رائد الدراسات النفسية والاجتماعية د. مصطفى سويف... وداعاً

رائد الدراسات النفسية والاجتماعية  د. مصطفى سويف... وداعاً

رحل عن دنيانا أخيراً العلاَّمة الدكتور مصطفى سويف (17 يوليو 1924/ 27 يونيو 2016)، أحد الرواد البارزين على مستوى الوطن العربي في الدراسات النفسية والاجتماعية، وأحد المفكرين العرب والمتخصصين العالميين المهتمين بقضايا المجتمع العربي والإنسان بشكل عام.

كان للدكتور سويف بعض المحاولات في المجالات الإبداعية كالشعر والقصة القصيرة والرواية والمقالة، نشر بعضها وأحجم عن نشر بعضها الآخر، وانتابته نوبات من التردد بين أن يكرس نشاطه في هذه المجالات الإبداعية، أو أن يتوجه كلية إلى الجانب العلمي الأكاديمي، حيث إن هذا التشتت والتردد بين المجالين لن يؤديا إلى نتائج مُرْضية متميزة من وجهة نظره، فصَحَّ عزمُه على أن يدير ظهره للجانب الأول ليتفرغ تماماً للجانب العلمي، وهذا على النقيض مما صنعه مُجايله وزميله في الجامعة وفي القسم ذاته أنيس منصور، الذي فضَّل الصحافة والمجالات الإبداعية، وإن لم يطَلِّق الفلسفة والدراسات النفسية طلاقاً بائناً، فظهرت في بعض كتاباته بعد ذلك.
وفي هذا يقول د. سويف في مدونته حول فترة تكوينه العلمي: «واجهتُ في مرحلة معينة من نموي العقلي صراعاً بين ميولي الأدبية والمسيرة البحثية التي نويت أن أختطها، وكنت إذ ذاك في التاسعة عشرة أو العشرين من عمري، وشعرت حينذاك أنني قد لا أستطيع أن أتميز في أيٍّ من المجالين في الوقت الذي كنت فيه أيضاً خائفاً من إساءة الاختيار بينهما. وقد أنهيت هذا التردد وهذا الخوف وقضيت على هذه الأزمة قضاء مُبرماً، حيث جمعت أمري على أن أكرس نشاطي الإبداعي كله للبحث العلمي، ولكي أحصِّن نفسي ضد الانتكاس في هذا الأمر، فقد جمعت كل ما أنتجت باسم الإبداع الأدبي وأحرقته، وكانت النتيجة أنني لم أنتكس بعد ذلك أبداً». 
ولكن، هل استطاع الرجل حقاً أن يخرج تماماً من عباءة الأدب ويطلقه - كما يقولون - إلى الأبد؟ أعتقد أن اختياره أولى خطواته في مجال البحث العلمي النفسي قد وضعه مرة أخرى - سواء بقصد أو دون قصد - في مجال الأدب والإبداع الأدبي مرة أخرى! بل إنه غاص في بحور الإبداع الفني، خاصة في مجال الشعر، حينما اختاره في دراسته لنيل درجة الماجستير - وهي أولى الخطوات الجادة في دروب البحث العلمي الطويلة - تحت عنوان «الأسس النفسية للإبداع الفنِّي في الشعر خاصة» (التي أعدها للنشر على هيئة كتاب ظهرت طبعته الأولى عن دار المعارف سنة 1951)، ليكشف لنا عن دور العامل الاجتماعي في تكوين الإطار الذي يضم نشاط المبدع ويوجهه، كما كشف في هذه الدراسة عن الصراع النفسي الذي يتمخض عن الإلهام والإبداع الفني. ولهذا لا نفاجأ حينما يتحمس أستاذه د. يوسف مراد لإطرائه وتقديره في تقديمه للكتاب على هذا النحو: «هذه محاولة مُخلصة قام بها بتوفيق عظيم تلميذي وصديقي الأستاذ مصطفى سويف... وأود أن أقرر أن المؤلف قد أعدَّ نفسه أحسن إعداد للقيام بهذا البحث؛ إذ إنه جمع بين ثقافة فلسفية عميقة وثقافة أدبية اجتماعية واسعة، هذا فضلاً عما يمتاز به أسلوبه الفكري من نظام ووضوح وتدقيق، كل هذا في ضوء منهج تجريبي موجه». 

