في غبن رواية «بندر شاه» للطيّب صالح

في غبن رواية «بندر شاه» للطيّب صالح

ما زال القرّاء العرب عازفين إلى يومنا هذا عن رواية «بندر شاه»، رغم إشارة مؤلّفها الطيّب صالح إلى احتفالها بالمعاناة التي كابدها راوي «موسم الهجرة إلى الشمال»، إثر انقطاعه عن القرية وتأثّره بمصطفى سعيد. وقد دلّ – فضلاً عن ذلك - على أنّه رصد في ثناياها مسيرة ذلك الراوي نفسه بعد رجوعه إلى الجنوب بحثاً عن زمنه الضائع. ولذلك أعرب عن خيبة أمله في قرّائه و نقّاده الذين زهدوا في تلك الرواية التي اعتبرها من أهمّ أعماله السرديّة.

 

 كان لذلك التلقّي السلبيّ دخل أساسي  - وفق رأينا – في نفور الـطيّب صالح من الكتابة القصصيّة خلال الطور الأخير من أطوار حياته، رغم أنّه حظي بشهرة واسعة في العالم العربيّ والعالم الغربيّ بعد نشر رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» وترجمتها إلى لغات عدّة.
ومن أجل هذا كلّه، فإنّنا سنجوّد النظر في خصائص رواية «بندر شاه» بجزءيها الموسومين بـ «ضوء البيت» و«مريود» لنحلّل خطابها ونثبت تميّزها عن بقيّة آثارالطيّب صالح السرديّة ونقف على الجوانب التي أفضت إلى غبنها المتواصل إلى الآن.
 إنّ تعلّق أحداث رواية «بندر شاه» بأطوار حياة الراوي محيميد في قرية «ود حامد» قد فتح عالمها السرديّ على معجم المتصوّفين وكراماتهم ورؤاهم المهيمنة على فضاء تلك القرية التي أنفق بها طفولته وصباه، متنعّما بعطف جدّه وحبّ رفيقته مريم. وكانت عودته إلى «ود حامد» - قرية القباب العشر - ناطقة بأنّه يئس من الثقافة يأسا أذكى رغبته في النهل من منبع إيمان العشيرة التي سلّم أفرادها بأنّ «أصوات الحياة في ود حامد متناسقة متماسكة تجعلك تحسّ بأنّ الموت معنى آخر من معاني الحياة لا أكثر» (الطيّب صالح، ضوء البيت، بيروت، دار العودة، 1971، ص61).
غير أنّ ذهاب بعض الشخصيّات إلى أنّ ارتباط المجتمع السوداني بالغرب قد طمس قيمه الأصيلة وشوّش تناسقه، يكشف إلى جانب ذلك عن اهتمام المؤلّف بتلك المسألة التي تسرّبت إلى مجتمعه إثر اتّصاله بالغرب.
 وهكذا يتّضح لنا أنّ الراوي قد نفّذ العزم الذي أعلن عنه في خاتمة «موسم الهجرة إلى الشمال»، ثمّ رجع إلى القرية وبرّر موقفه بقوله لرفاقه: «وقتين طفح الكيل مشيت لأصحاب الشأن، قلت لهم: خلاص. مش عاوز. رافض. ادوني حقوقي. عاوز أروح لأهلي. دار جدّي وأبوي. أزرع وأحرث زي بقيّة خلق الله (...) قلت لهم عاوز أعود للماضي. أيّام كان الناس ناس والزمان زمان» (ضوء البيت، ص84-85).
وقد نجمت هذه الرغبة العارمة في العودة إلى الماضي عن حنين محيميد إلى رؤية خاصّة للعالم وعن توق إلى الحقيقة التي يمثّل أقطاب الصوفيّة مصدراً من مصادر إشعاعها. أي إنّه في نهاية المطاف حنين إلى الروحانيّات التي طمستها الماديّات في المدينة طمساً بلبل الإنسان الشرقيّ ومزّق كيانه. ولكن، بما أنّ دبيب التغيّر تسرّب إلى القرية خلال السنوات التي تغرّب فيها الراوي، فإنّ تلك الظاهرة أشعرته بالخيبة عندما رجع إليها وأثبتت له أنّ «ود حامد التي حملها في خياله كلّ هذه الأعوام وعاد الآن يبحث عنها مثل جنديّ في جيش منهزم لم يعد لها وجود» (ضوء البيت، ص 46).

