الأصول العربية لما بعد الحداثة
«إنها اللغة التي تتحدث وليس المؤلف».
هكذا أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت في مقال مدوٍ نشره عام 1967 أعلن فيه أيضاً: «نحن لن نعرف أبداً (من يتكلم في النص)، لأن الكتابة هي تدمير لكل صوت ولكل نقطة أصل. فالكتابة هي المكان المحايد الذي تضيع فيه ذواتنا وهويتنا، بدءاً بهوية الجسد الذي يكتب».
«النقد (الذي نرفضه هو ذلك الذي يختزل النص في مؤلفه) فيختزل عمل بودلير الفنان في فشل بودلير الإنسان، و(يرى في) عمل فان جوخ نتيجة لجنونه... ويتم (في هذا النقد المرفوض من بارت) تفسير أي عمل من خلال الرجل أو المرأة التي أنتجت هذا العمل، كما لو كان العمل دائما صوت شخص فرد، هو المؤلف».
كما أعلن بارت أن «النقد الذي نقبله – كتفكيكيين - هو ذلك الذي يجعل اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف, وهذا هو رأي الشاعر مالارميه، كما هو رأي الشاعر بول فاليري الذي سخر من فكرة المؤلف، وقال إن أي تفسير للعمل الفني من خلال اللجوء إلى الجوانب الداخلية للكاتب هو مجرد خرافة».
«أن تعطي النص مؤلفاً معناه فرض حد وقيد على هذا النص وإغلاق الكتابة».
«من الضروري الإطاحة بأسطورة المؤلف... لأن ميلاد القارئ لابد أن يأتي على حساب موت المؤلف».
وتزامن نشر مقالة بارت هذه مع نشر دريدا كتبه الثلاثة الشهيرة: «الكتابة والاختلاف» و«في الجراماتولوجيا» و«الصوت والظاهرة». وكان ميشيل فوكو قد نشر كتابه «الكلمات والأشياء» في عام 1966، وبهذا أصبحت الساحة الفرنسية في عام 1967 حافلة بالأطروحات ما بعد البنيوية الجذرية.
ولنا أن نتصور مقدار الدهشة والمعارك والاستقطابات التي سببها نشر كل هذه الأفكار التفكيكية في عام 1967، من مثل أفكار: «موت المؤلف» - «التناص» - «اعتباطية العلامة»، لكونها أفكار تضاد ما اعتاده أغلب التقليديين. وربما كانت هذه الكتابات سبباً في بلورة وعي اجتماعي جديد في الشارع الفرنسي قبيل مايو 1968، لأنها أعادت تركيز الانتباه إلى أهمية «الكلية البنيوية» الاجتماعية، بدلا من الأيديولوجية الليبرالية التي اعتادت الإيهام بمركزية الفرد المفتخر بذاتيته المتفردة، الذي يظن نفسه قادراً على تحدي الكلية البنيوية للنظام، بل وعلى تغييرها بشكل جذري من خلال بضعة أفعال فردية.
ويصف الزواوي بغورة هذا الأمر في كتاب «مفهوم الخطاب لدى فوكو»، حيث يقول: «فوكو يقول بالأسبقية الوجودية للغة على الإنسان (وبأسبقية النظام على الذات)... كما أن تحليل الخطاب لا يحتاج إلى مرجعية الذات أو المؤلف، بل ينفي كلية مفهوم الذات المؤلفة ليحيلها إلى موقع داخل شبكة الخطابات المختلفة، وهكذا يتضح أن مفهوم الإنسان قد اختفى من تحليلات فوكو».
ولهذا نشبت المعارك بين ما بعد البنيويين ومعارضيهم التقليديين، منها معارك أفادت الفكر - مثل معاركهم مع سارتر – ومعارك أخرى غير مفيدة للفكر، مثل معركة بارت مع الناقد التقليدي ريمون بيكار. وغالباً ما كانت نتائج هذه المعارك في مصلحة التفكيكيين، وفي غير مصلحة التقليديين.
