خطاب اللاثقافة
يختلف علماء الأنثروبولوجيا اختلافاً كبيراً حول مصطلح «الثقافة»، حتى إن عالم الأنثروبولوجيا د. أحمد أبوزيد يروي أن اثنين من كبار علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين حاولا سنة 1951 إحصاء التعريفات المتداولة حينئذٍ لكلمة ثقافة، وأمكنهما التوصل إلى ما يزيد على مائة وخمسين تعريفاً مختلفاً، ثم يقول: « وليس من شك في أن ذلك الرقم قد تضاعف مرات عدة منذ ذلك الحين»، وهذا التعدد، بل الاختلاف، في مفهوم مصطلح الثقافة أمر ملموس ندركه في الكتابات التي تتناول هذا المصطلح.
إن الثقافة تدل مرة على التهذيب والتشذيب والصقل والأدب وحسن التناول، كما تشير الجذور اللغوية لمادة اث ق فب في اللغة العربية، ومرة أخرى تكون الثقافة عبارة عن آليات خاصة تصوغ البشر وفقاً لحاجات نظام الحكم، ومن ثم تكون الثقافة نوعاً من التربية الخلقية التي تصوغ المواطنين لكي يتلاءموا مع المواطنة السياسية، وحيناً آخر تعني الثقافة طريقة حياة أهل المدينة، أي إنها حينئذٍ مرادفة للتمدن، أو مرادفة للتحضر، ومرة ثالثة ينظر إلى الثقافة على أنها نقيض الطبيعة أو الفطرة، ومرة رابعة ينظر إلى المثقف على أنه المتعلم وغير المثقف على أنه الجاهل، أو أن المثقف هو الذي يتذوق الفنون ويراعي مشاعر الآخرين ويحافظ على الذوق العام، وغير المثقف هو الذي لا يمتلك هذه القدرة.
من ناحية أخرى، قد يرتبط مفهوم الثقافة بالطبقة الراقية، بمعنى أن الثقافة تعني السلوك حسب أذواق الطبقات الراقية فقط. وقد ينظر إلى الثقافة على أنها مجرد طريقة خاصة في ممارسة الحياة، أياً كان نوع هذه الحياة، ومن ثم ترتبط بالهوية، فيقال هذه ثقافة فرنسية وهذه ثقافة إنجليزية وتلك ثقافة الهنود الحمر، أو ثقافة أكلة لحوم البشر، بصرف النظر عن سمو هذه الثقافة أو عدم سموها. وقد ينظر إلى الثقافة على أنها مظهر اجتماعي يتطلب وجودها وجود دولة تنظم العلاقات بين المواطنين وتضع القوانين والدساتير، وقد ينظر إليها باعتبارها مظهراً فردياً يتعلق بالأخلاق.
كل مفهوم من هذه المفاهيم ينظر إلى الثقافة من زاوية خاصة، وربما لأغراض أيديولوجية أو حضارية أو طبقية أو علمية أو سياسية خاصة، لكن المفهوم الذي تتطلبه المرحلة الحضارية التي يمر بها العالم العربي الآن هو المفهوم التنويري للثقافة، فكل التعريفات السابقة مقبولة من الناحية الأنثروبولوجية والأيديولوجية، لكننا الآن في حاجة إلى تبني هذا المفهوم التنويري خاصة، والمقصود بالمفهوم التنويري هو ربط مفهوم الثقافة بعنصرين اثنين هما ممارسة الحياة عن طريق الاستعانة بالعلم أو المعرفة، وأن تكون هذه الممارسة إنسانية، والمقصود بالإنسانية هنا السمو في مجال السلوك الإنساني، والبعد عن الهمجية والتخلف والجهالة، وبهذا يكون مفهوم الثقافة مرادفاً لمفهوم الحضارة والتنوير والإصلاح، فكلما اقترب الإنسان في ممارسته للحياة من العلم والرقي الإنساني كان أكثر ثقافة، وكلما ابتعد عنهما كان أقل ثقافة.
