قُرب سرير ماري أنطوانيت

قُرب سرير ماري أنطوانيت

كانت زيارتي اليتيمة لفرنسا في خريف عام 2009، ومن الصعب لزائرها ألا يمر بقصر فرساي الذي شهد أحداثاً تاريخية كبرى، خاصة مع اندلاع ثورة 1789.  توجهت إلى فرساي قرب باريس، وهناك انفسحت أمامي ساحة واسعة مبلطة بالحجارة، تذكِّر بالماضي، حتى أن الحجارة غير مستوية أحياناً، وكأنهم أرادوها مصداقاً ليد الزمن التي مرَّت بها.

 قصر فرساي ضخم، تدخل بوابته الملكية المذهبة فتلاقيك جموع متطاولة اصطفت لتأخذ دورها في قطع تذكرة الدخول، وقد ظهرت على ملامح الواقفين كل أشكال وألوان البشر على أرضنا.
 وما إن تسلقنا الأدراج، وعبرنا الغرف، حتى شعرت بكثير من الملل، كان لدي إحساس بأن الغرف والصالات متشابهة رغم تنوعها، نوافذ واسعة، جدران مكسوة بقماش فاخر مزركش، وحافلة باللوحات المتنوعة، والتماثيل الصغيرة والكبيرة ذات الوجوه الجامدة، والأجساد المثقلة بملابس موشَّحة بالزينة والأوسمة والجواهر والرياش. 
 من الأشياء القليلة التي لفتت نظري: سرير الملك لويس السادس عشر، وسرير زوجته الملكة ماري أنطوانيت، سريران أو كهفان على شكل صندوقين مزخرفين بكل ما هو ثمين، وصالة المرايا المعدَّة للاحتفالات، والطاولة التي كان على الملك والملكة أن يتناولا عليها العشاء أمام جمهور يسمح له بالمرور ليرى الملك والملكة بصمت!
 وما إن أسرعت بالخروج، حتى تنفست الصعداء، فتوجهت نحو حدائق القصر فاختلف المشهد جذرياً، فقد صرت وجهاً لوجه أمام فضاء لا محدود، وغابة، وصفوف من الأشجار المتناسقة، ونهر صغير، وتماثيل،  وأشكال من النوافير في بحرات جميلة انتثرت في كل مكان.

قرية ماري أنطوانيت 
كل ذلك يعرفه زائر قصر فرساي، لكن قد يفوت كثيرين معرفة ما في أعماق هذه الحدائق، وفي منطقة معزولة، ثمة أثر خالد من أبرز آثار الملكية في فرنسا، إنه قرية ماري أنطوانيت ملكة فرنسا، التي تزوجت ولي العهد لويس عام 1770، لتصبح بعد أربع سنوات ملكة فرنسا، وزوجها الملك لويس السادس عشر، ولتشهد وهي حيَّةً إلغاء الملكية رسمياً عام 1792. لم أكن لأنتبه لولا أختي التي كانت دليلي وقتها، وهي المقيمة في فرنسا منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث قالت لي:
- هل نذهب إلى قرية ماري أنطوانيت بالقطار الصغير الذي تراه هناك أم مشيا، فهي تبعد كيلومترات عدة عنا؟
 بالطبع فضَّلت السير على الأقدام، حتى أرى أكثر ما يمكن من مشاهد تلك الحدائق المتناثرة، عجيبة التنسيق، حيث بذل فيها المهندسون والفنانون أقصى ما يستطيعون، ليتركوا لنا هذه الشواهد الساحرة على الذوق الفرنسي المرهف.
 وما إن وصلنا «قرية ماري أنطوانيت» حتى كنا أمام مشهد مختلف، هنا اختفت الأبهة العارمة، واقترب المشهد من البساطة الأنيقة، والتنوُّع الغني، والتكوين الذي يخلط الواقع بالخيال، فماري أنطوانيت هنا حوَّلت عالمها إلى تركيبة سحرية، كأن ما نراه خارج من إحدى حكايات الأطفال، أو أن ثمة حلماً جميلاً قد حوَّله مارد خرافي إلى تجسيد حيّ فوق هذه الخضرة التي تحنو على كل شيء!
 مسَّني على الفور ما يكمن خلف ما أرى، فإذا كنت أنا نفسي قد شعرت بالضجر في قصر فرساي الباذخ المهيب البارد، وخلال ساعة، فكيف بمن كان مفروضاً عليه أن يعيش عمره بين جنباته المتشابهة، وممراته وأدراجه ورتابة شؤونه؟! كل ذلك كان حال الملكة فيه، ويزيدها قتامة وكآبة ملك ضعيف الهمة، متردّد في كل شيء، الصيد فقط أكبر مشاغله، أما ماري أنطوانيت فقد كانت شابة صغيرة، مندفعة ومتألقة، تملأ قلبها الحياة بالمرح والأحلام، إنها أشبه بطائر ملوَّن داخل أقفاص من ذهب، على شكل قصر.

