الأمازيغيـة في حُلَّة الحرف العـربي
خرج الحرف العربي من ضيق القومية والجغرافيا إلى رحابة الإنسانية والعالمية، حينما ارتبط مباشرة بالرسالة الإسلامية الخاتمة، وصار حرفاً رسمياً لحوالي ستين لغة من لغات الشعوب التي اعتنقت الإسلام، ورضيت بالقرآن الكريم كتاباً تردد آياته وسوره آناء الليل وأطراف النهار. ولعل أشهر تلك اللغاتِ اللغاتُ الإيرانية (كالفارسية والكردية والبلوتشية)، واللغات التركية (كالطاجيكية والأزبكية والتترية)، واللغات الإفريقية جنوب الصحراء (كالهوسا والفلاني والسواحلي)، علاوة على لغات أخرى كالأوردو والملايْوية، وأخرى كتبت بهذا الحرف في مرحلة تاريخية معينة، كالعثمانية والبولندية والبيلاروسية والهَرَرية والملغاشية، وقُوطية الموريسكيين المنقرضة المسماة الأعجمية أو ألخيميادو Aljamiado، وغيرها.
لم تكن الأمازيغيات (1) الممتدة في شمال إفريقيا بين واحة سيوة بمصر والجزر الخالدات في الأطلسي بدعا من أخواتها هؤلاء، حيث تزيّت منذ عصر الموحدين بزي الحرف العربي الذي سيمنحها أول فرصة في تاريخها للانتقال من لغة للتواصل الشفهي البسيط، إلى لغة للثقافة والعلم؛ إذ تذكر بعض المراجع التاريخية أن الزعيم الموحدي المهدي بن تومرت نفسه (القرن السادس الهجري) قد ألف كتابي «التوحيد» و«الإمامة» باللسانين العربي والأمازيغي؛ فنشأت منذئذ كتابات «أمازيغية اللسان، إسلامية المضمون، عربية الخط»، على حدّ تعبير
د. محمد الأوراغي، مما تحفظه رفوف كثير من خزانات الزوايا ومدارس العتيقة والخواص، ولاسيما بجهة سوس بالمغرب، وجبل نفوسة في ليبيا، وجزيرة جربة بتونس، وما تضمه مؤسسة الباحث الفرنسي أرسن رو Arsène Roux، التابعة لجامعة إيكس أونبروفانس Aix En-Provence بفرنسا؛ اشتهرت من المطبوع منها مؤلفات «الحوض في الفقه المالكي باللسان الأمازيغي» و«بحر الدموع»، وكلاهما للشيخ محمد أُوعلي أُوزال (الهوزالي) (ت 1162هـ)، وترجمة «الأمير» (مترجم الربع الأول من عبادات الشيخ الأمير المصري) لعلي بن أحمد الدرقاوي (ت 1328هـ)، وما ترجمته أسرة العلامة محمد المختار السوسي (ت1963م) إلى الشلحية السوسية من مؤلفات كثيرة، منـــــها ما ترجمه هو نفسه، كـ«الأربعون حديثا النووية»، و«الأنوار السَّنية»، وما ألفه، كـ«أمثال الشلحيين وحِكمهم نظماً ونثراً»، و«الألفاظ العربية في الشلحية»، وما نشره المستشرقان دان بوجرت Boogert وكلود برنييه - إيسترن Brenier-Estrine من مصادر وقواميس مجموعا في كتاب «كشف الرموز»، وغيرها كثير، وما لايزال منها مخطوطا أكثر، وعلى رأسه ترجمة منظومة ابن عاشر «المرشد المعين» للحسن بن إبراهيم أعروس السملالي، وترجمة «البردة» لعبدالله بن يحيى الحامدي، وترجمة «نور اليقين في سيرة سيد المرسليــــن» لعبدالله بن علي الإلِغي.