صفات الشخص المثقف
يلخص تيري إيجلتون صفات الشخص المثقف بقوله: اأن يكون المرء متحضراً أو مهذباً يعني أن يحظى بنعم المشاعر الرقيقة، والانفعالات المحكومة والسلوكيات المحمودة والعقل المنفتح، وأن يلتزم سلوكاً معتدلاً ومقبولاً عقلاً مع حساسية طبيعية غير متكلفة تجاه مصالح الآخرين، وأن يمارس ضبط النفس، ويكون على استعداد للتضحية بمصالحه الأنانية من أجل خير الكل والمجموعب.
وهذا التعريف يتفق مع مفهوم الثقافة في التراث العربي، فقدامة بن جعفر يرى أن موضوع المدح في الشعر إنما يكون بالوصف بالفضائل الإنسانية افضائل الناس من حيث إنهم ناس لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوانب، ولذلك فلو أن إنساناً عثرت رجله بحجر في الطريق، فأمسك بهذا الحجر فألقاه بعيداً، فإن كان ألقاه غيظاً وانتقاماً لنفسه لم يكن هذا الفعل منه إنسانياً يحمد عليه، لأنه يشترك في ذلك مع سائر الحيوان، فالكلب إذا ضرب يعض، والجمل إذا آلمته انتقم منك، أما إذا كان هذا الرجل قد ألقى الحجر بعيداً حتى لا يؤذي إنساناً غيره كان ذلك منه فعلاً إنسانياً يستحق المدح عليه، وربما يكون هذا ما قصده كولردج بقوله: ايجب أن نكون ناساً قبل أن نكون مواطنينب، بل ربما يكون هو المقصود من كلمة الناس في قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة البقرة - الآية 13)، أي إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس الحقيقون باسم الإنسانية.
وهنا ينبغي التنبه إلى شيء مهم، وهو أن هذا المفهوم السامي للثقافة ينبغي ألا يختزل في مجموعة من الأعمال الفنية في عصر معين أو في بيئة معينة أو حضارة معينة، أو أيديولوجية معينة، كأن يقال مثلاً إن الثقافة الغربية أو الاشتراكية أو العربية القديمة هي النموذج الأمثل والمحوري والمركزي لكل ثقافة، بل ينبغي أن يكون مفهوم الثقافة مرتبطاً بالعلم وبالقيم الإنسانية الخالدة أياً كان مكانها وزمانها، قيم الحرية والعدالة والمساواة والجمال والتسامح والنظام والمعرفة وحيوية الضمير وأسلوب الحياة الراقية وقبول الآخر ومراعاة مشاعره.
كما ينبغي ألا يلغي هذا المفهوم الخصوصيات الثقافية لكل شعب من الشعوب، فحيثما وجدت الحرية والعدالة والمساواة وجدت الثقافة والحضارة، كل شعب بطريقته وذوقه الخاص، ومن ثم فإن هناك ثقافة واحدة بألوان مختلفة، فليس توحيد مفهوم الثقافة دعوة إلى مركزية نمط الحياة لدى أمة قوية وهامشية أمم ضعيفة، فليس هناك ارتباط بين القيم الثقافية السامية وأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، بل هناك ارتباط فقط بالسمو أو الرقي الإنساني.
الثقافة عمل إنساني وجهد بشري
إن الثقافة لا تنشأ من فراغ، بل تنشأ من رقي النظم الاجتماعية وشيوع الخطاب الثقافي، ومن ثم فإنها عمل إنساني وجهد بشري وليس طبيعة أو فطرة، فليس هناك شعب غير قابل للثقافة، وليس هناك شعب مثقف بطبعه، ومن ثم ينبغي أن يكون للآداب والفنون رسالة ثقافية تقدمية وتنويرية تساعد على الارتقاء بالأذواق وصقل الأذهان وترقية السلوك والرقي الإنساني، وينبغي ألا تكون وظيفة وزارة الثقافة إحياء النماذج الفجة المتخلفة من السلوكيات الغوغائية تحت الشعار الزائف الذي يفهم الثقافة فهما خاصاً لا يفرق فيه بين سلوكيات أكلة لحوم البشر وأنماط حياتهم المتوحشة والثقافة الرفيعة، تحت دعوى أن كل سلوك للبشر يسمى ثقافة.