ملكة الحياة  
كانت ماري أنطوانيت (1755-1793) شابة لا حدود لسحرها، الجمال الآسر، النعومة، الإشراق الذي ينبع من طلعتها، أناقتها الفريدة، الجسم المنطلق الفنان الميَّال إلى الإيقاع، الذي جعل أحد الموسيقيين يعلق على أن الملكة أظهرت نشازاً عن الإيقاع في رقصها قائلاً:
«إذن الإيقاع هو المخطئ».
 إن ما حولها يبعث على الضجر والملل والرتابة، الخدم والحشم، النوم والاستيقاظ، المناسبات والمراسم، إنها وسط مستنقع من الرسميات والصمت، لذا فقد كتبت في يومياتها وقتها: «الضجر يرعبني».
 إنها حالمة، تخفق في قلبها أجنحة المرح والبهجة والانطلاق، تتوق إلى المتعة والرقص والسهر والفن والموسيقى، والأوبرا والصداقات المسلية، لذا طلبت من الملك أن يبني لها قرية بعيدة عن الفخامة الصارمة لقصر فرساي، فكان لها ما أرادت.
 وبناء على رغبتها بنت قصر «تريانون» الصغير، بجدرانه الزهرية، وبساطته الآسرة، وفيه كل شيء قريب إلى القلب، ويحوي كل ما تحتاج إليه امرأة توَّاقة إلى البهجة، السرير الجميل، وغرفة الموسيقى، وغرفة الزينة، وغير ذلك، وسط حديقة منمنمة هادئة. 
 وقرب القصر المتواضع أرادت ماري أنطوانيت الملولة بطبعها أن تروي عطشها إلى البساطة الريفية، فبنت مزارع للأبقار والأغنام وشتى الطيور والحيوانات، وخصصت مساحات للزراعة والزهور، ومعبداً للحب، وجسوراً وقناطر خشيبة صغيرة، ثم دار أوبرا صغيرة تسع خمسين مشاهداً فقط، والطريف أن الملكة نفسها كانت تمثل في بعض المسرحيات.
 لقد أحسست وأنا أتنقَّل في قرية ماري أنطوانيت أنني في قرية فرنسية عادية، فمازال باستطاعة الزائر أن يرى القرية حافلة بالطيور والحيوانات والمزارع كما كانت في الماضي، فقط... صاحبة تلك القرية هي الغائبة الوحيدة عن المكان، لكنها حاضرة بقوة في أذهان الفرنسيين، إن لم أقل في أذهان الملايين في العالم.
 لقد أرادت ماري أنطوانيت أن تنتقم من حياتها الرسمية، فأرخت العنان لعواطفها وتصرفاتها، وراحت تحيا حياة ثانية، فتقضي يومها بين أصدقاء انتقتهم ليخففوا عنها وحشة الجو العام، فترقص معهم وتغني، وتتعلم العزف، وتنتقي الجميل من الملابس والحلي، وتتجول في باريس، وسط هتاف الناس لها ومحبتهم لهذه الملكة الشابة المليئة بالحيوية والطيبة.
 ولا نعلم على نحو يقيني حقيقة كل ما يقال عن هذه الملكة الشابة النمساوية الأصل، هل ذهبت بعيداً في العبث والفوضى إلى حد التمادي في النزوات الغريبة، أم أن كثيراً مما قيل ليس سوى ظلم مؤرخين، أعماهم الحقد عن الإنصاف؟
 بعضهم يصف هذه الملكة بأشنع الأوصاف... المستهترة التي كانت تقضي الليالي حتى الفجر في ملاهي باريس، وتلعب القمار مع حفنة من حثالات باريس، بينما الملك يغط في نومه، ويغض النظر عما يُشاع، بل يقف حيادياً أمام علاقة حبها بـالعشيق «فرسن» والشعب يعاني الظلم والجوع.
 هي تبني ما تشاء، وتبعثر الأموال الطائلة على الملابس والمجوهرات ورفاق السوء، والفرنسيون يئنون من الألم والفقر، وفرنسا تشكو الإفلاس والديون.
 والأخطر من كل ذلك ما يقال عن خيانتها للملك وللأمانة ولفرنسا أمام أعدائها في ذلك الحين.
 بعضهم الآخر تحدث عن ملكة شجاعة وحكيمة، تحملت الكثير، وواجهت مصيرها بإباء، ولم تسمح لنفسها لحظة أن تبتذل نفسها في قول أو فعل، وهذا ما تشهد به محاكمتها التي صارت ملكاً للتاريخ الآن. 
 ولعل من الإنصاف أن ننظر إلى ماري أنطوانيت كواحدة من بني البشر، فقد اضطربت حياتها، وعصفت بها زوابع الحياة والسياسة، لكنها مع ذلك تركت ما يدل على نوازع إنسانية رفيعة، فقصة حبها العجيبة والخالدة لـ «فرسن» النبيل الذي عمل المستحيل من أجلها بروح فروسية نادرة، تروي أسطورة ساحرة من أساطير الحب والتضحية، ذلك الحبيب الذي لم تستطع أن تلتقي به إلا قليلاً طوال حياتها، والذي ظل حياً في قلبها، وفياً، يعمل المستحيل لإنقاذ حياتها وهي في قبضة أعدائها، والتي قالت في رسالة له:
«لا أمكنة ولا بلدان واسعة تستطيع أن تفصل بين قلبينا».
والتي له وحده كتبت على خاتمها:
«كل شيء يقودني إليك».