وقد شهد السياق العربي أيضاً معارك مماثلة. فها هو الناقد السعودي عبدالله الغذامي يصف تعرضه لنمط غير مفيد من هذه المعارك، فيقول في تقديمه لترجمة منذر عياشي، لكتاب بارت «نقد وحقيقة»: «ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه ما حدث لبارت بما يحدث لنا وما قد حدث من قبل لسلفنا المجيد أبي تمام، وسيظل الجديد مادة لأضراس المحنطين يقضمون من أطرافه ويتغذون على مرارة عجزهم وقصورهم عن بلوغه، فيلجأون للشتيمة كما فعل ريمون بيكار ضد رولان بارت... ومن الممكن تغيير اسم بيكار بأي اسم آخر في ساحتنا العربية، مع الإبقاء على جدول الشتائم وسوف تظل النسبة والمقولة صحيحتين».
يبدو أن نمط التلقي السائد لدى بعض النقاد العرب التقليديين في استقبالهم للأفكار الجديدة هو الخوف والاستهجان، حيث يسارع النقاد العرب التقليديون إلى التحزب في معسكر الرفض والمعاندة وصم الآذان في وضعية دفاعية عجيبة لا يفسرها سوى الخوف والاستهجان البعيدين عن الموضوعية. وهنا لابد أن نعيد طرح السؤال عن ثنائيات القديم والجديد، والعربي والأجنبي، والداخل والخارج، والأصيل والدخيل، حيث يبدو أن جزءاً مهماً من الخوف والرفض والنفور لدى النقاد التقليديين إنما يرتكز على تصورهم الانتقادي لمصدر الانتساب الهوياتي لهذه الأفكار «الأجنبية»، وليس على مناقشة نقدية لموضوعاتها ومسوغاتها الداخلية.
فلو تمت عملية التلقي والاستقبال والاستيعاب للأفكار ما بعد البنيوية، دون خوف أو شعور بوجود تهديد موهوم على الهوية، لوجدنا أنها تدور ببساطة حول صعوبة تحديد صوت المؤلف «الفرد»، لكون هذا الصوت يذوب داخل أصوات عدة متداخلة معاً، بطريقة يصعب معها فصل «صوت مفرد» منها، ثم نسبته وحده إلى مؤلف شخصي محدد، لأن في ذلك تفسيخاً تاماً للنص الأدبي، الذي يقوم تحديداً على تعددية الأصوات المكونة له، حيث إن أدبية النص الأدبي تكمن بالتحديد في تعددية الأصوات داخله. وهذه فكرة مقبولة ومعهودة في مجال الأدب، سواء الغربي أو العربي أو حتى الشرقي الروسي، كما بلورها الناقد الروسي ميخائيل باختين.
صحيح أن هناك بعض المبالغة في صوغ الأفكار ما بعد البنيوية – كما يتبدى في حدة وراديكالية تعبير «موت المؤلف» - إلا أن ذلك يعود إلى سياق فترة الغليان الفرنسي في نهاية ستينيات القرن الماضي، وإلى فلسفة بارت الشخصية التي ترى أنه: «لا سيميولوجيا من غير تحطيم سيميولوجي»، وهي أمر لا يخص المتلقي العربي بالضرورة.
المؤلف في النقد الغربي
تأتي فكرة «موت المؤلف» لدى بارت باعتبارها رداً حاسماً واستفزازياً، ضد توجهين أدبيين فرنسيين، هما: التوجه السارتري الالتزامي؛ والتوجه الأكاديمي لـ «السوربون».
يمثل «السوربون» النقاد التقليديون أمثال ريمون بيكارد، الذين أوغلوا في تركيز النقد على درس السيرة الذاتية للمؤلف، باعتبارها الأساس في تفسير نصوصه الأدبية، فاقتصروا على ممارسة «النقد النفسي» حيث: «فعل الكتابة هو سلوك». لذا اعتبروا أن «الإبداع الأدبي» هو حصيلة سبب سيكولوجي ويحتوي على مضمون «ظاهر» ومضمون «مستتر»، كالحلم تماما (بمفهوم فرويد له): «إنه إضفاء للحياة النفسية للمؤلف ولدوافع غالبا ما تكون بعيدة عن أن يعيها المؤلف حين يكتب، حيث إن أفكار الفرد ومشاعره والأعمال التي يقوم بها في فترة ما ترتبط حصراً، بتاريخ دوافعه الشخصية».