أسطورة بندر شاه
 افترض المؤلّف في نصوص مصاحبة أنّ «الماضي والمستقبل في تآمر مستمرّ ضدّ الحاضر، كما أنّ الجدّ والحفيد في تآمر مستمرّ ضدّ الأب» (أحمد حرز الله، حوار مع الطيّب صالح، تونس، العمل الثقافي، 19 مارس 1973، ص8، ص17)، ثمّ حاول اختبار ذلك الافتراض في الرواية التي نحن بصددها. ومن أجل ذلك صوّر التغيّر العميق الذي طرأ على القرية تصويراً دفع محيميد في الجزء الأوّل من الرواية إلى تحميل بندر شاه مسؤوليّة كلّ تلك الأحداث. ومن ثمّ انتهى إلى أنّ صورة الجدّ مماثلة لصورة عيسى بن ضوء البيت وإلى امتزاج صورة مريود بصورة بندر شاه وأظهر بشاعة مقتل الماضي والمستقبل.
وهكذا تعقّد الخطاب الروائيّ وتداخلت الأحداث تداخلاً حجب الخيط الرابط بينها. ذلك أنّ عبارة «بندر شاه» تحيل على مسائل وشخصيّات مختلفة، وكذلك لأنّ الراوي لم يعرّف بأسطورة بندر شاه إلاّ في الجزء الثاني من الرواية، ممّا جعل فهم جزئها الأوّل متوقّفا على قراءة جزئها الثاني قراءة تأويليّة (الطيّب صالح، مريود، بيوت، دار العودة، 1978، ص 33 - 66).
ولئن تسبّبت أحلام اليقظة التي عاشتها بعض الشخصيّات في تعقيد خطاب الرواية ظاهريّا، فإنّها أنارت في مستوى العمق القضيّة الأساسيّة التي تعلّقت بها الرواية وفسّرت جلّ رموزها، فالراوي أطـلعنا على أحلام يقظته، ثمّ فسّر لنا مغزاها تفسيراً أبان عن صلاتها بالمسألة الأساسيّة التي رصدتها رواية «بندر شاه»، ودعم الافتراض الذي أثّر في تحديد برنامجها السرديّ (ضوء البيت، ص 47-56).
وبهذا تجلّى لنا أنّ الحلم الذي صوّر مقتل الجدّ والحفيد واعتقال الأبناء ليس إلاّ تمثيلاً لذلك الحاضر الذي تنافر مع ماضيه ومع مستقبله تنافرا زجّ به في تيّار الفوضى وخلخل جميع أركانه. وكانت أحلام سعيد عشا البايتات دالّة على أنّه رتّب عناصر أسطورة بندر شاه نفسها ترتيباً جديداً، نظراً إلى اختلاف موقفه من مظاهر تغيّر القرية عن مواقف رفاقه. إنّ تصالح سعيد وسيف الدين مع أبناء بكري عندما شاركا في انتخاب زعيم القرية هو الذي جعله يعتبر أنّ حاضرها متناسق مع ماضيها ومستقبلها، من دون تآمر ولا تصارع ولا سفك دماء. ولذلك اقتنع محيميد بتحقّق تلك المصالحة التي اعتبرها في شبابه ضربا من المعجزات، عندما عبّر جدهّ ورفاقه عن إعجابهم بمواقف الحفيد مريود الذي ناب عن جدّه بندر شاه في موكب عقد لإبرام إحدى الصفقات التجاريّة (ضوء البيت، ص 22-23).
 ونحن إن أمعنا النظر في حلم سعيد عشا البايتات يتبين لنا أنّ بندر شاه استحال فيه إلى ملك ثريّ بنى قصرا شبيها بالمنزل الذي بناه ضوء البيت وأقام به صحبة مريود وأحد عشر عبدا. وخلال ذلك الحلم امتزجت صورة بندر شاه بصورة محجوب، إذ سلّم بندر شاه الأمانة إلى أصحابها بعد أن ظنّ أنّه ورث الأرض ومن عليها، مثلما سلّم محجوب السلطة إلى سكّان القرية بعد أن استبدّ بها.
لذلك تخلّصت أسطورة بندر شاه في حلم سعيد من مظاهر الصراع بين الماضي والحاضر والمستقبل المؤدّية إلى انهيار المجتمع، وغابت فيها مشاهد البطش وإراقة الدماء، مؤكّدة بذلك وقوع معجزة أخرى من معجزات الشيخ الحنين. ومن ثمّ طغى الشوق على سعيد وقت الحلم واستبد به الوجد فسالت دموعه ورأى نفسه يؤذّن للصلاة بصوت شجيّ حمل جميع سكّان ود حامد – وفق ما بدا له - على التوجّه إلى الجامع، حيث تمّت المصالحة بحضور جميع الناس، ودخل الجامع من لم يدخل جامعا في حياته (ضوء البيت، ص 64- 70).

