قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

  • القصة الأولى: «الحرب» لحسن الرموتي - الجزائر:

          يعد موضع تميز هذه القصة في موضوعها, فهي عن جندي يعود من الحرب، يستقبله أهل القرية بترحاب كبير, ثم يكتشفون بعد حديث سريع معه أنه لم تقع أي حرب، وأن خمسة من زملائه قتلوا بنيران صديقة، لتنتهي القصة بعد نزول فرقة من الجيش تطلب البطل ليشارك في حرب أخرى, فيهرب مختفيًا في الغابة. كما أن «الحرب» التي شارك فيها تبقى معلقة ومفتوحة فلا نعرف أكانت حربًا بين أهل البلد أنفسهم؟ هل هي تمرينات فقط على الحرب؟ هل هي وسيلة لمخادعة الناس البسطاء بحرب وهمية تجعلهم يشعرون بخطر يداهمهم.. إلخ؟  تعتمد بنية القصة على التمازج بين الوصف الدقيق والحوار/ الديالوج وإن اعتمد على شكل القصة الكلاسيكية من حيث البداية والعقدة والنهاية، فقد حاول المؤلف أن يطعم كل ذلك برمزية مفتوحة الدلالة.  المهم أن القاص يتحكم في قواعد السرد القصصي ويعرف خياطة حكايته وإثارة الانتباه لفكرته التي يريد تبليغها للقراء.

  • القصة الثانية: «ضاعت الورقة» لعبدالسميع بن صابر - المغرب:

          تبدو هذه القصة شائقة وممتعة من الوهلة الأولى وتقوم بشكل أساسي على الصدفة, حيث تقع للبطل حوادث عدة تدفعه من جهة إلى أخرى وفي كل جهة يضيع شيئًا ولا يبقى له في النهاية أي شيء يتمسك به إلا النقود. موضوع القصة طريف بمعنى الجدة والطرافة في الوقت نفسه, ولا يخلو أسلوب القصة من نفس شعري ومن وصف محكم وجميل, كما يعتمد على الحوار بشكل رئيسي. وبناء القصة يقوم على المصادفات التي تحدث لشخص في لحظة زمنية محددة وتنقله من مكان لمكان ثم تعيده للمكان الأول في شكل دائري, والقاص يلعب على عنصر المفاجأة التي لا نتوقعها.

  • القصة الثالثة: «حلم منتصف النهار» لعبدالزهرة علي - العراق:

          يتداخل في هذه القصة عنصران رئيسيان، هما عنصر الواقع والخيال، أو الواقع والحلم، وبينهما القصة التي يريد بطل القصة كتابتها, فهل يكتبها كما هي في الواقع الذي يعيشه أم كما تراءت له في الكابوس الذي عصف بتلك الحياة الواقعية الجميلة؟ وبالرغم من أنه لا توجد حكاية واضحة في القصة التي نقرأها مع ذلك بمتعة فأسلوب القاص يميل للوصف وتلوين العبارات التي لا تخلو من كليشيهات لغوية, غير أنها لغة صافية وتنساب بعذوبة وتنتهي بفك عقدة الحكاية, أي ينهي القاص قصته بإيجابية, منتصرًا على الكابوس الذي أفجعه وجعله يتردد في تكملة قصته تلك.

----------------------------
الحرب
حسن الرموتي - الجزائر

          وصلت العربة للقرية عند الغروب، توقف أزيز عجلاتها، العربة يجرّها بغل، والبغل يستعيد أنفاسه بعد أن قطع مسافة طويلة من الأتربة والحصى، نط الحوذي من العربة متكئًا على ظهر البغل، تمطى وسار يجر قدميه متثاقلاً بجلبابه الصوفي ونعليه المصنوعين من عجلات الشاحنات، عيناه جاحظتان وشعيرات بيضاء متناثرة على ذقنه, ابتعد قليلا وغاب خلف جدار متهدم، تبول ثم عاد مبتسمًا ينفض عن صدره غبار الطريق، تجمع الأطفال حول العربة، البغل يبدو سعيدًا وهو ينش بذيله، طلب الحوذي من طفل سطل ماء ليشرب هو والبغل. من الجهة الخلفية للعربة نزل شاب يبدو أكبر من سنه بكثير، رنا إلى الأطفال قليلاً، وجهٌ لفحته أشعة الشمس وآثار شظايا واضحة على محياه، يرتدي بذلة عسكرية قديمة، ضرب الأرض بحذائه العسكري الثقيل ثم ابتسم للأطفال، حين ظهرت أسنانه البيضاء صاح طفل وقد أطلق ساقيه للريح :

          لقد عاد عمّي عباس، لقد عاد عمي عباس من الحرب.