ووصل التصاهر بين هوية اللغة اللابسة ولغة الحرف الملبوس إلى تماهٍ لغوي جميل بين اللسانين العربي المحلّي والأمازيغي، نجم عنه إقراض واقتراض واسعان على كل مستويات المكونات اللغوية، صوتاً ومعجماً وتركيباً وأسلوباً، بل وإلى إبداع ضرب جديد من الشعر المزدوج الذي يجمع بين اللغتين معا في البيت الواحد، من مثل ما صنع الرسموكي (القرن الحادي عشر الهجري) في لهجة سوس الشلحية جنوب المغرب في «الأرجوزة العربية الأمازيغية» التي مطلعها:
بِسمِ الإلهِ في الكلامِ إيـزْوَارْ (أي بدايةً) وَهْو على عَونِ العبيدِ إيزْضَـارْ (أي قادرٌ)
ومثل قول عبدالحميد الصوفي (ت 2004م)، صاحب «الإكسير في تعريب مُشلح الشيخ الكبير»:
إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لا تُوذِ وَخَّ يَـانْ
أَوْ كُنْتَ مُومِنًا أَدُرْ تْغْدَرْتْ غْلَمَـانْ
(ومعناه إن كنت مسلماً فلا تؤذ أحداً، وإن كنت مؤمناً فلا تغدر حال الأمان). ومن جنسه صنيعُ امْحمد ولد أحمد يوره (ت 1925م) في مزاوجته بين العربية و«اكْلام زناقة» الذي هو صورة للهجة قبيلة صنهاجة في صحراء المغرب وموريتانيا اليوم.
وكانت لا تزال بعض الصحف والكتابات الأمازيغية تصْدر بالحرف العربي إلى عهد قريب، كـ«ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية» لجُهادي الحسين الباعمراني، سنة 2003، وكمجموعة «إِمارايْنْ» القصصية لحسن إد بلقاسم، وديوانا «مومنا» للجزائري عبدالله خلفة، و«إِفراوْنْ» للمغربي مصطفى بيرازن، والمعجم الأمازيغي لمحمد شفيق، قبل أن ينقلب عليه! غير أن الملاحظ أن عددها تراجع أخيراً بشكل كبير، بسبب ما استجد على الساحة مما سنذكره بعد قليل.
الحرف والتجسير الثقافي
ويفسر د. الأوراغي هذا الاختيار الواعي لدى أسلافنا العلماء والأدباء ومن سار على نهجهم إلى اليوم، بأنه يُبنى على تحقيق مطلب الأمن اللساني (وهو لا يقل أهمية عن الأمن السياسي أو الغذائي أو غيرهما) الذي يضمن الاستقرار لهوية القبائل المحلية ضمن الأمة العربية الإسلامية، بالإبقاء على انتمائها إلى عالم دينه هو الإسلام، ولغة ثقافته وحضارته هي العربية؛ فيكون الحرف العربي بذلك هو المفتاح الذي يشق الحجب عن الثقافة الإسلامية، سواء كانت مكتوبة بأمازيغية قبلية، أو بلهجة محلية، أو بلغة فصحى، إذ يكون هو جسر المرور في الاتجاهين معا، اتجاه ذي اللسان الأمازيغي إلى الثقافة الإسلامية، واتجاه ذي اللسان العربي إلى الثقافة الأمازيغية. وعلى النقيض من ذلك، ولغاية هدم هذا الجسر، وقطع طريقه، سلخ مصطفى كمال أتاتورك اللغة التركية عن الحرف العربي.
