثر بكثير جداً من أصدقائه في واقع الحياة، بل هناك مَن صارت حياتهم مرتهنة لهذه الشبكة التي فتحت أمامهم هوايات يمارسونها، على مستوى القراءة والمشاهدة وربما الكتابة والدردشة، وتأخذ من وقتهم أكثر من الوقت الذي يقضيه الواحد منهم وهو يمارس هواياته فــــي العالم الواقعي.
وأقول عن نفسي إنني أتعامل مع هذا العالم الافتراضي منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، دون إدمان ولا خضوع لسيطرته، وأتواصل مع أهله الافتراضيين تواصلاً يومياً، بمعنى أنني لم أتخلّف عن فتح صفحتي في «الفيس بوك»، كما لم أتخلّف عن إرسال وتلقي الرسائل عن طريق الإيميل طيلة هذه السنوات، لكنني لا أستطيع أن أقول إن مَن عرفتهم عن طريق العالم الافتراضي، يمكن أن يكونوا في منزلة أصدقائي في عالم الواقع، أو أن أعتمد على أحد منهم اعتمادي على صديق من أصدقاء الحياة، وقد حدث أن أجريت اختباراً صغيراً لهؤلاء حصل بعد سنوات من التواصل عبر الشبكة، تكررت خلالها رغبات الالتقاء شخصياً وواقعياً، فضربت موعداً للقاء هؤلاء الأصدقاء والصديقات في مدينة إقامتي، وأخذت منهم وعداً بالمجيء إلى اللقاء في منتدى ثقافي، حيث رتّبت لمحاضرة أقوم بإلقائها، ونقاش يعقب المحاضرة، وحفل شاي للحاضرين، وألححت على النادي أن يعطيني أكبر قاعة، لأنني خشيت أن يصل كل أصدقائي الافتراضيين، وهم كثر فلا يجدون قاعة تكفي لأعدادهم الوفيرة، وحدث ما لم أكن أتوقعه، لكنني لم أكن أستغرب حدوثه بسبب ضعف ثقتي في مثل هذه الصداقات الافتراضية، وهو أنه لم يحضر منهم أحد إطلاقاً، لا صديق ولا صديقة ■