          لحق به الأطفال الذين تفرّقوا بين أزقة القرية الضيقة كالنمل يرددون كلام الطفل نفسه. سمعت النساء صوت الأطفال وخرجن مهرولات تفوح من ثيابهن رائحة الطعام والحنطة وقد تركن العشاء ينضج فوق نار الخشب وروث الأبقار، أما الرجال فكانوا في المسجد ينتظرون صلاة العشاء، لحق الرجال بالنساء وصوت إمام المسجد يصل من بعيد إلى آذانهم: لا تنسوا الصلاة، إن الصلاة لها ميقات معلوم.

          تجمع الكل حول العربة، كان عباس مازال واقفًا مع الحوذي يتحدثان، ويناوله شيئًا، حملق الرجال في عباس وقال أحدهم:

          ملامحه تغيرت كثيرًا، يبدو أنه ليس عباسًا الذي نعرفه.

          تقدم عباس نحو الرجل ثم همس له بسر في أذنه يبدو أنه لا يعرفه غيرهما، وضع الرجل أصبعه على فمه مشيرًا لعباس ألاّ يتكلم ثم انقض عليه وعانقه طويلا، تبعه رجال القرية، وجاء دور النساء والأطفال. الحوذي يتأمل المشهد ويبدو أنه لم يفهم شيئًا. الكلب الوحيد الحاضر أحدث حفرة في الأرض،  ثم أقعى على مؤخرته وانتصبت أذناه مستسلمًا.

          في المسجد وبعد الصلاة والعشاء قال أحد شيوخ القرية بصوت مسموع ومفعم بالرضا:

          - نحن فخورون بك أيها البطل، فخورون بانتصاركم في الحرب.

          قال عباس بنبرة حزينة وبغصّة أحس بها وحده في حلقه: من قال إننا انتصرنا؟

          أجاب شيخ وقور: سمعنا البلاغ في الراديو، وأناشيد النصر لم تتوقف.

          قال عباس:

          لم تكن هناك أصلاً حرب,

          تبادل الرجال والشيوخ النظرات ويبدو أنهم لم يفهموا شيئًا.

          صاح أحد الرجال بانفعال: إذن أين هم شبّان القرية الخمسة الآخرون؟

          قال العربي: لقد ماتوا، رأيتهم بعيني، ودفنوا بسرعة.

          قال أحد الشبان: إذن كانت هناك حرب.

          أجاب عباس منفعلاً: قيل لنا إنها حرب، نحن لم نر عدوًا.

          قال إمام المسجد هامسًا: يبدو أن مشاهد الحرب أثرت على القوى العقلية للرجل، ولم يعد عباس يميز بين النصر والهزيمة.

          قال آخر: ربما الحكومة أمرته بقول ذلك حفاظًا على أسرارها.

          وحكى عباس قائلاً: بعد رحلة شاقة داخل الشاحنات، لم نكن نر شيئًا، ساعات طويلة والشاحنات تلتهم الطريق، تلصص أحد الرفاق وقال إننا نسير فوق جسر ضيق.. وصلنا منهكين عند المساء، وزّعوا علينا بنادق قديمة، اكتشفت فيما بعد أنها لم تكن محشوّة، وأنا لم أستعمل البندقية يومًا في حياتي، وكم حلمت بواحدة وتأسفت لعدد الأرانب وأسراب القطا التي مرت من أمامي.

          قال أحد الجنود إن كان يعرف معنى الجندية - ببراءة واضحة:

          كيف نستخدمها؟

          أجاب آخر : فقط اضغط على الزناد وهو يشير للبندقية.