وعلى خطى أتاتورك، وتكريساً لعقوق الأسلاف الأولين، جنح تيار من غلاة الرافعين شعار الأمازيغية اليوم إلى المعاداة العلنية للحرف العربي، ضمن رؤية انفصالية حضارية لا تفتأ تفصح عن نفسها، رافعين شعار: «لَا لِاستعمال الحرف العربي لكتابة الأمازيغية، فإما أن نأخذ مسافة عن اللغة والثقافة العربية، وإلا فلا وجود لنا»، كما صرح بعضهم، معبراً عن رؤية متطرفة تعادي كل ما هو عربي، حضارة وتاريخا وقومية، وإن هدّم ذلك المشترك الوطني قبل العربي! (وللإنصاف فهذا الفكر يحمله كذلك عرب فرنكوفونيون كارهون للعروبة!)، وإن حاول بعضهم الآخر التعلل لسلخ الأمازيغية من حلة الحرف العربي بتعلات واهية شتى، من مثل غياب مقابل في الخط العربي لبعض الأصوات الأمازيغية، واعتماده على الحركات، وبالتالي الشكل، لتمثيل الصوائت! (وهو ما تقدّم اللساني المغربي د. محمد المدلاوي لمعالجته بتصور عملي متماسك، سماه «الحرف العربي الموسَّع لتدوين الآداب الشفهية»)، مدججين بكثير من ترهيب المخالفين لهم من عموم ومثقفي الأمازيغ أنفسهم بعبارات عدائية، وتهم جاهزة، تدور كلها حول محور الاستلاب وخيانة «الهوية»! بوساطة خطاب صحفي، مشحون بالكراهية، والانغلاق على الذات، ونزعة التفوق العرقي حدَّ الأسطرة، وادعاء الأصالة الجغرافية، وغير ذلك مما لم يشهد شمال إفريقيا له نظيرا من قبل أن يوقد الاحتلال الفرنسي ناره، عبر أولى المؤسسات العلمية التي أنشأها لهذا الغرض، كالمدرسة العليا للآداب بالجزائر (1880)، والثانوية البربرية بأزرو بالمغرب (1929)، والأكاديمية البربرية فـــــي باريس L’académie berbère (1967) وكذلك من خلال مؤسسات سياسية وثقافية وجمعيات أمازيغية تتناسل عاما بعد عام، مستغلة جو الانفتاح الذي تشهده المنطقة في الأعوام الأخيرة، لشحذ حدة ذلك الخطاب!
في استطلاع رأي شعبي أنجزه مستهل 2012م أحد أوسع المواقع الإلكترونية انتشارا ومقروئية بالمغرب، تضمن ثلاثة اختيارات لكتابة الأمازيغية، شارك فيه قرابة مائة ألف مصوّت، جاءت النتيجة كالآتي: 48 في المائة للخط العربي، و41 في المائة للتيفيناغ، و5 في المائة للخط اللاتيني، مع 6 في المائة من دون رأي. ولئن اتضح من نتيجة هذا الاستقراء عدم الإجماع على خط واحد، فإنه بالمقابل أشَّر على اختيارين اثنين: أولهما تبوُّء الحرف العربي مكانة الصدارة لدواع حضارية ووحدوية وعلمية ونفعية وواقعية ووطنية كثيرة، وثانيهما استبعاد الحرف الفرنسي استبعاداً بشبه إجماع، ليس بسبب تاريخ فرنسا الاستعماري الأسود للتفريق بين أهالي البلاد فقط، ولكن لدواع حضارية وعلمية وواقعية أخرى؛ وكلا المؤشرين يعكس بصدق ما يروج في المجتمع المغربي من أفكار واتجاهات.
هذا «الاستفتاء» الشعبي الواضح، جاء بعد تسع سنين من تصويت أعضاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية - وهو في الأصل مؤسسة استشارية لا غير – بطريقة سرية، بأغلبية 24 عضوا من أصل 32 لمصلحة «تيفيناغ»، مقابل 8 للحرف اللاتيني، ولا صوت للحرف العربي! مما يدل على بعد الشقة بين الخيارين الرسمي المعهدي والشعبي.
معركة الحرف
إن «تيفيناغ» هو الحرف الذي صُمم في مختبر الأكاديمية البربرية من قبل بعض المثقفين الجزائريين من منطقة القبائل، مستلهما الخط اللوبي أو الليبي البربري Libyco-berbère الذي اكتشفت أولى لُقاه الأثرية منذ قرن ونصف القرن بشكل محدود في المنطقة، ولم تفك رموزها (شفرتها) إلى اليوم، وتداولت قبائل الطوارق شكلا معدلا لها في فترة تاريخية ما، واستمرت بعض حروفها فلكلوريا في بعض مظاهر الزينة إلى اليوم، كوشوم الوجوه، وأشكال الحلي، وزخارف الزرابي.