بينما تمثل التوجه السارتري في مفهوم الالتزام الذي قدمه سارتر في كتابه الشهير «ما الأدب؟»، حيث قال: «يتعلق الأمر عند الكتَّاب البارعين بمعرفة عن أي شيء تريد الكتابة، ثم تقرر كيف ستكتبه (لتؤثر في الناس)». فقد اعترض بارت ومن بعده البنيويون على هذا التوصيف لعملية الكتابة والتأليف، لكونه توصيفاً ميكانيكياً، بل ويحمل تحريضاً للمؤلف على أن يتحول إلى آلة كاتبة تجتر أيديولوجية محددة لتوزعها على الجماهير.
رفض التفكيكيون المبالغة في تضخيم دور المؤلف، كما ظهر لدى سارتر ولدى النقاد التقليديين في «السوربون». وكانت رؤية بارت – على حد تعبير بونوا دوني في كتابه «الأدب والالتزام من باسكال إلى سارتر» - هي «أن ليس للأدب يقينيات يقدمها، وإنما هو يتوفَّر على أسئلة يطرحها».
كذلك لابد من الإشارة إلى أن مفهوم المؤلف يرتبط في الفكر الغربي تماماً بمفهوم السلطة Authority في رسمه، فهو Author. لذا فإن القول بموته ومعارضته في الغرب يحيل إلى مدلولات مختلفة كثيراً عما لنفس هذا المفهوم في الثقافة العربية، حيث المفهوم العربي مشتق من تصور مختلف، لا يرتبط بالسلطة، بل يرتبط بممارسة التأليف والتجميع والتصنيف، وهو ما يفتح مفهوم المؤلف العربي على مفهوم التناص بشكل أكثر تلقائية مما في الثقافة الغربية. فهناك تقاربات وتباعدات، ينبغي فهمها، من دون استهجان أو تجريم.
والمطلوب هو ممارسة النقد الواعي للأفكار، لا الانتقاد التجريمي لشخصيات مؤلفي الأفكار. لكن بعض ما يتم في سياقنا العربي النقدي، يستند إلى ممارسة التخويف والتخوين لشخصيات المؤلفين، وابتزازهم بـ «الانبهار بالغرب» - وكأن «الانبهار» والاندهاش من الجرائم التي يحاكم عليها القانون.
موت الفرد في معارك الهوية
الطريف أننا في المعارك بين القديم التقليدي العربي والجديد التفكيكي الغربي، نجد أنفسنا أمام نمطين من الأصوات الجماعية: أصوات رجعية تدافع عن سيادة القديم، في مقابل أصوات تقدمية تدافع عن حق الانبهار والحوار مع الجديد. وخصيصة هذين النمطين من الأصوات هي أنهما سرعان ما يستقطبان أصواتاً فردية تذوب في كتلة جماعية تعمل على تشكيل خطاب موجود بالفعل ومستخدم، يدور حول تأصيل الخلافات بإرجاعها إلى التناص مع أشكال الصراعات الثنائية بين الخير المقدس والشر المدنس، بين نحن وهم، والأصيل والدخيل والحق والباطل، وكيف أن «هم» بهويتهم الشيطانية المدنسة يستحقون العقاب من الـ«نحن» بهويتها الخيرية المقدسة... وهكذا من مثل هذه الخطابات التي لا يتغير فيها سوى تفصيلات داخلية بسيطة، بينما يتم الإبقاء على الاستراتيجيات الخطابية المعهودة نفسها من دون تغيير.
في هذه المعارك، يموت المؤلف حقاً، لأن الأصوات والخطابات تعمل على تذويب ذوات وفرديات المؤلفين بداخلها وتحويلهم إلى جنود لا يتمايزون إلا وفق المناصب العسكرية، بهدف تحقيق حشد عسكري قادر على سحق الآخر المخالف للذات المتضخمة حائزة الهوية المقدسة.