          تساءل آخر يبدو أنه كان متعلمًا: هل بمثل هذه الأسلحة سنحارب؟ ثم أضاف، هل نحارب من أجل قضية عادلة؟ يبدو أننا خدعنا لأمر ما ولمصالح خفية، السياسة في النهاية هي فن اللعب على الحبال، تبادل الجنود الذين كانوا معي النظرات ولم ينبس أحد ببنت شفة. بِتُّ ساهرًا، بعضنا نام نومًا متقطعًا خوفًا من العدو المتربص بنا، هذا ما قاله الضابط، الضابط أمرنا بأن نتقدم صباحًا إلى الأمام وألا نوقد النار ليلاً ، لم نعلم شيئًا عن الخطط العسكرية، قبل شروق الشمس بقليل، جاء البلاغ من مكبر الصوت:

          اهجموا، تقدموا، أطلقوا النار، أدركت أن الصوت كان مسجلاً، لم يكن هناك ضباط ولا جنرالات.. لم أسمع هدير محرّكات السيارات والشاحنات، أو أزيز الطائرات، قلت في نفسي: هل هناك حرب دون طائرات؟ كنا وحدنا نتقدم، نسير خلف دبابات قديمة نحتمي من ورائها.. علا الغبار وملأ الفضاء ولم نعد نميز شيئًا، فجأة رأيت الدبابات تقوم بنصف دورة وتطلق النار في اتجاهنا.. سقط الكثير.. شظايا أصابت وجهي، سقطت، خضبت ملابسي ورأسي بدماء القتلى وبقيت جامدًا دون حركة طوال يومين، تبولت في ملابسي وكنت أقتات على بقايا خبز يابس في سترتي العسكرية التي تفوق مقاسي قليلاً، كنت على يقين بأنها خدعة.. في اليوم الثالث جاء مكبر الصوت من جديد، لم يكن هذه المرة مسجلاً:

          لقد انتهت الحرب، لقد انتهت الحرب.. لقد فزنا، العدو استسلم وقبل بشروطنا..، أما أنا فلم أر عدوًّا أمامي، ولا أعرف عن أي شروط يتحدث.

          قمت متثاقلا أجرّ قدمي، وجهي يؤلمني، كنا قلّة، سرنا نحو الضابط الوحيد الذي كان في استقبالنا، ابتسم لنا قائلاً:

          لقد انتصرنا أيها الأبطال، الوطن يقلدكم بوسام الشجاعة... أخرج عباس من جيبه قلادة، تناوبتها الأيدي، ثم أعادتها لعباس الذي أقسم في نفسه ألا يضعها على صدره يومًا.

          قال أحد الشبان مبتسمًا: إذن الشبان الخمسة ماتوا بأسلحة صديقة كما يقولون في المذياع.

          أجاب عباس بيأس واضح:

          بل بأسلحة شقيقة.

          تبادل الرجال النظرات من جديد، لم يفهموا شيئًا.

          بعد أسبوعين توقفت وسط القرية سيارة جيب عسكرية تبحث عن عباس, هناك حرب ثانية قادمة قال الضابط، لكن عباس ابتلعته الغابة المجاورة للقرية ولم يظهر له أثر منذ أسبوع.

----------------------------
ضاعت الورقة
عبد السميع بنصابر - المغرب

          الأمطار الغزيرة تجلد سطوح المنازل، وتثقل المعاطف التي تعتمرها الأجساد المقشعرة. هل أسيل بجسدي من هنا أم من هناك؟ خطواتي تنزلق فوق الرصيف لكنني أحاول أن أضبط توازني فوقه ما استطعت. أرجو ألا تكلفني هذه الأمطار حذاء جديدا. لا بد لي أن ألملم أيضا طرفي المعطف بيدي المرتعشتين من البرد حتى لا أتكبد ثمن الدواء مرة أخرى. رأيت أن أشعل سيجارة، لكنني قلت في الآن نفسه أن رذاذ السحب سيطفئها حتما. تساءلت أيضا لم فكرت بسخافة هكذا، كبحت توارد الأفكار عندما شارفت مدخل المقهى. نفذت إلى فضائها مهرولا، لتتلقاني بدفء جوها فتنتعش أنفاسي المضطربة شيئا فشيئا. سحبت الكرسي البلاستيكي ثم اقتعدته متهالكا. على المنضدة وضعت مفكرتي. نجشت القلم من داخلها، ثم مددت فوقها الورقة البيضاء التي كانت مطوية داخل جيب معطفي في شيء من الإهمال. ثبت النظارتين أمام عيني الغائرتين. كانت عشرات القصص تمور في مخيلتي.. تتراقص.. تتزاحم.. كي تعانق بياض الورقة.. والنادل يضع الآن أمامي فنجان القهوة المعتاد بعدما مرر منديله على صفحة المنضدة في حيويته ونشاطه المألوفين. أعاد المفكرة والورقة إلى مكانيهما قائلا:

          - أستاذ.. صباح سعيد!

          اقترب منه أحد الزبائن قائلا في أدب:

          - من فضلك الورقة التي تركتها قبل قليل فوق تلك المنضدة؟

          رد النادل بازدراء وهو يضع فنجان القهوة أمامي:

          - لقد مسحت بها المنضدة عندما غادرت.

          انسحب الرجل من المقهى متذمرا. فكرت أنني سبق لي أن رأيت ذلك الزبون، لكنني لا أتذكر بالضبط متى ولا أين. أشعلت سيجارة منتشيا بدخانها ثم جرعت من الفنجان..

          - مرحبا!

          تطلعت إلى الرجل الغريب الذي وقف عند رأسي بغتة، ثم اعتدلت في جلستي رادا التحية:

          - صباح الخير!

          سألني وهو يبحلق في الورقة المبللة بندى الصباح:

          - ماذا تفعل؟

          قلت كاتما غيضي لتدخله السافر:

          - أكتب.. أكتب شعرا!

          امتدت أصابعه إلى يدي ساحبة القلم من بين أصابعي. حدق في وجهي بعتاب لبرهة كأن لي به سابق معرفة، ثم سمعته يقول شاجبا:

          - وبهذا القلم أسود اللون!؟؟

          اندفعت حروفي في حيرة:

          - أجل بهذا القلم الأسود، وأين المشكلة؟

          أشار علي قائلا:

          - لحظة!

          دس يده في جيب قميصه المكوي بدقة وعناية، وفي خفة أخرج قلما مذهبا لونه. قدمه إلي بابتسامة ذكرتني بخبرة مقدمي الوصلات الإشهارية:

          - وما رأيك في هذا؟

          وعندما لاحت له دهشتي، قرر أن يستطرد بنبرة مشجعة:

          - هيا جرب إنه من نوع نادر.. ومفعوله في الكتابة قوي، إذ سيجعلك تقلب كل قصصك رأسا على عقب. فقط جرب وستتأكد!

          أجبته متملصا:

          - لا، شكرا!

          وكأنه انتظر عبارتي قال مطمئنا:

          - أنا لا أبيع سلعة يا هذا. هي فقط هدية، فلتتفضل بقبولها مني!

          نقلت نظراتي المنبهرة بين القلم الذي تلألأ بريقه أمام مقلتي، وبين الرجل الذي يتحدث بثقة واضحة. قلت محاولا إضمار طمعي:

          - في العادة إنني لا أثق بمن لا أعرفه، ولكن مظهرك على ما يبدو - يوحي بصدق قولك، بيد أنني لا أصدر أحكاما إلا بعد التجربة. تلك فلسفتي في الحياة..

          أجابني وقد اتسعت ابتسامته:

          - وذلك ما قصدته يا عزيزي.. خذ القلم الآن!

          تناولت القلم المذهب من يده.. قلت وأنا أقلبه بين أصابعي المرتجفة:

          - حسنا!

          ثم رفعت رأسي مستطردا:

          - اتفقنا..

          استدار الرجل مودعا، تابعت خطواته بعينين مشدوهتين حتى اختفى وسط زحام الشارع.. عدت إلى نفسي وأنا أتأمل القلم في إعجاب. ألقيت نظرة على الورقة. كانت تصفر وتتآكل وتتقادم أمامي بشكل رهيب. كيف أضيع حبر هذا القلم في ورقة بالية كهاته.. إني إذن غير عادل!! رشفت من الفنجان رشفات متتالية ثم غطيته بالورقة. قمت متوجها إلى أقرب مكتبة وفي نفسي رغبة في اقتناء ورقة تليق بقيمة قلمي الجديد...

