الديموغرافيا والاقتصاد العالمي
أشار اقتصاديون إلى العلاقة بين التطورات الديموغرافية في البلدان الصناعية والأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008.
ويؤكد هؤلاء الاقتصاديون أن التحولات في الواقع السكاني في البلدان المتقدمة لابد أن تنعكس على الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً السلوكيات الاستهلاكية. ومن أهم المؤشرات انخفاض عدد السكان الذين يمكن اعتبارهم في سن العمل.
وبناء على بيانات الأمم المتحدة، فإن القوة البشريـة (Manpower) الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و65 عاماً، سوف تنخفض بنسبة 5 في المائة عن مستواها الحالي في عام 2050 في البلدان الصناعية المتقدمة.
كذلك فإن بلداناً منها الصين وروسيا سوف تواجه التطورات الديموغرافية ذاتها التي تواجهها البلدان الصناعية الأخرى. أيضاً، فإن السكان الذين تتعدى أعمارهم الخامسة والستين عاماً سوف ترتفع نسبتهم في المجتمع السكاني في تلك الدول.
يعني ذلك ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والتحملات الاجتماعية والتزامات التقاعد. وغني عن البيان أن البلدان الصناعية شهدت على مدى يقارب المائة عام متغيرات مهمة، من أبرزها ارتفاع معدلات الحياة، حيث تتراوح الآن بين 75 و80 عاماً في بلدان عديدة. ولابد أن ما جرى هو متغير إيجابي نظراً إلى تحسن نوعية الحياة في البلدان المتقدمة، وكذلك في العديد من البلدان الناشئة في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا.
بلدان مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية تواجه استحقاقات ارتفاع معدلات الحياة Life Expectancy وتضطر إلى تخصيص المزيد من الأموال للعناية بكبار السن.
لكن كيف أصبحت الأوضاع الديموغرافية في أوربا وشرق آسيا وعدد آخر من البلدان الصناعية والناشئة على ما هي عليه الآن؟
سياسات دعم الإنجاب
إن من الأهمية توضيح أن معدلات الخصوبة قد تراجعت على مدى العقود الماضية. ويقدر المختصون أن معدل الخصوبة المناسب للتعويض عن الوفيات يجب ألا يقل عن 2.1 طفل للمرأة في سن الإخصاب.
لكن معظم بلدان العالم، فيما عدا البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، لا تصل معدلات الخصوبة إلى ذلك المستوى. وتحاول بلدان عديدة، ومنها الصين وعدد من البلدان الأوربية، أن تحفز المواطنين لإنجاب الأطفال من خلال سياسات دعم اجتماعية متنوعة.
الصين التي اعتمدت سياسة الطفل الواحد للأسرة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، قررت تشجيع الأسر الجديدة التي تنجب طفلين بموجب معايير محددة، مثل ألا يكون لأي من الأبوين إخوة أو أخوات أو أبناء عمومة أو أقارب من الدرجة الأولى.
اتخذت السلطات الصينية هذه القرارات الجديدة بعد أن تراجعت أعداد الشباب وصغار السن، وارتفعت نسبة من تجاوز الخامسة والستين.
وهناك مثال آخر وهو المكسيك، التي تمثل أهم مصادر المهاجرين إلى الولايات المتحدة، فقد انخفض معدل الخصوبة فيها من 5.4 أطفال في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى 2.3 طفل في الوقت الراهن، ويتوقع الخبراء أن يتراجع هذا المعدل إلى 1.9 طفل للمرأة في سن الإخصاب في عام 2030.
بطبيعة الحال فإن مثل هذه التطورات في بلد مثل المكسيك مازال يعاني الفقر وتدني المستويات التعليمية وانتشار الخرافات تعني أن هناك إمكانات لتراجع معدلات الخصوبة في بلدان نامية أو من العالم الثالث الأخرى.
إذاً فمعدلات النمو الطبيعية للسكان في مختلف بلدان العالم قد تراجعت خلال العقود الماضية، حيث يقدر معدل النمو للسكان على المستوى العالمي بنحو 1.11 في المائة في هذا العام 2017، وهو أدنى من المعدل المتحقق في عام 2016 الذي بلغ 1.13 في المائة. يعني ذلك أن الزيادة في عدد السكان خلال العام ستكون بحدود 80 مليون نسمة، وكما هو معلوم أن أعلى معدل سنوي لنمو السكان عالمياً بلغ 2 في المائة عام 1960.
