سفيتلانا ألكسييفيتش... عندما يُكتب التاريخ بلغة المشاعر

سفيتلانا ألكسييفيتش... عندما يُكتب التاريخ بلغة المشاعر

لم تفاجئ  اللجنة السويدية هذه المرة جمهور  المتابعين، بإعلانها فوز الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش بجائزة نوبل للآداب لنسخة هذه السنة،  فقد كانت من أبرز  المرشحات لاقتناص المجد الأدبي، إلى جانب ثلة من الأدباء المرموقين كالياباني هاروكي موراكامي والكيني نكوجي واتيونغو والكاتب المسرحي النرويجي جون فوس. وقد اعتلت - على سبيل المثال - صدارة قائمة التكهنات في موقع التخمينات الشهير «لادبروكس»، أياماً قليلة فقط قبل إعلان النتيجة. وسوغت اللجنة اختيارها بتعدد الأصوات في كتاباتها، مما يعد معلماً للمعاناة والشجاعة في العصر  الحالي. 

من الأمور اللافتة في كتابات سفيتلانا هو انتسابها إلى جنس جديد، يقوم على تخوم الأدب والعمل الصحفي الوثائقي، إذ تحشد الكاتبة البيلاروسية، في جميع أعمالها مجموعة من الشهادات التي استقتها مباشرة ممن عايشوا بأنفسهم أحداث الحرب داخل الإمبراطورية الحمراء، أو من ضحايا كارثة تشيرنوبيل، أو من الذين انهاروا بانهيار جدار برلين. ويعد هذا الأسلوب اختياراً عن اقتناع راسخ مرده إيمان الكاتبة بفاعلية الاستجواب كأسلوب عمل ناجع في كتابة التاريخ وتوثيق مآسي العصر، خصوصاً أنها أبدت غير مرة في حواراتها الصحفية أن لها حساسية مفرطة تجاه الأصوات التي كانت سلاحها الأخاذ في اكتشاف العالم وإعادة كتابة التاريخ. 
الحرب بصيغة المؤنث
سجلت سفيتلانا في باكورة أعمالها وجهاً غير أنثوي للحرب (1985)، من خلال شهادات المئات من النساء ضحايا الحرب العالمية الثانية، ممن سببت لهن الحرب نزفاً متواصلاً، وتركت عندهن جروحاً غائرة في الجسد والذاكرة، واحدة منهن أبدت بعد انتهاء الحرب رغبتها في تحقيق أمنيات ثلاث، أن تركب في عربة ترام، وأن تأكل خبزاً أبيض، ثم تنام فوق سرير من الأوراق البيضاء. أما الأخريات فعبَّرن بلسان يقطر ألماً عن حياتهن داخل المعسكرات التي جردتهن من أنوثتهن، وجعلتهن يلبسن زي الحرب، ويزحفن تحت الأسلاك الشائكة، ويمارسن القتل في أبشع صوره.
آخر الشهود (1985): أو الحرب بعيون بريئة 
 ويستمر حفر الكاتبة البيلاروسية في ذاكرة الحرب، بإزميل الشهادات المؤثرة مرة أخرى، لأطفال اكتووا بنارها، وتجرعوا قسوتها البالغة. وقد سئلت مرة في حوار صحفي عن ماهية البطل في عملها؟، فأجابت من دون تردد، إنها الطفولة البائسة التي احترقت بالرصاص والقنابل والجوع والخوف. وفي إحدى الشهادات، تحكي صبية عن شهر يونيو (حزيران) من سنة 1941 قائلة:
آخر ذكرى من زمن السلام، هي حكاية كانت ترويها لي والدتي قبل أن أخلد للنوم، وفي ذلك الصباح،  أيقظني الخوف، الخوف من أصوات مجهولة، كان أبي وأمي يعتقدان بأن الجميع نائم، بينما أنا كنت بجانب أختي الصغيرة أرقب كل شيء متظاهرة بالنوم، كان أبي يقبل أمي في وجهها ويديها، استغربت بشدة، لأني لم أشاهد أبي يفعل ذلك من قبل، وبينما أنا أشاهد ما يحدث عبر النافذة، ذهب الاثنان خارج البيت، ممسكين بأيدي بعضهما، كانت أمي تتعلق بأبي، لم تكن تريده أن يغادر، لكنه تملص منها، وأخذ في الجري... إني أراه كما لو كان ذلك قد حدث بالأمس، أخفى وجهه بيديه، ومضى، كان خائفاً من العودة.

توابيت الزنك (1989): حرب أفغانستان... باسم ماذا؟ 
لم تكن سفيتلانا تريد الخوض مجدداً في سيرة الحرب ومآسيها المفجعة، لكنها وجدت نفسها بحكم عملها في الصحافة، في قلب آلة الحرب الطاحنة، عندما ذهبت إلى أفغانستان، لتضرب موعداً آخر مع القصف والدمار اللذين يجتاحان كل شيء، وينثران الموت في كل مكان. ثم تعيش فصلاً جديداً يكتبه الموت الأعمى الذي 
لا ينتقي ضحاياه. من بين أولئك الضحايا طفل زارته الكاتبة في أحد مستشفيات كابول، وحين أرادت أن تسلمه دمية، أمسكها بأسنانه، فتعجبت من صنيعه، لكن امرأة كانت تجلس بجانبه أزاحت عنه الغطاء لتكتشف أنه فقد رجليه ويديه معاً. ومن بينهم شاب في مقتبل العمر ألقت عليه التحية عندما دخلت المقصف لتناول الغداء، لكنه لقي حتفه بعد نصف ساعة من ذلك، لتبقى تستذكر ملامح وجهه بقية اليوم. كما يتضمن الكتاب شهادات عن جنود فقدوا الإحساس بطعم الحياة، وآخرين فقدوا عقولهم، وهاموا على وجوههم في الأرض. وفي صور أخرى لا تقل مأساوية عن سابقاتها، تصور الكاتبة الأمهات الثكالى وهن يستقبلن جثامين أبنائهن في توابيت من الزنك، من بينهن أم،  أبدلت الكلمات شبه الرسمية على شاهد قبر ابنها، بعبارة، بأي إسم؟