          في المكتبة، كان علي أن أنتظر الكُتُبي حتى يفرغ من تقديم كتابين إلى سيدة في عقدها الثالث تقريبا. نفحته النقود، فتقدمت لأسأله عن قائمة بأنواع الأوراق وجودتها. تأبطت السيدة الكتابين وهمت أن تخرج. وعندما تطلعت إلي استقرت نظراتها عند القلم الذي تألق في يدي. سألتني بابتسامة بهية:

          - اسمح لي أن ألقي نظرة على قلمك الجميل؟

          قلت لها وقد سبقني القلم إلى يدها:

          - بكل سرور، تفضلي!

          تلقفت القلم بحبور. قالت والابتسامة لا تزايل شفتيها:

          - ما أجمله! قل لي، من أين اقتنيت هذا القلم؟

          قلت وقد استنفرت أصابعي لاسترداده:

          - إنه هدية.. سيدتي!

          قالت متجاهلة يدي الممتدة:

          - بعه لي، أرجوك!

          قلت مراوغا ومحاولا - في الآن نفسه - نصب ألفة بيننا:

          - هل يمكن أن أطلع على كتابيك؟

          أجابتني وعيناها لا تزالان مسمرتين على القلم:

          - نعم، بالتأكيد!

          تناولت الكتابين من يدها اليسرى. كان الأول مختصا بوصفات الطبخ، والآخر للأبراج.. قلت وأنا أحاول استدراجها لتخصصي:

          - ألا تقرئين شعرا؟

          رفعت كتفيها قائلة:

          - أكتفي بالأفلام.. لا وقت لدي لقراءة الشعر.

          أحسست بالخيبة، فأعدت لها الكتابين وقد تشجعت أكثر لاسترداد القلم الذي ابتلعته راحتها..

          - القلم من فضلك!

          قالت وهي تبعده نحوها بحركة طفولية لم تخل من غنج:

          - أرجوك، بعه لي بما شئت!

          عبارتها الأخيرة جعلتني أعيد النظر في هيئتها. هل تكون منهن؟ قلت في مكر:

          - أخاف ألا تستطيعي!

          وكأنها فطنت إلى ما أفكر فيه، رفعت رأسها وقد تلاشت الابتسامة الطفولية من قسماتها فجأة، وسادت محلها ملامح الجدية:

          - كم تريد؟ سأعطيك أضعاف ثمنه إن شئت...

          فكرت أنني لن أتحمل الخروج من هذا الموقف دون نتيجة. أنا في حاجة إلى كل درهم جاد به هذا الصباح. قلت دون تخمين:

          - خمسين درهما، ماذا قلت؟

          سحبت من حقيبتها ورقة من فئة مائة درهم ثم دستها في يدي دون أن تكلف نفسها عناء النظر إلي، ثم انصرفت مسرعة. بقيت جامدا في مكاني كما التمثال. انتبهت إلى نفسي على نظرات الكتبي التي كانت تلتهمني. فكرت قليلا. لم أعد بحاجة إلى ورقة من نوع خاص. فالقلم الآن أضعته. لا، بل بعته.

          غادرت المكتبة والمائة درهم في يدي. سأشرب عصير ليمون بدل القهوة السوداء.

          دلفت إلى المقهى مسرعا. اتجهت صوب طاولتي. لم أجد الورقة التي تركتها قبل قليل فوقها. سألت النادل الذي كان يرحب بأحد الزبائن:

          - من فضلك، الورقة التي تركتها قبل قليل هنا؟

          رد وهو يضع فنجان قهوة أمام الزبون:

          - مسحت بها المنضدة عندما انصرفت!