إننا اليوم في عالمنا العربي أحوج ما نكون إلى تبني هذا المفهوم التقويمي للثقافة، لأن شعوبنا تعاني التخلف والفقر والمرض والجهل، وليس لدينا ذلك الترف الذي يمكننا من بحث سلوكيات البشر مثلما تبحث سلوكيات فئران التجارب أو السلاحف، فنحن في منعطف حضاري وثقافي ينبغي أن تسخر فيه كل الجهود من أجل الرقي والتقدم والتخلص من التخلف والعشوائية وفساد الأذواق، فالمعركة ليست بين ثقافة وأخرى، بل بين ثقافة ولا ثقافة، وهذه لها خطابها وتلك لها خطابها، لذلك كان البحث عن خطاب اللاثقافة لا يقل أهمية عن بحث الخطاب الثقافي، عملاً بمقولة الصحابي الجليل حذيفة التي يقول فيها إن الناس كانوا يسألون النبي [ عن الخير، وكنت أسأل عن الشر.
اللاثقافة
اللاثقافة نقيض الثقافة، ولها خطابها مثلما للثقافة خطابها، وهو خطاب غير المثقفين، وهم كثر في المجتمع العربي، بل إن خطاباتهم تهدد الخطاب الثقافي وتعمل على إفساده أو تعطيله، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الخطاب الفوضوي، وهو خطاب جحافل المهمشين من سكان العشوائيات وسكان القبور والعاطلين وأطفال الشوارع... إلخ، وهؤلاء الناس نتيجة لوجودهم في تجمعات منعزلة كوَّنوا لأنفسهم قيماً خاصة بهم، وأعرافاً وتقاليد ولغة خاصة بهم، وتعتمد خطابات هؤلاء الناس على عدم الانصياع للقانون والنظام، وعدم الالتزام بالأعراف الاجتماعية أو الذوق العام، وعلى اللامبالاة وعدم النفور من القبح والميل إلى العنف والتخريب والتمرد، والجفاء في الطبع واستمراء ارتكاب الجرائم دون وازع، وسهولة التبعية المأجورة، فهم دائماً تحت الطلب لمن يدفع أكثر، كما يتصفون بعدم الإحساس بالهوية القومية أو الوطنية أو الأسرية، ولا يتقنون العمل ولا يحبون الالتزام، بل االفهلوةب، وهم يسنون بعض القوانين الخاصة بهم واللغة الخاصة بهم، مثل العبارات التي يستخدمونها في التحية واللقاء والوداع والعتاب والشجار والمصالحة. وهؤلاء الناس هم الاحتياطي الاستراتيجي للفوضى والتخريب والفساد، كما أن قيمهم هي الخطر الأكبر الذي يهدد الثقافة ويعطل تطوير الخطاب الثقافي، بل يهدد وجود الدولة نفسها.
وقد رصد عدد كبير من الروائيين وصناع السينما وكتاب المسرح هذا الصراع بين الثقافة وهذا النوع من اللاثقافة في المجتمع المصري في كثير من أعمالهم، ويمكن الاعتماد عليها في إبراز هذه الظاهرة، إلى جانب الأبحاث العلمية التي يجريها علماء الاجتماع.
النوع الثاني: الخطاب الرجعي، هؤلاء لهم خطابهم الذي يتناقض مع الخطاب الثقافي، لأن خطابهم طقوسي متزمت وأحياناً إرهابي، لا يعتمد على العقل أو النقد أو الحوار، بل على الطقوس والخرافات والأساطير وعقائد أصحاب الشروح، ولا يعترفون بثقافة الآخرين، ولا يقبلون بوجودهم، ولذلك فإن أصحاب هذا الخطاب يصطدمون بقيم المجتمع وثقافته ونظامه، لأنهم يقدسون النصوص والتاريخ والأضرحة والموتى.