 ملكة الآلام
 زلزال الثورة الفرنسية (14 يوليو 1789) قلب حياة ماري أنطوانيت رأساً على عقب، الملكة التي يقال إنها قالت عندما سألت ما الذي يريده الناس الذين يحاصرون قصر فرساي؟ فقيل لها: يطالبون بالخبز، فقالت: 
- لم لا يأكلون البسكويت؟!
وبغض النظر عن ذلك، فالحقيقة الآن أن هُوَّة هائلة فصلت بين الشعب والقصر، وأن من في القصر عجزوا عن إدراك مسيرة التاريخ، وحكَّموا مصالحهم الضيقة، وسط غباء كبير عبَّر عنه شاعر فرنسا الكبير جاك بريفير في قصيدته الساخرة «العائلات الراقية» التي يعدِّد فيها من لويس الأول حتى لويس الثامن عشر فقط، ثم يأتي بقفلة ماهرة عندما يقول:
«أي عائلة هذه
لا تحسن العدّ للعشرين؟!»
 وكان قبلها قد سخر من لويس الرابع عشر الذي لقب نفسه «الملك الشمس» في قصيدة طريفة هي «الكسوف»، فهذا الملك الذي حكم 72 سنة ملكاً لفرنسا قضى سنواته الأخيرة مريضاً، يجلس على كرسي مثقوب ليقضي حاجته، لهذا يقول بريفير:
«في العتمة 
نهض الملك الشمس 
وجلس على مَبْولته
ليختفي إلى الأبد».
 الملكية الفرنسية لم تستطع الاستمرار، لأنها افتقدت التلاؤم مع الجديد، ومع مصالح القوى الاجتماعية الجديدة، وحاولت أن تحافظ على العرش بالاحتيال والمماطلة والقمع أمام حركة تاريخ لا يرحم صغيراً ولا كبيراً.
 لكن مأساة ماري أنطوانيت كان لها بعد إنساني فاجع، فتقلُّبُ مصيرها، وزواجها من ملك ضعيف مسلوب الإرادة مشكوك في رجولته، وزواجها الذي لم يكن سوى صفقة سياسية بين خصوم، كل ذلك أوصلها إلى حياة شديدة الاضطراب، خاصة أنها عاشت بعيدة عن التعليم الكافي، ولم تحصِّن نفسها بالمعرفة، مع أن فرنسا وقتها كانت تتوهَّج بشتى الأفكار والمعارف.
 أجل فاتها الكثير وسط الصخب الذي عاشته جسداً وروحاً، فلم تبصر ما حولها جيداً، وعندما كانت الثورة كارثة عليها، استيقظت لتجد نفسها شبه وحيدة، وقد انفضَّ عنها أصفياء الأمس بعد أن تنعَّموا بهباتها، ثم اختفوا، بل بعضهم تنكَّر وانقلب، ولم تجد معها سوى عائلتها الصغيرة، والحبيب البعيد «فرسن»، حتى مع هذه العائلة الصغيرة كان عليها أن تتحمل حتى اللحظات الأخيرة زوجاً مسلوب الإرادة والكرامة، قادراً على أن يفكر في الطعام بنهم، ويتناوله بشراهة حتى وهو في السجن أو المحكمة!