----------------------------
حلم منتصف النهار
عبد الزهرة علي - العراق

          عندما تركت الورقة المكتوبة إلى النصف. كانت أمي ترتق ثياب إخوتي الصغار , وبجانبها سلة مليئة بالبياضات. في اللحظة التي مررت بها صوب السلم خلف ظهرها  وقفت عن سحب الإبرة. رفعت عينيها ورمقتني بنظرة استغراب. أدركت حينها تساؤلها عن سبب ذهابي إلى غرفتي مبكرا. لكني تحاشيت ذلك بتسريع خطواتي نحو السلم. خلف ظهري كان إخوتي الصغار لا يزالون يعبثون ويشاكسون أمي بلعبهم الصبيانية. وأنوار البيت مضاءة ما جعل استغراب أمي مبررا (تعودت أن أكون آخر من يصعد درجات السلم ويطفىء أضواء البيت).

          أمي التي جاوزت الأربعين، هادئة الطباع, تشغل نفسها دائما بأعمال بسيطة في المنزل على الرغم من إخوتي الصغار الذين يثيرون غضبها بين الحين والآخر.. منذ سنين طويلة وهي تقتل وقتها برتق الملابس .. حتى التي ضاقت على اجسادنا وقصرت عن أطوالنا ... كثيرا ما كنت أشاكسها لتتوقف عن عملها وتسحب الإبرة واضعة إياها في ثقب أنفها. الحركة التي تجعلني أضحك بقهقهة عالية, لقد صنعت من أنفها حمالة لابرتها بعد أن فقدت خزامتها التي تباهت بها حيثما ذهبت عندما كانت شابة جميلة.

          دخلت غرفتي, تمددت على السرير, من دون أن أضغط على زر المصباح. ضايقتني الظلمة وتسارعت الكلمات والصور تتزاحم فوق رأسي. تلك الجمل التي سطرتها على الورقة المكتوبة الى النصف..؟ هي قصة تركتها غير كاملة مع الأوراق المنثورة فوق المنضدة بعد أن داهمني الاشمئزاز والتناقض ...

          القصة تحكي حياة أسرة مطمئنة فرحة, حيث الأم بقوامها الرشيق وثوبها المزركش بالورود البنفسجية. تنشر في البيت هالة من الضياء. والطفلة الصغيرة تداعب بأصابعها اللينة دميات ثلاثا علقت في مقدمة (الحجلة) التي تدفعها باقدامها التي تشبه أصابع الحلوى على سجادة ناعمة. والأب جالس قبالتها يضع نظارة طبية على عينيه ويقرأ كتابا. وبين الحين والآخر وكلما أحس بغشاوة على عينيه إثر استمراره في القراءة يرفع نظارته ويمسح زجاجها بمنديل ورقي، يرمق ابنته الصغيرة بنظرة حب ويعطي عينيه فرصة للضوء، لتعيد نشاطها. كان البيت هادئا تغمره أشعة الشمس. هكذا يصور مطلع قصتي المنقوصة حال الأسرة ...

          أغمضت عيني وغفوت .. بعد مسافة زمنية لم أعرف طولها. أفزعني وميض فضي صارخ تلاه دوي انفجار هائل مزق أحشاء الغرفة وعصف شديد يقذف الأشياء (جص، حجارة، شراشف، زجاج نوافذ) مثل بحر هائج يتقيأ ما في بطنه..

          الدميات الثلاث المعلقات في مقدمة (الحجلة) تقطعت أوصالها. وتدحرج رأس إحداهن تحت كرسي الأب بجوار إطارات نظارته الطبية .. أشلاء المرأة تتطاير.