تأسيس أكاديمية الفنون
ولهذا أيضاً فحينما أرادت الدولة المصرية إنشاء أكاديمية للفنون لجأت إليه، فانتدبته من الجامعة لتأسيس هذه الأكاديمية، وكان أول مدير لها بناء على ما قام به من دراسات وبحوث وإشراف على رسائل للماجستير والدكتوراه حول أسس الإبداع الفني في مختلف الفنون والآداب، كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والفنون البصرية والتشكيلية المختلفة، وكيفية تأثير السياق النفسي الاجتماعي على العمليات الإبداعية، وإذا ما كان ثمة ارتباط بين كل من الإبداع والمرض العقلي، وهل توجد حقاً ثمة علاقة أو فروق بين الجنسين في القدرات الفنية والإبداعية؟ لاسيما أنه كانت هناك آراء ذائعة حول هذا الموضوع الأخير، كان يثيرها بين وقت وآخر الأستاذ العقاد، رحمه الله.
اهتم د. سويف في هذه المرحلة المبكرة من حياته بجانبين، أولهما فن الموسيقى والغناء، حيث دأب على الاستماع إلى نماذج متميزة منها، كما حاول تعلُّم العزف على آلة «الماندولين». أما اهتمامه بالثقافة العامة فكان دافعه إليه ما وجده في مكتبة والدته من نفائس الكتب الأدبية في المجالات المختلفة، فأقبل على قراءتها بنهم، حتى أنه كان يخلو بنفسه أوقاتاً طويلة لمزاولة هذه الهواية المفيدة.  
وقد حدث أمر آخر عام 1940 كان له أثره في بقية حياته، لاسيما في المجالات البحثية والمعرفية، فقد أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة أدبية، حدد القائمون عليها مجموعة من الكتب الأدبية والثقافية العامة، يطلع عليها المتسابق ثم يمتحن فيها. وقد لقي تشجيعاً هائلاً خاصة من والدته، على اجتياز هذه المسابقة التي حصل بها على نصف مجانية تعليمه الجامعي مع مجموعة من الكتب القيمة ممهورة بإهداء من وزير المعارف نفسه - وهو د. محمد حسين هيكل القانوني والأديب والمؤرخ الإسلامي المعروف آنذاك - مع تمنياته له بالتأليف النافع في المستقبل. 
ومنذ ذلك الوقت تفتحت مداركه على أهمية القراءة، وخطورة الكتاب بوصفه نافذة على عالم مثير غيْر العالم الواقعي الذي يعيشه ويتعامل معه، مما أضفى عليه إحساساً قوياً بأهمية الكتاب ودوره كوسيلة ينفذ من خلالها إلى عالم آخر أكثر بهاء وثراء ومثالية.       

الطريق الأكاديمي
تخرج د. سويف عام 1945 في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول آنذاك) وكان أول دفعته، ليبدأ مرحلة مهمة وهي اختيار تخصص علم النفس الذي سيكرس له نشاطه العلمي والفكري بقية عمره، فحصل فيه على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، ثم على دبلوم علم النفس الإكلينيكي من جامعة لندن، ثم شغل منصب أستاذ بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة، ثم عمل رئيساً لقسم الدراسات الفلسفية والنفسية بالكلية عامي 1973 و1974، وهو أيضاً مؤسس قسم علم النفس بالكلية، وأول رئيس له (في ما بين عامي 1974 و1984). وقد دعي باحثاً زائراً بمعهد الطب النفسي بجامعة لندن فيما بين سنتي 1963 و1964، كما دعي أستاذاً زائراً بجامعة لند بالسويد سنة 1972.
وقد ترك لنا الرجل ذخيرة علمية هائلة تمثلت في المؤلفات الرائدة في مجال علم النفس الإبداعي والاجتماعي التكاملي، إضافة إلى بحوثه ومؤلفاته الرائدة في مجال الإدمان على المخدرات وغيرها، وطائفة أخرى من المؤلفات تعدت خمسة عشر كتاباً سجل فيها خبراته ومذكراته وتجاربه في علم النفس والدراسات الاجتماعية مع سرد لسيرته ومسيرته ومعالجاته لمشكلات مجتمعه خلال حياته الطويلة التي أشرفت على اثنين وتسعين عاماً.
 