النوع الثالث: الخطاب التسلطي، وهو الخطاب التعليمي الأبوي الذي يعتمد على التلقين والقهر، والخطاب الإعلامي السحري الذي لا يعتمد على الحوار والوعي والبحث عن الحقيقة، بل على التزييف والكذب والتسلط والنفاق وحجب الحقائق.
هذه الخطابات الثلاثة هي التي يمكن تسميتها بالخطابات اللاثقافية، لأنها تتعارض مع المفهوم التنويري لخطاب الثقافة، ومن ثم فإن دراستها مهمة لتجديد الخطاب الثقافي، ليس في مستواه النظري المتعالي، بل في مستواه الواقعي التطبيقي.
البيئة الحاضنة للاثقافة
نسبة الأمية في مصر والعالم العربي مرتفعة، والفقر والمرض والجهل متفشٍ، وما يتبع ذلك من عشوائية في المدن والقرى، وتدن في مستوى الخدمات والتعليم، ومنذ سبعينيات القرن الماضي وانهيار الحلم القومي إثر النكسة، شهدت البلاد انفتاحاً للرأسمالية المتوحشة، في ظل هذه الرأسمالية أصبحت الأدوات الثقافية مجرد مخالب لنهش أكبر عدد ممكن من الضحايا المستهلكين، فارتفعت قيم الاستهلاك والاستيراد على قيم العمل والإنتاج، وتحول الفن إلى دعاية للترويج التجاري أو للربح، وارتفعت قيمة التأثير والمتعة الجسدية في الفن على الاهتمام بقيمة الجمال، وصعد المهرجون وخفت صوت الفن الحقيقي في المسرح والسينما، وتحولت وسائل الإعلام إلى أبواق تتملق الجماهير والسلطة وتعمل لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال والسماسرة، في ظل هذه الأجواء وجدت الطبقات الطفيلية وأنصاف الموهوبين بيئة خصبة للتسلق، وارتفع خطاب اللاثقافة لكتم أنفاس الخطاب الثقافي، حتى أصبحت سمات هذا الخطاب ظاهرة شائعة في هذا الخطاب، ويمكن إجمال هذه السمات فيما يلي:
1 - ظاهرة تحقير المثقفين، مثل السخرية من المعلمين والعلماء والأطباء وأساتذة الجامعة وإهانتهم، في الوقت الذي يوقر فيه الجهال تحت مسمى اابن البلد الأصيلب.
2 - عدم الحرج من الجهل اللغوي أو المعرفي، بل التباهي بعدم المعرفة.
3 - الجهل بالتقاليد الفنية والتخبط تحت راية التجريب في الشعر والمسرح والقصة.
4 - الهبوط الذوقي والأخلاقي واستعارة كبار القوم لمعجم الشتائم من العشوائيات ونشره في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.
5 - شيوع ظواهر القبح في الشارع وفي المساكن والملابس.
6 - شيوع الفكر النفعي الذي لا يهتم بالقيم واستباحة كل الوسائل لتحقيق الأهداف، مما جعل الإعلام السيئ إحدى أدوات الترويج للخطاب اللاثقافي من خلال تقديم الفنون الهابطة واللغة الركيكة والقدوة السيئة.
هذا الوضع كان بيئة خصبة لازدهار الخطابات اللاثقافية الثلاثة السابقة والتلاقح بينها، وظهر ذلك واضحاً في مصر بعدما انفجر صمام القمقم بعد ثورة يناير 2011، فانفجرت بالوعة اللاثقافة، وارتفع زعيق غير المثقفين، وخفت صوت المثقف كأنه موسيقى هادئة تكاد تكون غير مسموعة، بين صليل السيوف ودوي طلقات المدافع.
إننا لسنا في حاجة إلى تجديد الخطاب الثقافي فحسب، بل في حاجة إلى إنقاذ الثقافة، من ذلك الوحش الذي يسمى لا ثقافة .