فتنٌ ومِحَنٌ بأي حال عدت يا عيد؟

انتهى رمضان وعيد الفطر يتبعه، نُوُدِعُهُ أمانينا ونوَدِّعُه، والقلب غربة الأحباب لا شكّ توجعه، ما عاد دعاءٌ بظهر الغيب للأخِ ينفعه، ولا عاد النواح على شهيدٍ تحت التراب يرفعه. يصوم مأسور الرأي في فلسطين بعد أن صُمّت آذان العالمين فما عادت تسمعه، ولم يأمن أهل الشام من جوع أو خوف، فافترشوا الأرض والتحفوا السماء، وكُلٌّ قُضّ مضجعه، ومِثْلهم أهل العراق، شعب تفرّق أشتاتاً، نسأل الله أن يجمعه، واليمن السعيد يبكي حزناً، بعد أن صار الأخ للأخ يعاديه فيصرعه، وشعب ليبيا المقدام ثار على الظلم بركانا، فما هدأت حمم النيران ولا هي تخضعه، ومصر أرض السلام وموضعه، تكالبت عليها قوى الطغيان والظلام، فكان نور الحق والمجد فيها مطلعه.
لن تعطش أرض مصر، فالنيل نيل مصر وأهلها هم منبعه، ستعود تونس خضراء، بيضاء المساكن والقلوب، ونور العلم منها مسطعه، وستقوم الجزائر شامخة، لا ضغينة بين شعبها ولا همّ يروعه.
اللهم يا ربّ العالمين أغث شعب الصومال من عطش وجوع، فبفضلٍ منك تسقيه وتشبعه. هذا دعاؤنا لله وتلك أمانينا، بأن تجتمع الأمة العربية على الخير والمحبة، فمن يزرع الحُب يجني السلام من مرتعه.
الكويت رمز للمحبة
زرعت الكويت الحب في أهلها، فنثروه غرساً بين شعوب العالم، تلك الشعوب التي أحبت الكويت، فحزنت عليها عندما اجتاحتها جحافل العدوان والغزو الغاشم، وفرحت بالتحرير يوم تجمعت قوى العالم لدحض المعتدي الآثم الذي نال ما يستحق. تَعَلّمَ شعب الكويت من قائده، أمير الدبلوماسية، أن المخطئ معذور والمصيب مأجور مشكور، ولا يعني ذلك التغاضي عن الإساءة إلى الدولة وسيادتها وشعبها، فستبقى سياسة التسامح من أجل السلام المبدأ الأساسي ومنهج الكويت في التعامل مع الآخر.
صارت الكويت رمزاً للمحبة والسلام، فأميرها قائد الإنسانية وشعبها مثال يحتذى بين شعوب العالم، يمد يد العون للمنكوبين والمحتاجين والمرضى والمشردين. بذلك شهدت الأمم المتحدة، فاختارتها ذ بشبه إجماع ذ لتكون من أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين في هيئة الأمم المتحدة.
ومهما يكن موقف الآخرين من عدم التصويت لمصلحة عضوية الكويت في مجلس أمن الأمم المتحدة، فإنّ الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية. وعندما تبرز الخلافات وتتصعد الأزمات وتتصدع المعاهدات، تجد للكويت دوراً في فضّ تلك الخلافات وحل الأزمات ورأب التصدعات، وتكون دائماً وسيط خير بين المتنازعين. وكما اصطلحت الكويت مع شقيقاتها من الدول العربية التي كانت لم تستنكر الغزو العراقي للكويت، فأصلحت ذات البَيْن وأعادت علاقاتها الأخوية مع تلك الدول، وعفا الله عما سلف. ولم تكتف بذلك فقط، بل ساهمت في دعم مشاريع حيوية وتنموية وإنسانية وإقامة جسور من المودة والترابط. حتى نراها تحتضن في دارها التفاوض السلمي بين المتخاصمين اليمنيين الأشقاء بأمل الوصول إلى حل يرضي الطرفين، لعل وعسى أن يجدوا لهم من خلافهم مخرجاً. وأذكر أنّ كلا الطرفين المتنازعين قد زار مقر مجلة العربي، كل فريق على حِدَة، وأجرى حواراً ورئيس التحرير حول مفاهيم العروبة والوطنية والولاء أظلته روح المحبة والود والإخاء.