الطريف هنا أن هذا التذويب للذوات الفردية في أصوات وخطابات وهويات جماعية مدمجة هو بالضبط ما يقصده بارت وفوكو والتفكيكيون في قولهم بموت المؤلف. ففي هكذا معارك – وفق فوكو تحديدا – نجد أن الخطابات والأصوات والنصوص الجماعية هي التي تشكل الذوات وتضبـط ممارساتها الفردية، وليست الذوات الفردية هي التي تنتج الخطابات والأصوات والنصوص وتشكلها. وهذا بالضبط هو المعادل الواقعي لمفهوم موت المؤلف. فموت المؤلف يعني أن صوته «الفردي» يذوب في أصوات المؤلفين في ثقافته، فهو يكتب بلغتهم ويتبنى حججهم وأفكارهم نفسها من دون تجديد، بل وهو يتبنى كذلك النصوص السابقة عليه – في شكل اقتباسات واستشهادات وشعارات. وهذا ما يسميه بارت وفوكو وكريستيفا والتفكيكيون بظاهرة «التناص». ففي التناص تتحاور النصوص وتغيب الذوات الفردية للمؤلفين، حيث تتشكل أصوات أو «خطابات» جماعية تعلو على التمايزات الفردية لكل مؤلف. ولا يتفلت من التناص إلا استثناءات نادرة جداً.
وبالطبع يحضر صوت المؤلف داخل النص، لكن حضوره يكون بمنزلة منظم لحركة مرور النصوص والأفكار المتناصة. بالضبط كما نفعل في مقالنا الحالي. فبارت نفسه يقول إن ما يكتبه يعد «مجرد تلخيص لكل ما يتطور حوله».
وهذا يتفق مع ما يورده عبدالعزيز حمودة في كتابه «المرايا المحدبة»، عن طريقة تناص النصوص، حيث يقول على لسان فنسنت ليتش:
«النص ليس شيئاً موحداً أو مستقلاً، لكنه مجموعة من العلاقات مع نصوص أخرى. إن نظامه اللغوي، ونحوه، ومعجمه تجر معها شذرات – آثاراً من التاريخ، بحيث يشبه النص مركز توزيع لجيش خلاص ثقافي، يضم مجموعات لا يمكن تفسيرها من الأفكار والعقائد المتنافرة. إن شجرة النص هي بالضرورة شبكة غير مكتملة من مقتطفات واعية وغير واعية مستعارة... كل نص هو بين نص intertext». ذلك «أن النص هو نسيج من الاقتباسات المأخوذة من نصوص أخرى عديدة» كما يقول بارت هذه وجهة نظر التفكيكية حول المؤلف وحول التناص. وهي وجهة نظر تستدعي المناقشة والحوار، ولكنها لا تستدعي المحاكمة والتجريم والرفض والإدانة وإعلان الحرب.
الأصول العربية
ولنا أن نندهش من اندهاش المتلقي العربي لمثل هذه المقولات التفكيكية، وبخاصة حين يحسب أن هذه المقولات قد أتت بجديد أجنبي ينبغي معاندته ومعارضته بتأكيد اختلافه عن القديم العربي. بينما الحقيقة هي أن ثقافتنا العربية كانت سباقة إلى إيراد مشابهات عبقرية لهذه الأفكار الجذرية التفكيكية نفسها – سواء عن موت المؤلف أو عن ظاهرة التناص. كما في الأمثلة التالية:
فيمكننا أن نجد في تراثنا العربي مشابهات لفكرة موت المؤلف أو غيابه، فالمطالع للكتاب التراثي العربي الأشهر «خزانة الأدب وغاية الأرب»، لابن حجة الحموي، المتوفى 837 هجرية، يجده يأتي على ذكر كثير مما أصبحنا نسميه حالياً «أنماط التناص»، فهو يقول في باب ذكر الإيداع: «والإيداع الذي نحن بصدده: هو أن يودع الناظم شعره بيتاً من شعر غيره، أو نصف بيت أو ربع بيت، بعد أن يوطئ له توطئة تناسبه بروابط متلائمة، بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له. وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول».