          والطفلة مقذوفة بين (الحجلة) والأريكة. الأب ينزف سائلا أرجوانيا على السجادة الناعمة ويده اليمنى التي تمسك الكتاب .. بعيدة عنه.! رشقة من حصى ناعم يحطم زجاج الصورة المعلقة على الجدار .. التي جمعت الأب والأم وهما يحتضنان ابنتهما الضاحكة بين ذراعيهما .. ثوب الأم المزركش بالورود البنفسجية تعلق على أذرع المروحة السقفية. ورأسها المقطوع يحافظ على ثغر مبتسم وعينين مفتوحتين. ثمة قطع من اللحم البشري التصقت على الجدار الذي فقد لونه .. زحفت إلى الزاوية الأخرى أبحلق بعيني .. لقد زحف الموت نحوي .. التصقت بالجدار خائفا مرعوبا .. لقد غطى التراب والغبار فضاء الغرفة .. كان التنفس صعبا. أخذت أختنق .. لم أستطع رفع يدي .. خارت قواي وتلاشت كل محاولات المقاومة. في لحظة تشبث بالحياة انبثقت صرخة مدوية من فمي المملوء بالتراب .. أيقظتني من ذلك الكابوس الذي نسف عائلة قصتي السعيدة نهضت من فراشي وجلست على حافة سريري متشنج الأعصاب وبعد أن مددت يدي على وجهي أجفف العرق المتصبب على خدي لم أر شيئا غير رائحة الانفجار .. عادت الكلمات المرسومة في القصة المنقوصة مرتدية ثوب ضيائها وفرحها ... وبدأت دقات قلبي تنزل إلى قاع الهدوء. وأعصابي تتراخى مع نسمة الهواء الخفيفة التي انسلت من وراء الستارة ..  تركت فراشي وذهبت إلى مكتبتي بحذر لاتفادى ايقاظ أمي التي توسدت بياضاتها على الأريكة. دخلت غرفة المكتبة. كان البيت ساكنا والجو باردا. ولم يحرك الصمت الذي ساد ارجاءه غير صوت البندول الصارخ في جوف الساعة المعلقة على الحائط أمامي. بدأ قلبي يخفق مرة أخرى. ويداي ترتجفان وأنا أمسك الورقة التي كتبت عليها قصتي المنقوصة.

          وقفت ازائها مذهولا. كيف يمكن أن أنهي سعادتها وأسترسل في ربيع كلماتها. حبست أنفاسي إذ لم أكن مهيئا لهذه الإشكالية التي وجدت نفسي أخوض في مياة بحرها العاتي .. بين الكابوس الذي داهمني ومسار قصتي. أحسست بانهيار كل شيء من حولي.

          (في الحقيقة لا أدري ما أفعل..!) كم تمنيت أن أخرج من مدينة أفكاري. وأجعل قصتي تخط دروبها بحرية تامة. ثمة شخصان يسكنان فيّ. واحد يدفعني إلى إشراقة الحب والأمان التي تكللت بها قصتي، وآخر يشدني الى الكابوس الذي داهمني دماره الذي أحبط عزيمتي. أي شيء أكتب وأية ثيمة تحويها قصتي.! بقيت حائرا بين هذا وذاك..!!

          يكاد عقرب الساعة يلتهم السادسة صباحا. وأنا لا أزال في مكتبي حائرا. رأيت الحياة مشرقة ومظلمة في آن واحد. هناك خطوط متشابكة مثل بيت العنكبوت تنسج أمام ناظري. وبما أن أفضل المراحل هي الآتية بلا شك. فإني تركت قصتي من دون أن أدون بها صورة الكابوس الذي داهمني فجأة! وبالقدر ذاته لم أستطع أن أنهيها بتصور خيالي بعيدا عن معاناتي. فثمة حد معين لا يمكن أن نفهم أين تكمن الحقيقة. طويت أوراقي ووضعتها في درج مكتبي وظلت يدي فوقها .. بقيت لحظة جالسا وراء المنضدة .. بعدها نهضت وأطفأت المصباح المتأرجح فوق رأسي من دون أن أنظر إلى الأوراق الباقية ..!

          عندما صعدت الشمس أسيجة البيوت خرجت للحديقة. قابلني شعاعها الذي غسل الأعشاب بضوء باهر. وزقزقة العصافير تعزف سيمفونية ناعمة. وزهرة عباد الشمس تدور صوب قرص الشمس. غمرتني هنيهة ابتهاج وعرفت أن الحياة لا تتوقف. أي شيء اختار.!؟

          ثمة مجرى نهر متدفق ينساب في داخلي. ويبعث الأمل (إن الطريق صعب !) يجب أن ندرك هذه الحقيقة.

          رجعت إلى مكتبتي. فتحت نوافذ الغرفة. ابتلعت الشمس كل الموجودات. وبقي ظلي منكسرا خلف الكرسي الذي جلست فيه. سحبت أوراق قصتي المندسة في الدرج وأكملتها بمداد أبيض يشبه طيور النورس السابحة في السماء.
------------------------------------
* كاتب روائي وناقد من الجزائر.

 

 

بشير مفتي*