تصدع وتشتت وفقر
لا يغيب الشك في أن أيادي الشر والفتن ما فتئت تعبث بأمن الوطن العربي كلّه، ولانزال - نحن العرب - نؤمن بضعف قدراتنا على إصلاح ذاتنا بقدر إصلاح ذات البَيْن، فعلى الرغم من الإمكانات المادية والاستراتيجية التي تحظى بها الدول العربية، فإنك تعجب من أن ترى التصدع في ليبيا والتشتت في سورية والفقر في العراق واليمن والجوع في الصومال، ولاتزال يد الإرهاب تعبث، وتبعث في قلوب الآمنين الخوف والرعب.
ليس بجديد على العرب والمسلمين هذه المحن والفتن، فمنذ بدء الإسلام، وتحديداً بعد الفتنة الكبرى، عانت الأمة أزمات عصفت بها، وثورات أطاحت دولها، بدءاً بالخوارج مروراً بالقرامطة والحشاشين، إلى ظهور تنظيم القاعدة ووليده الأحمق اداعشب، وهم من صدق عليهم قول الله تعالى: {الذِينَ ضَلَّ سَعْيهم في الحَياةِ الدُنْيا وَهُم يَحْسَبُون أنَّهُم يُحْسِنون صُنْعا} (سورة الكهف - 104).
فكل منهم ليس دعوة حقّ، بل دعاية إلى باطل، دعاية تعتمد أساساً على الكذب والفساد والدمار، دعاية تحريضية ضد الأنظمة العامة والقوانين، للفت الانتباه واستغلال الأغرار من الصبية والسفهاء من العامة في الوصول إلى مآربهم التخريبية. ستسقط الأقنعة قريباً، فتعرف كل الدنيا من هم وراء الإرهاب، وستقطع أيادي العبث بأمن الآمنين، وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.
إنّ الإنسان عدو ما يجهل، والجهل مَرَضُ للعقل، والمعرفة أساس الحكمة. ولا تتأتى المعرفة إلا بالتفكير أو التأثير، وأصل الفكرة في العقل كلمة وصورة، فلكل صورة كلمة ولكل كلمة صورة، فإذا أخطأ العقل بتركيب الصورة الخطأ على الكلمة الصحيحة أو عكس ذلك، كانت النتيجة هي الشطط والزلل.
تلك هي الزاوية الضيقة التي يلجأ الإرهابيون إلى استغلالها وحمل المنتمين الجدد إليهم للاقتناع بعوارهم. لذلك، كان على العاقل أن يقرأ ويكتب لتحصيل أكبر قدر من مفردات اللغة، التي لا شك سوف تساعده في عملية التفكير، ومن ثم ينمي بذلك ذكاءه. وعلى الشاكلة نفسها يجمع العقل في الذاكرة الصور، ليستدل بها على الكلمة، فإن غابت الكلمة استدعى من ذاكرته صورتها، صورة الكلمة بحروفها أو معناها. وكلما زادت أو كَثُرت المفردات وصورها في الذاكرة زاد معدّل ذكاء الإنسان، وهذا ينطبق أيضاً بقدرته على الإحاطة بمفردات لغة أخرى غير التي يعرفها.
أما المعرفة، التي هي عن طريق التأثير، فهي نتيجة المحيط المجتمعي الذي يبدأ من الوالدين وينتهي بالصحبة. وبناء على ذلك يتأكد لنا أنّ كل المعارف تأتي عن طريقيْ النقل والعقل. أما النقل فنأخذه ممَن هم قبلنا ومن الكُتُب التي تخصص أصحابها بالبحث في العلوم، ولا يتأتى لنا ذلك إلا من خلال التلقي المباشر من مؤلف الكتاب أو من خبير متخصص مشهود له بهذا العلم والمجال، وهو الذي يقوم على شرح هذا العلم من الكتاب أو الكتب التي بين يديه بحياد وموضوعية.
وكلما زاد الحظر على الكتب وزاد منعها، ضاق أفق المتلقي وانحصر تفكيره بالقليل الذي تلقاه وقرأه. وليس علينا موافقة المعلم في كل آرائه، فهناك مساحة كبيرة للتفكير يفرضها إعمال العقل ويغذيها السؤال.
التفكير والشعور
مهما يكن من أمر، فإن صحبة العلماء والأخذ عنهم أمر ضروري في بناء التفكير العلمي والتهذيب العقلي. ولعلنا لا نقلق صبر المتتبع لهذه السطور بفصلنا بين التفكير والشعور، فالتفكير متراتب ويعود أصل تراتبه إلى العقل، أما الشعور فمبعثر، وأصله الإحساس النابع من النفس.