والآن، وبعد 13 سنة على هذا الاختيار الفوقي لحرف تيفيناغ، تشير كل القرائن إلى أنه أصبح عبئا ثقيلا على المغرب والمغاربة، وعلى الأمازيغية نفسها، ومعرقلا لما كان يُطمح لها من شيوع ونهضة تعليمية معرفية، وكأنها ولدت به ميتة، ومهيئا – وهذا هو الأخطر – لأرضية الشقاق والانشقاق والفتنة الهوياتية التي أضحت بعض علائمها تبرز للوجود بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة؛ مما ينذر بتحويل دول المنطقة – لا قدر الله - من هوية الدولة الوطنية إلى هوية الفيدرالية الطائفية، حتى إن بعض المحللين لم يروْا في اختيار المعهد المذكور حرف تيفيناغ إلا قطعا للطريق أمام الحرف العربي، ضمن ما سماه بعض متعصبيهم تحريضا «معركة الحرف»، تماما كما اختار لها بعض متفرنسي الجزائر الحرف اللاتيني منذ مدة، وهو الحرف الذي له أنصاره في المغرب أيضا!
ختاما، تبدو شقة الانتماء والهوية واسعة بين هذه الفئة المتصدرة للمشهد الأمازيغي اليوم، وأجيال أجدادنا الأمازيغ الأصلاء قبل الاستقلال من زعماء سياسيين ومفكرين وأدباء لم ينظروا يوما إلى العربية - باعتبارها انتماء لغويا وحضاريا واسعا وليس تقوقعا سُلاليا أو عِرقيا – إلا بأنها تمثل هويتهم اللسانية التي تضمن من جهة انتماءهم إلى الحضارة العربية الإسلامية، ولا تَحول البتة بينهم وبين لغتهم الأمازيغية الأم، بما هي لغة تواصلهــــم الــــــيومي، وتراثهم الشفوي العريق، من أمثال الزعيم المقاوم الأمير محمد بن
عبدالكريم الخطابي (مولاي امْحَنْد)، والعلامة الحسن اليوسي، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أمير البيان العربي، وكذا رفيق عمره الإمام المجدد عبدالحميد بن باديس الذي كثيرا ما ذيّل كتاباته بلقب «الصنهاجي»، صاحب النشيد الخالد:
شعب الجزائر مسلـــمٌ
وإلى العروبة ينتســبْ
من قال حاد عنَ أصلهِ
أو قال مات فقد كــذَبْ
وعملاق الشعر العربي المعاصر، مفدي زكرياء، الذي صدح ذات يوم باعتزاز ثائر في ملحمته الألفية «إلياذة الجزائر»:
صمودُ الأمازيغ عبْر القـرونْ
غَزا النيِّراتِ وراعَ النجومَـا
ونحنُ الأمازيغَ نرعى الذِّمـامْ
ولا نَجحدُ الفضلَ والآصِـرَهْ
وهو الاعتزاز نفسه الذي صدح به ملايين الجزائريين وهم يرددون أناشيده الخالدة، ومنها النشيد الوطني، والنشيد الذي وضعه ذات يوم لحزب «نجم شمال إفريقيا»:
فداءُ الجزائر روحي ومالـي
ألَا في سبيلِ الحُريّـهْ
فَلْتحيا الجزائرُ مثلَ الهـلالِ
ولْتحيا فيها العربيّـهْ!
كاشفا – في إشارة ذكية للوطنيين النبهاء - أن وحدة الشعب هي سر الخذلان الذي مُنيت به فرنسا:
وَلولا التحامُ الصفوف وَقانـا
لكُــــنَّا ســــــمــــاســـــــــــــــرةً مُجــــرمينـا
والآن، وبعد ثلاث عشرة سنة من اعتماد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية حرف «تيفيناغ» لكتابة اللغة الأمازيغية في المغرب، يبدو أن الدولة مدعوة إلى مراجعة عاجلة لذاك الاختيار الشبيه بالانتحار اللغوي، في ظل الخيبات التي جنتها الأمازيغية من ورائه، إذ حصرها وحاصرها على كل الصعد التعليمية والإعلامية والإدارية والتواصلية، حتى أصبح يخشى عليها منه، بعد أن اتضح أن ذلك الاختيار لم يكن علميا ولا تربويا ولا حضاريا، لأنه لم يُطرح طرحا معرفيا، وإنما كان اختيارا أيديولوجيا منحازا إلى خارج دائرة الأمة، كما يرجى أن تستفيد دول المنطقة عميقا من الدرس المغربي ■