مسحورون بالموت (1993): أكذوبة المدينة الفاضلة
يصور الكتاب الذي رأى النور سنة 1993، ما خلفه سقوط جدار برلين، وتهاوي الإمبراطورية الحمراء، من آثار نفسية وخيمة على الذين عايشوا الحلم الشيوعي، وضحوا بأغلى ما يملكون من أجل أن تشرق شمس العدالة الاجتماعية والمساواة، ثم استفاقوا على الحقيقة الصادمة التي كانت مختبئة تحت دثار الوهم والتضليل الذي مارسته أيديولوجيا الحزب الشيوعي، وذلك عن طريق شخصيات وجدت في الانتحار سبيلاً ومهرباً من الإحباط، الناجم عن سوء التفاهم بين جيل عاش الحلم، وآخر لم ير في تجربة المعسكر الشرقي إلا صفحات من استبداد الأنظمة الشمولية وقهرها وتنكيلها بالإنسان. وفي الكتاب، نقرأ عن أم تحكي معاناتها قبل الإقدام على الانتحار:
«لدي عقلية معتقل، أبنائي يعاملونني كمريضة أصيبت بمرض عضال، لقد فقدت قدرتي على التعبير والشرح. في يوم عيد ميلادي رويت إحدى ذكرياتي عن المعسكر. لم يكن الفرح ليجد سبيلاً إلى قلوبنا، فرغم إحساسنا بأن كل شيء على ما يرام، فإنه كان هناك شيء يحملنا على ذرف الدموع. حكيت كيف كنا نعشق الفاتح من مايو (أيار). قاطعني ابني قائلا: كيف تشعرين بإحساس كهذا؟ يجب أن تشعري بالخجل. إنهم مختلفون، في الشارع كنت أعشق الشباب، لكن يساورني شعور بالخوف تجاههم عندما أعود إلى البيت. عندما كنت صغيرة في دار الأيتام، كان يعتريني هذا الإحساس بين الفينة والأخرى. صرخ قائلاً: لقد كنتم فئران تجارب، لتجربة لاإنسانية، والآن تفخرون لأنكم تملصتم منها، الإنسان، الدولة، تتحدثين عن السماد، عن مادة بناء صرح الشيوعية. لقد وضعوكم في أقفاص، وتريدين أن أتذكر ذلك؟! لن تكوني إنسانة حرة، يسري في عروقي دم عبوديتك، أفكر في استبدال دمي، لأني لو حاولت المغادرة، سأحمل ذلك في كريات دمي... أكرهك. أشعلت الغاز، وفتحت المذياع، لقد كنت حرة، لم أكن أشعر بقدرتي على فعل ذلك».
 
موسوعة الأومو سوفياتيكوس
بهذه الفسيفساء، تكون سفيتلانا ألكسييفيتش قد دبجت معظم مداخل موسوعة الإنسان السوفييتي أو الأومو سوفياتيكوس، سواء في مرحلة الاتحاد السوفييتي، أو خلال مرحلة ما بعده. معلنة اندثار هذا الإنسان، في كتابها «نهاية الرجل الأحمر» (2013). 

استقبال أعمال سفيتلانا ألكسييفيتش
لم تجد أعمال الكاتبة البيلاروسية الترحيب الكافي في روسيا وتوابعها، وإلى تاريخ تتويجها بالجائزة لم تنشر أعمالها في بيلاروسيا نظراً لمعارضتها للنظام السياسي القائم. لكنها لقيت في المقابل تجاوباً كبيراً في فرنسا وألمانيا والسويد، حيث حصدت عديداً من الجوائز والميداليات، وقد حظيت بترجمة ستة من أعمالها في فرنسا، ابتداء من سنة 1990، وهي السنة التي شهدت تعرف القارئ الفرنسي عليها، من خلال كتابها «توابيت الزنك»، الذي أجج نقاشاً كبيراً في أوساط المثقفين هناك، لما يحمله من نقد لاذع لأكذوبة الحرب التي لفقت للرأي العام المحلي والدولي. 
وبرغم ما يقال عن خروج كتاباتها عن مضمار الأدب وانتمائها لجنس الكتابة الصحفية، فإنها تصر شخصياً على أن أدوات العمل الصحفي لم تكن سوى وسيلة لكتابة فصول أدب يطرح أسئلة ميتافيزيقية عن ماهية الإنسان وموقعه في الوجود، ويحفر عميقاً في ذاكرة المآسي والكوارث التي اجتاحت العالم،  بأصوات المكلومين وأحاسيس المفجوعين. وإذا كانت اللجنة السويدية قد غضت الطرف في هذه النسخة وفي نسخ سابقة عن إنسان الأدب، فإنها - ومن دون أدنى شك - لم تخطئ في إعادة الاعتبار لأدب الإنسان ■