ويرى اقتصاديون أن التراجع في النمو السكاني سيكون مفيداً للعديد من بلدان العالم الثالث، خصوصاً تلك التي تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة واكتظاظاً سكانياَ في المدن وأطرافها، مثل نيجيريا وإندونيسيا ومصر، لكن هذا المعدل العالمي لايزال بعيداً عن معدلات النمو في تلك البلدان. مازال معدل النمو السكاني في الكونغو 3.17 في المائة وفي مصر 2.18 في المائة، وفي إثيوبيا 2.53 في المائة، وفي كينيا 2.65 في المائة، وفي نيجيريا 2.67 في المائة، وبلغ في النيجر 4.0 في المائة.
هناك تفاوت، وتظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية عصية على التطوير في هذه البلدان واستيعاب أهمية تنظيم الأسرة. هذه البلدان في العالم الثالث تواجه تحديات تنموية مهمة، وترتبط هذه التحديات بالمشكلات الناتجة عن محدودية الإيرادات الوطنية المتحققة من نشاط مختلف القطاعات الاقتصادية.
آليات سياسية عطلت الإمكانات المالية
كما أن الإدارات السياسية التي تعاقبت على حكم هذه البلدان لم تتمكن من ضبط إيقاع العملية الاقتصادية، وعمدت إلى اتباع آليات سياسية عطلت القدرة على الاستفادة من الإمكانات المالية والبشرية، يضاف إلى ذلك أن هذه البلدان مرت بظروف سياسية وأمنية معقدة، وبعض منها دخل في حروب أهلية وإقليمية أدت إلى تراجع نوعية الحياة وإهدار الموارد المحدودة.
وفي حين يمثل انخفاض معدل النمو الطبيعي تحدياً ديموغرافياً مقلقاً في البلدان الصناعية المتقدمة، فإن ارتفاع هذا المعدل في البلدان النامية يشكل عبئاً اقتصادياً وسياسياً مهماً.
وقد بلغ عدد سكان العالم في يوليو 2016 ما يقارب 7.5 مليارات نسمة، ويعني ذلك أن العدد ارتفع من 2.5 مليار نسمة في عام 1950 وبنسبة 200 في المائة.
هذه الزيادة المهمة جرت بشكل كبير في البلدان النامية، التي أوضحت آنفاً معدلات النمو الطبيعية في عدد منها، لكن لماذا تشكو البلدان المتقدمة من أوضاعها الديموغرافية؟ يقدر الباحثون أن معدلات الإعالة سوف ترتفع في بلدان متقدمة وناشئة عديدة، ومنها الولايات المتحدة والصين.
في الوقت الراهن هناك 5.1 من الأفراد في عداد المعالين Dependents لكل 10 أفراد في سن العمل بالولايات المتحدة ينقسمون بين 2.2 فرد من كبار السن و2.9 من الصغار. بيد أن المعدل سيتغير في عام 2050 ليبلغ 6.6 من المعالين لكل 10 أفراد في سن العمل، منهم 3.7 أفراد من كبار السن و2.9 من الصغار.
أما الصين فهي تواجه مشكلة انخفاض أعداد السكان في سن العمل (15 ذ 64)، ولذلك فإن معدل الإعالة يصل إلى 3.7 لكل 10 من العاملين، وربما يرتفع هذا المعدل خلال الأعوام الثلاثين المقبلة، بعد أن ترتفع أعداد كبار السن في المجتمع السكاني.
إذا كانت الأوضاع الاقتصادية قد تأثرت بالمتغيرات الديموغرافية فإن هذه الأوضاع هي نتاج المتغيرات في الحياة الاقتصادية وانعكاسها على منظومة القيم الاجتماعية.
وقد أجريت دراسات عديدة من قبل معاهد وجامعات مرموقة ربطت بين التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتحولات في الأنماط الديموغرافية في البلدان المتقدمة، ومنها بلدان الاتحاد الأوربي.
وخلال عقود طويلة ومنذ بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، مروراً بالعقود الأولى من القرن العشرين، تراجعت معدلات الوفيات في البلدان الصناعية، وتحسنت معدلات الحياة، بعد أن ارتقت مستويات الرعاية الصحية وزاد الاهتمام بأوضاع كبار السن، مقابل ذلك انخفضت معدلات الخصوبة، بعد أن أصبحت هذه المجتمعات ذات صبغة صناعية وحضرية، وتراجعت أعداد العاملين في القطاع الزراعي، وارتفعت المستويات التعليمية للسكان، لكن هذه التحولات لم تخلُ من مفارقات، فمثلاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية برزت ظاهرة الولادات المتزايدة Baby Boom في الولايات المتحدة، بما عزز من النمو الطبيعي للسكان هناك.