نموذج مثالي لأستاذ الجامعة
مَثَّل د. سويف بشخصيته وعلمه والتزامه وأناقته ومهابته نموذجاً مثالياً لأستاذ الجامعة الذي يحرص على أداء رسالته على النحو الذي ينبغي أن يكون عليه، وبالضوابط العلمية العالمية، قبل أن نعرف ما يسمى بمعايير ولجان الجودة التي ظهرت وشاعت أخيراً بصورة شكلية أكثر منها حقيقة مؤكدة على أرض الواقع في جامعاتنا العربية. 
يقول عنه واحد من تلاميذه النجباء، وهو العالم التربوي الدكتور سعيد إسماعيل علي: 
كان اللقاء الأول به عام 1957 على وجه التقريب، حيث كان يدرس لنا مقرر «علم النفس الاجتماعي»، فشدتني إليه دقته وانضباطه، وتعامله مع الوقت تعامل من يعتبره مورداً لا نستطيع تعويضه إن تفلت منا دون استثماره! كان الوقت المخصص للقائه بنا ساعة واحدة... وعند لقائه الأول بنا فك ساعته من يده ووضعها أمامه على المنضدة (وهو التقليد الذي ورثته عنه من دون أن أدري) منبهاً لنا أنه سوف يشرح موضوع المحاضرة في عشرين دقيقة، ثم يملي ما شرحه في عشرين دقيقة أخرى، ثم يخصص عشر دقائق لمن يريد أن يسأله في أي نقطة من نقاط المحاضرة، وبعد ذلك: إذا حاول أحد أن يتحدث إليه بعد المحاضرة، فلن يرد عليه!
بهرني كتابه، الذي هو رسالته للدكتوراه «الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي»، وهي فكرة سبق لأستاذه وأستاذي، د. يوسف مراد أن كتبها في دراسة بمجلة علم النفس، «وقد أشار د. سويف نفسه إلى هذا في مقدمة كتابه ذاك»، التي كانت تصدر عن جماعة علم النفس التكاملي. وكان د. سويف قد اتفق مع زوجته - الأستاذة أيضا بالكلية - على أن يسجلا كل صغيرة وكبيرة تتصل بنمو طفلتهما، وتطورها من قطب الـ«أنا» إلى قطب الـ«نحن» دقيقة بدقيقة، حيث كان تسجيل الملاحظات يعتمد فقط على ما كان متاحاً: الورقة والقلم! ومن ثمَّ كان اسم الابنة «أهداف»، حيث شكلت بالفعل هدف البحث! وصارت في ما بعد أديبة عالمية في المملكة المتحدة، وهي صاحبة رواية «خارطة الحب»، وغيرها من أعمال إبداعية رائعة.
ثم يقول د. سعيد علي: حينما تخرجت في الجامعة كانت أمنيتي أن أتتلمذ على يديه في علم النفس الاجتماعي، فأرسلت إليه خطابا على عنوان سكنه، حيث كان يسكن بالقرب من ميدان العتبة بالقاهرة، في ذلك الوقت... وفوجئت برده على رسالتي بدعوتي إلى زيارته، وتم ذلك بالفعل، وحدثته عن أمنيتي بالتعيين معيداً، حيث كنت أول دفعتي... ومع الأسف لم أتابع التواصل معه، حيث كنت قد بدأت أغرق في بحر التربية وأصولها!
كما كان الرجل أيضاً نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه أستاذ الجامعة البحاثة في سعة اطلاعه في دائرة تخصصه على كل جديد يطرأ في المجالات البحثية التي يرتادها، ولا أدل على هذا من أنه لا ينفض يده من البحوث التي أنجزها بمجرد أن تخرج إلى النور على هيئة بحث أو مؤلَّف أو كتاب، ولكن إذا ما طُلِب إليه إعادة طبع هذا المؤلف أو ذاك - لأهميته وإقبال الباحثين عليه - فإنه يعيد النظر فيه من جديد بعين الباحث المدقق؛ ليتعهده بالتنقيح والإضافة حتى يتماشى ويتلاءم مع ما استجد من بحوث ونظريات وآراء حديثة في الفترة الزمنية بين طبعته السابقة وطبعته اللاحقة، فلا يكتفي كغيره بتغيير تاريخ الطبْع، ولكنه يعيد النظر مرة أخرى في المتن، وقد يضيف ملحقاً يتضمن ما استجد من بحوث ونظريات ومؤلفات في هذا الصدد. كما كان الرجل قارئاً طُلعة بشكل عام، وفي مجال تخصصه على وجه الخصوص، فحينما يصدر كتاب أو مؤلف ذو بال فلا يمضي وقت طويل حتى يقرأه قراءة مستوعبة ليعرضه في أول فرصة سانحة، مثل كتاب «نظرية المجال في الدراسات الاجتماعية» لمؤلفه كورت ليفين، الذي عرضه بعد ظهوره بوقت قصير في «الكتاب السنوي لعلم النفس» الذي كان يشرف على إصداره د. يوسف مراد.