وفي هذا النص المهم، لا يقتصر ابن حجة على ذكر التناص فقط، بل يشير أيضاً إلى أن أفضل التناص = الإيداع، هو ذلك الذي يلجأ إلى «ألعاب المعنى» من خلال «الانصراف عن معنى غرض الناظم الأول»، وهذا قريب جداً مما يقصده بارت وفوكو ودريدا وجوليا كريستيفا، ويندهش منه كثير من نقادنا العرب المعاصرين، وكأنهم لم يصادفوا مثله في تراثنا القديم.
بل إننا لو استكملنا قراءة نص ابن حجة لتأكدنا من أنه يتحرى التحريض على ممارسة «ألعاب المعنى»، حيث يقول:
«ويجوز عكس البيت المضمن، بأن يجعل عجزه صدراً أو صدره عجزاً، وقد تحذف صدور قصيدة بكاملها وينظم لها المودع صدوراً، لغرض اختاره وبالعكس. وقد تقدم وتقرر أن الأحسن، في هذا الباب، أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول، ويجوز تضمين البيتين، بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى، كما حكي أن «الحيص بيص» قتل جرو كلب وهو سكران، فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير، فإذا فيها مكتوب:
يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى... بخزية ألبسته العار في البلد» (جزء 2 صفحة 311).
وواضح أن نص ابن حجة هذا يتناص بشكل باهر مع أفكار ونصوص بارت ودريدا وكريستيفا.
كذلك، ففي فكرة التناص، لا نجد أجمل مما قاله كعب بن زهير بن أبي سلمى، قبل عام 660 ميلادية تقريباً:
«ما أرانا نقول إلا مُعاراً... أو معاداً من لفظنا مكروراً»، وكأنه كان يؤسس لأفكار جوليا كريستيفا ودريدا وبارت حول التناص.
ويمكن أن نضيف هنا رأي الناقد الجزائري عبدالملك مرتاض، في كتابه «الكتابة من موقع العدم»، أن «التناص» قد عرفه العرب قديماً، وبخاصة في مسألة «السرقات الأدبية»، حيث يقول مرتاض: «نتكلف ونغالي ونعتدل ونتماسك، فلا نجد معنى مصطلح «التناص» يكاد يخرج عن معنى مصطلح «السرقات الأدبية» الذي كان النقاد العرب لاكوه فأكثروا فيه الخوض حتى بالغوا وانتهوا ضمنياً إلى أنه لا أحد من المبدعين بقادر من الوجهة النظرية على أن يزعم للناس أن ما أتى به شيء من الكتابة جديد... لكن لا أحد، مقابل ذلك، يقدر على اتهامه بأنه مجرد سارق للألفاظ والأفكار».
كما يكتشف د. مرتاض في مقدمة ابن خلدون، باب (في صناعة الشعر ووجه تعلمه)، ص 1105 نصا يصفه بأنه: «نص خلدوني عجيب يندرج ضمن نظرية التناص المبكرة عند العرب»، اشترط فيه ابن خلدون على من يريد تعلُّم الشعر: «الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها. ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال، يقبل النظم. وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال: إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها، فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة. فلقد انتهى ابن خلدون إلى أنه على الأديب أن يقرأ كثيراً ويحفظ كثيرا ثم ينسى ذلك ويتناساه ليستقر في لاوعيه، فيغترف منه لدى الكتابة. فيظن أنه جاء بالجديد.. بينما هو لا يعدو كونه صورة لمقروءاته ومحفوظاته... أليس هذا هو التناص؟ أليس هذا هو حوار النصوص السابقة مجسدة في النص الحاضر المكتوب، فيما يزعم الحداثيون الغربيون على الأقل؟».
ونجد الجاحظ يستبق الأفكار التفكيكية بخصوص «موت المؤلف»، وتحديداً الإشكالية الدريدية الشهيرة عن «مركزية الصوت على الكتابة»، حيث يقول الجاحظ في كتابه «الحيوان» (ص 85): «والكتاب قد يفضل صاحبه، ويتقدم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه بأمور: منها أن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر على كل لسان، ويوجد مع كل زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب».