يقودنا ذلك إلى الاعتراف باختلاف القدرات الفكرية والحسية فطرة واكتساباً بين البشر، مما يؤدي إلى فروقات بينهم في استيعاب الظواهر، المتغيرة منها أو المتعارضة، والتعامل مع النتائج، لا كمسلّمات وإنما دلائل للبراهين، فربما حصلنا على معلومات جديدة تغير ما عهدناه من مفاهيم.
ومن هنا عاث مجرمو الإرهاب فساداً عندما بعثروا تفكير المنتمين إليهم من الشباب الغرّ، فنجحوا في غرس مشاعر الانتقام والإحساس بالغبن والظلم، ليثوروا على أوضاعهم أيّا كانت، حتى ولو كانت آمنة ومستقرة، وهنا يتراتب الشعور بالذنب في العيش بكنف السلام، حيث يرونه استسلاماً.
أما طريق إعمال العــــقل، فـــقد اختلف على أسلوبه كل من الفلاسفة والمتكــلمــــيـــــن، فبينما يرى أغلب الفلاسفة أنّ منهــــج التفكـــيــر يكون بمفتاح الشــــكّ لفتح أبــواب المعــــرفة، يرى المتكلمون أن اليقين هو أســـاس الـــبدء في المعرفة، متخذين االإيمـــان باللهب في ذلك مثلاً.
نرجع إلى ما بدأنا به في فهم المفردات. إنّ الإشكالية الكبرى لدى مدرستي العقل والنقل هي فهم معاني المفردات، حيث إنّ للكلمات دلالات، خاصة في اللغة العربية، التي يُجْمَعُ الكلم فيها على شكل جُمَل، فِعلية واسمية، تُبنى على قواعد ثابتة.
وما بُنِي على فهم خاطئ لابد أن يـــكون خطأ، حتى ولو كان اجتهاداً عقلياً أو استنباطاً علمياً. وبمثل هذا يشحن الإرهابيون عناصرهم بالمفاهيم الخاطئة، لــيزدادوا غلظــــة وانحــــرافاً.
لن نتكلم عن معاناة فقهاء اللغة العربية في صدر الإسلام ودورهم في حفظ وضبط اللغة ومفرداتها، لفظاً ونحواً ومعنى، عندما كانوا يعانون فهم الخوارج، ومن سار على دربهم من الإرهابيين في عصرنا هذا، وتفسيرهم المنحرف لآيات القرآن الكريم، الذي أدى إلى استسهالهم سفك دماء المسلمين. ولكننا نستدرك ما أغفل علماء اللغة عن شرحه من المفردات التي شاعت بين الناس في زمانهم وعصي أو صعب فهمها في هذا الزمان، السبب الذي أدى إلى هجر كثير من الكلمات الفصحى واستخدام كلمات عامية أو أعجمية بدلاً منها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخــــرى نرى إما جهل أو تـــجاهل المعـــجميــــين في تأصيل المفردات الأعجمية، فلابد من الرجـــوع إلى أصل الكلمة الأعجمية المستخدمــــة في اللـــغة العربية، ومن ثم شرحها على المــــفهوم الــــذي وردت عليه في اللغة الأجنبية. وليس أدل من تكرار المسلم لكلمة اآمينب سبع عشرة مرة يومياً، على الأقل، وأما كلمة اسبحانب فتتردد على لسان المسلم يومياً بما لا يقل عن مائة وخمسين مرة.
وعن معنى الكلمتيــن فإن أكثر الناس لا يعلمون، وإن أرادوا فهمهما رجعوا إلى القواميس أو كتب التفسير، حيث اختلف اللغويون ومثلهم المفسرون في تحديد معناهما. ولم يُشـــر أي منهما إلى أصل الكلمتين اللتين انحدرتا من الآرامية إلى العبرية والسريانية ثم إلى العربية.
وكان الخطأ عند اللغويين في إرجاع الكلمتين إلى أقرب مصدر لهما بالعربية: اأَمَنَب واسَبَحَب ثم تصريفهما على هذا الأساس. أما المفسرون فقد ركنوا إلى المعنى العام. وكانت النتيجة أن جموعاً كبيرة من المسلمين صاروا في صلواتهم يقولون ما لا يفقهون.
اسأل المتشدقين من الإرهابيين عن معنى اسبحانب واآمينب، هل تراهم يعلمون؟! .