سويف والشأن العام
أما اهتمامه بالثقافة العامة ومشكلات المجتمع والشأن الوطني العام، فأمر دأب عليه الرجل منذ بداية حياته العملية؛ ولهذا فقد كانت مجالاته البحثية وثيقة الصلة بالظواهر والمشكلات الملحة في مصر والمنطقة العربية، والعمل على درْسِها وبحثها في دراسات نفسية منظمة كالإبــــداع والشخصية والأمراض النفسية ومشكلات تعاطي الكحول والمخدرات في شرائح مجتمعية مختلفة، إلى غيرها من دراسات. 
وأما ما لم يتناوله من بعض المشكلات الأخرى - التي لم يجد من الجهد والوقت ما يسعفه لإنجازها أو الإشراف على دراستها - فقد يثيرها ويناقشها في مقالاته التي دأب على نشرها بانتظام في مجلة الهلال المصرية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. 
ويذكِّرُنا هذا بما ذكره عنه تلميذه الأستاذ د. فيصل يونس - أستاذ علم النفس المتفرغ بآداب القاهرة - حينما قال: المرة الأولى التي رأيت فيها د. سويف كانت أواخر عام 1969، وكنت يومها طالباً بقسم «الفلسفة وعلم النفس» بجامعة القاهرة، وكنت مشغوفاً بفلسفة العلم وبالوضعية المنطقية على وجه التحديد، وكنت قد التحقت بقسم الفلسفة طمعاً في دراسة عميقة لفلسفة العلم. ولكن خابت آمالي حينما عرفت ما يدرس من فلسفة العلم آنذاك؛ إذ لم أجد أستاذاً واحداً في القسم يتبنى الاتجاهات الفلسفية الوضعية، بل على العكس فإن الكثيرين كانوا يستبعدونها، ويقللون من قيمتها، وكنت في حالة من القلق والتبرم وعدم اليقين مما لم أخْبِرْه من قبل! وكان د. سويف آنذاك مديرا مُؤَسِّساً لأكاديمية الفنون بالندب من الجامعة، وذات يوم أخبرتنا الأستاذة الشابة التي تدرِّس لنا «مدخل إلى علم النفس» أن أستاذها د. مصطفى سويف سيزورنا اليوم، وسيحدثنا عن آفاق التخصص، والمشروع المُزْمَع لفتح الدراسة في شعبة أكثر تخصصاً في علم النفس. وقد كانت فكرتي عن علم النفس في ذلك الوقت لا تتجاوز شذرات قرأتها عن فرويد والتحليل النفسي، وكان اعتقادي - بناء على توجهي الوضعي المنطقي - أن هذا ليس عِلماً؛ إذ لا يخضع للتجريب، ولا يمكن تكذيبه. دخل علينا الأستاذ في ذلك الصباح مهيباً أنيقاً، وبدأ حديثه عن ماهية علم النفس المعاصر، وكيف يفكر علماء النفس في سلوك الكائن الحيّ، وكيف يصلون إلى نظرياتهم، وكيف يستطيع دارس السلوك البشري أن يستخدم المنهج العلمي بعناصره وشروطه ليصل إلى فهم أعمق لهذا السلوك، وأن ثمة شروطاً ينبغي أن تتوافر في الدارس الجاد للتخصص، ومن أهمها وأولها التمكن من المنهج العلمي بعنصريه الرئيسيين: الملاحظة المنظمة والاستنتاج المنظم، ثم الدافعية المرتفعة التي تجعل مُحب العلم يستغنِي عما عداه. وعندها وقَعتُ في محبة علم النفس والأستاذ معاً، ومازلت. فحينما تخرجت في الجامعة في صيف 1972 عملت فوراً مع د. سويف معيداً في مجال علم النفس الإكلينيكي، لأبدأ معه صحبة استمرت حتى وفاته.
رجل في قامة د. سويف كان من الطبيعي أن يلقى من وجوه التكريم ما هو أهل له، على الرغم من مواقفه المُعارِضَة، ووجهات نظره الناقدة التي لقي من أجلها الاحترام وإن لم تلق هذه الآراء القبول التام؛ ولهذا فقد منحته مصر جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 1989. وسبق أن اختارته القيادة السياسية لتأسيس ورئاسة أكاديمية الفنون بمصر، كما اختير مقرراً للجنة علم النفس بالمجلس الأعلى للثقافة. واختير أيضا رئيساً للجمعية المصرية للدراسات النفسية، كما ترأسَ كلاً من: البرنامج الدائم لبحوث تعاطي المخدرات بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، ولجنة المستشارين العلميين بالمجلس القومي لمكافحة وعلاج الإدمان بها. كما حصل على عضوية المجلس الاستشاري الدولي للإشراف على دبلوم السلوك الإدماني بمعهد الطب النفسي بجامعة لندن، وعضوية لجنة الخبراء الدائمة لبحوث تعاطي المخدرات بمنظمة الصحة العالمية. وهذا قليل من كثير كان يستحقه مثل هذا الرجل - يرحمه الله ■