كما يمكن أن يستبق الجاحظ واحدة من أكثر الأفكار التفكيكية خطورة، وهي مسألة الفصل بين الألفاظ والمعاني وألعاب اللغة، في القول المنسوب له: «الشأن في المعاني، أما الألفاظ فهي ملقاة على قارعة الطريق». وهي الفكرة التي عارضها سيد قطب، في كتابه «التصوير الفني في القرآن» فكرة الجاحظ تلك، حيث قال: «ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول اللفظ والمعنى - وقد استغرقت من النقاد العرب ما استغرقت منذ أن أثارها الجاحظ، فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق؛ ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة، وأبوهلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين..» (ص 240).
يتضح هنا أن سيد قطب يعتبر قول الجاحظ من «المباحث العقيمة». وذلك رغم أن هذه «المباحث العقيمة» هي نفسها التي عادت بامتداداتها ليتوقف أمامها الفكر العالمي المعاصر بالتأمل والاندهاش والانبهار.
ضرورة التجريب
ربما كان ما ينقصنا هو التوقف عن نسب الأفكار لشخصيات مؤلفيها، ولو عنى ذلك أن نعمل بشكل مؤقت بفكرة موت المؤلف، حتى نمنح هذه الأفكار الوقت الكافي للتجريب والفهم والتناص، دون خوف ودون شعور بالتهديد. فهذا هو بالضبط فحوى ما يسمح به المجال الأدبي، وويل لنا لو كان أدبنا لا يسمح بالتجريب. ونذكر في هذا السياق أنه حتى قبل ظهور مقال «موت المؤلف» بأكثر من ربع قرن، وتحديداً في عام 1925 كتب لويجي بيراندلو مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، حيث جرب فيها فكرة «غياب المؤلف»، وترك الشخصيات ترتجل من دون مؤلف، وهي الفكرة التي يعدها كثير من النقاد دشنت المسرح الحديث، لكنها احتاجت إلى وقت ليستقبلها الجمهور بشكل إيجابي. ومن المبهج أننا بعد مرور ما يقرب من قرن على مسرحية بيراندللو، نجد تناصاً وتجريباً في محاولات روائية أخرى تشتغل على فكرة «موت المؤلف» بتنويعات جديدة، كما لدى الروائي المصري إبراهيم فرغلي سواء في رواية «أبناء الجبلاوي» التي تدور حول ظهور شخصيات روايات نجيب محفوظ بعد وفاته، لتطالب باحترام أعماله؛ أو في روايته التالية «معبد أنامل الحرير»، التي جرب فيها فكرة موت المؤلف بشكل أوسع، حين بدأها بأن جعل «النص المكتوب» نفسه شخصية روائية تبحث عن مؤلفها الغائب.
مثل هذه المحاولات في التناص مع فكرة «موت المؤلف» تشهد بأن مجال الأدب يتشوق لتجريب المفاهيم والأفكار الجديدة، من دون خوف أو استهجان.
إن التعامل مع الأفكار الأدبية بالحجة المكرورة: «هي أفكار مرفوضة لأنها أجنبية عن الثقافة العربية»، تعطل التجريب والتناص الأدبي، وهي أمور تقتل روح المؤلف واقعياً، مهما زعمت أنها ترفض فكرة موت المؤلف المجازية.
بل لقد صار واضحاً أن هذه الحجة المكرورة غير دقيقة بالمرة، بل وتدل على أن أصحابها إنما يقتبسون ويتناصون مع حجج ونصوص رفضية سابقة، من دون أن يجشموا أنفسهم عناء تدقيق ما يقتبسونه ويتناصون معه، ليصبحوا بتناصهم هذا في حد ذاته أحد الأدلة التي تؤيد أفكار التفكيكيين حول موت المؤلف، حيث تحولوا إلى مجرد «نسَّاخ» scriptor لنصوص سابقة عليهم، من دون أن يعوا ما يتناصون معه ■