عتبات النص
ونحن إن قرأنا متن الرواية في ضوء عتباته تجلّى لنا أنّ الطيّب صالح مهّد لتلك الرواية بمثل «الرجل والتنّين في البئر» ليدلّ – من ناحية - على أنّ البطل الراوي تفطّن إلى أنّ الملذّات الماديّة هي التي جعلته «يتشاغل عن نفسه ويلهو عن شأنه»، ويبرّر من ناحية أخرى إفراطه في طرح الأسئلة على رفاق صباه وتعلّقه بفهم سلوك أقطاب الصوفية واتّباع سبيلهم بعد وفاة مريم.
 ورغم أنّ محيميد حرص على معرفة أخبار الأولياء الذين بهروا سكّان القرية بمعجزاتهم وعزم على الاستعداد للآخرة، فإنّه لم يسلك سبيلهم خلال الطور الأخير من أطوار حياته إلاّ بعد أن اهتزّ كيانه لوفاة مريم وغمرته الحسرة على فراقها ووقف على عمق إيمانها الصوفيّ. فقد استعدّت مريم للموت «كأنّها قرّرت أن ترحل فجأة» واستقبلته استقبالها للزواج (مريود، ص 80-81). وخلال لحظة الفراق أعربت لمحيميد عن الشقاء الذي خيّم على حياتها منذ أن قطع صلته بها فأذكت ندمه على مغادرة القرية وفجّرت في عينيه «الدموع التي ظلّت حبيسة كلّ تلك الأعوام» (مريود،ص 82).
 إنّ مشهد موت مريم هو الذي ذكّر محيميد بمشهدي موت بلال وحواء (مريود، ص 57-66)، وقدح بريق شعاع جعله يستعذب الموت وهو يحمل جثّة مريم بين يديه يريد أن يلحق بها. وبما أنّ تردّده خلال تلك اللّحظة قد غيّب ذلك الشعاع عن نظره، فإنّه رجاها أن تسمح له بالسير معها لمّا شاهد طيفها مرّة ثانية فأبت. وعندئذ دار بينهما حوار شاعريّ تخلّلته نفحات صوفيّة خلاّبة. ولهذا يبدو لنا أنّ خروج محيميد إلى البادية يوميّا بعد أن هدته مريم إلى سبيل الخلاص يمثّل دليلا على أنّه عزف عن العلوم التي تلقّاها بالمدينة وأعرض عن ملذّات الدنيا وبدأ يروض نفسه على اللّحاق بقافلة المتصوّفين. وقد أسفرت تلك الوجهة عن توطيد علاقاته بالطبيعة توطيداً أشعره بأنّ عصارة الحياة كلّها  توجد – فعلاً – في ود حامد (ضوء البيت، ص14).
إنّ نفور محيميد من الثقافة يترجم عن إيمانه بأنّ الأزمة التي يمرّ بها العالم العربيّ ناجمة عن أخذ العرب بالعلم البشريّ وحده، ويظهر شكّه في إمكانات العقل وقيمة ما أنتجه، ويثبت أنّ بحثه عن توازنه النفسيّ قد جمّل صورة الماضي في نظره.
غير أنّ الرواية دلّت - فضلا عن ذلك – على اختلاط السبل أمام مؤلّفها وعلى تشعّب القضيّة التي انشغل بها بإشارتها – من ناحية – إلى تفكّك وحدة القرية وتبدّد قيمها التليدة وإفصاحها من ناحية أخرى عن فزع بعض الشخصيّات من المستقبل وتفاؤل بعضها الآخر بتعاضد الأجداد والأحفاد على صيانة الحاضر.
ومن هنا شفّ عالم «بندر شاه» الروائيّ عن الوضع الحضاريّ الراهن بالجنوب وتجذّر في فضاء القرية وانفتح على معجم المتصوّفين واحتفل بمعتقدات أهل الجنوب احتفالا أثبت ميل الطيّب صالح إلى الانخراط بتلك الرواية في موجة تأصيل الرواية العربيّة. وقد ساهم تلوّن تقنيّات «بندر شاه» بألوان الحكي الشعبيّ القائم على المشافهة في إظهار قسماتها الدالّة على إمعان المؤلّف في رصد واقع الجنوب، بعد أن وقف على واقع الغرب في «موسم الهجرة إلى الشمال».
  وقد أدّى كلّ ذلك إلى تلوّن رواية «بندر شاه» بلون محلّيّ أثبت تميّزها عن الروايات السائدة في الأدب العربيّ والأدب الغربيّ، ودلّ على أنّ المسلك الذي اتّبعه الطيّب صالح لينخرط بها في موجة تأصيل الرواية العربيّة قد عقّد خطابها تعقيدا نفّر منها جلّ النقّاد وحمل القرّاء على العزوف عنها وغبنها غبناً كاد يطمس أوجه ثرائها المتعدّدة ■