 في هذه المرحلة التي استمرت عامين استيقظت الملكة دفعة واحدة، وانقلبت طباعها، فصارت جدية متماسكة، وأخذت تفكر بعقلانية وعمق، وأثبتت نبلاً مؤثراً في أثناء المآزق التي مرت بها، من الحجز، إلى محاولات الهرب، والمحاكمة، وأخيراً وهي تتوجه إلى المقصلة.
 فقدت ماري أنطوانيت ولديها بعد الثورة، ثم تنقلت بين سجون عدة، ولاقت ألواناً من الذل والهوان والمساومات، كان أقساها إبعادها عن ابنها وابنتها، بعدها سجنها في زنزانة انفرادية في سجن «الكونسيرجي» وبحراسة استثنائية، حيث قضت فيه 77 يوماً، ثم محاكمتها المذلة التي لفقت لها فيها أمور تمس أقدس مشاعر الأمومة، فواجهت كل ذلك بهدوء ونبل وتسامح وتعالٍ مدهش، فكتبت في رسالتها الأخيرة إلى وحيدها، وهي بمنزلة وصية:
«لا تحاول الثأر لموتنا أبداً 
إنني أغفر لأعدائي كل إساءاتهم إلي».
ومن مكر التاريخ الجميل أن يستطيع الرسام الفرنسي الكبير ألفونس فرانسوا رسم الصورة الأخيرة لماري أنطوانيت، فترك لنا لوحة فنية باهرة، تحمل في تفاصيلها كثيراً من الدقة والعمق والشفافية والشجن التعwبيري الأخَّاذ، حيث استطاع ألفونس أن يسبر كثيراً مما يوحي به وجه قبل مغادرته دنيا حملت كثيراً من الآلام والأسرار.
 لقد وصلتنا من قبل لوحات قليلة لها، رسم معظمها مولر، ولوحة غير مكتملة رسمها الفنان كوشارسكي، لأنها حاولت في حينها الفرار من فرنسا عبر «فارين» عام 1790 وكان عمرها في ذلك الوقت 37 عاماً.

تحت شفرة المقصلة  
 لقد اقتيدت ماري أنطوانيت على عربة، بعد أن حرصت أن تلبس بأناقة، ولم تُظهر أدنى خوف أو ضعف، بل ودَّعت حراسها بحب وشَمَم، وعندما انطلقت بعربتها المحروسة جيداً، كانت تتلقى شتائم الناس بصمت وكبرياء، وهي مكتوفة اليدين إلى الخلف، ومربوطة بسلسلة يمسك بها حارس قوي، حتى وصلت إلى ساحة الكونكورد، حيث نُصِبت المقصلة، وكانت شامخة الرأس، ثم أمروها بخشونة، فركعت عندها، فقصوا شعرها من الخلف، ثم هوت المقصلة لتفصل رأس ملكة فرنسا عن جسدها.
لعل في ذلك نهاية لألمها الذي ظلت تراكمه خلال سنتين من الذل والخوف والقلق والمصائب، ثم لتنطلق بعد ذلك مئات الروايات عنها، مخلوطة بالحقيقة والخيال والكذب كعادة التاريخ دوماً! ■

 

ممر المرايا في قصر فرساي