منافع باتت تمثل عبئاً اقتصادياً
ولا شك في أن تلك الظاهرة كانت مفيدة لتعزيز أعداد العاملين في عقود لاحقة، وفاء للطلب في سوق العمل، خصوصاً في سبعينيات القرن العشرين.
لكن هذه المنافع الاقتصادية في عقود ماضية باتت تمثل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً الآن، بعد أن أصبح عديد من هؤلاء الذين ولدوا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من المتقاعدين والمعتمدين على المعاشات التقاعدية في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الصناعية.
وقد ارتفع عدد المؤهلين للمعاشات التقاعدية من 41.4 مليونا في عام 2008 إلى 49.0 مليونا بالولايات المتحدة في الوقت الراهن، وما يثير الانتباه أن من يتقاعد في البلدان المتقدمة وهو في سن الخامسة والستين ربما يظل مستحقاً لحقوقه من التأمينات الاجتماعية لسنوات طويلة، نظراً إلى ارتفاع معدلات الحياة التي قد تزيد على الثمانين عاماً كمعدل عام.
ربما يختلف الأمر في البلدان النامية، خصوصاً بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تظل معدلات الخصوبة عالية مقابل تدني معدلات سنوات الحياة.
تؤكد النظرية الاقتصادية أن هناك أمرين يحددان القدرة على النمو الاقتصادي وتحسين نوعية الحياة، وهما عدد العاملين والإنتاجية.
في الولايات المتحدة ظل معدل نمو قوة العمل في حدود 0.2 في المائة منذ عام 2008، مقــــارنــة بـ 1.2 في المائة سنوياً في سنوات العقد السابق.
وللتذكير، فإن القوة البشرية تُحدد بالسكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاماً.
وقد أصبحت قوة العمل المشاركة في الوقت الراهن تعادل 62.4 في المائة من إجمالي هذه الفئة من سكان الولايات المتحدة، وهذا أدنى معدل منذ 40 عاماً، عندما لم تكن المرأة تمثل نسبة مهمة من العاملين.
هناك عوامل عديدة قد تخفض مستويات المشاركة في سوق العمل، منها إقدام العديد من العاملين على التقاعد وتراجع مشاركة النساء، وعزوف الشباب عن العمل نتيجة لاستمرار التحصيل التعليمي، كما أن كثيراً من العاملين الذين يفقدون ميزاتهم المهنية نتيجة للتطورات التقنية قد يغادرون سوق العمل.ت
لوحظ، أيضاً، من المظاهر الاقتصادية المتفاعلة مع التطورات الديموغرافية تبدلات في عادات الادخار، حيث يقوم الناس في سنواتهم المبكرة في عشرينياتهم أو ثلاثينياتهم بالاقتراض لتحسين أوضاعهم المعيشية ومواجهة المديونيات من المداخيل، حيث يتم الاقتراض لاقتناء المساكن أو الإنفاق على أطفالهم الصغار، أو التمتع بالاستهلاك الترفي، في بعض الأحيان. وبعد أن ترتفع المداخيل بعد أن يتجاوزوا الأربعين، تتراجع الالتزامات بما يحسن القدرات على الادخار. لكن هذه القدرات على الادخار تتراجع بعد التقاعد، وربما تستخدم المدخرات لمواجهة أعباء سنوات الشيخوخة.
وتتفاوت هذه السلوكيات بين البلدان، حيث إن الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة يزيد على الإنفاق الاستهلاكي في الصين واليابان، أو حتى البلدان الأوربية، لذلك يجد المرء أن بلدان شرق آسيا أو ألمانيا تتمتع بفوائض مهمة في الحساب الجاري أو حساب ميزان المدفوعات، بينما تحقق الولايات المتحدة عجزاً مستمراً في ميزانها التجاري، نظراً لتعاظم قيمة الواردات السلعية قياساً بالصادرات.
الادخار نتاج عادات الاستهلاك
ما يتعلق بالادخار من سلوكيات هو نتاج ما يحدث لعادات الاستهلاك خلال فترات العمر. تتبدل عادات الاستهلاك مع ارتفاع عمر الإنسان. الأسر الشابة تستهلك كثيراً، وكما أوضحت آنفاً، تنفق على اقتناء السكن والسيارات والسلع المعمرة وتعليم الأبناء ورعايتهم صحياً.
لكن عندما يتقدم الإنسان في العمر ينفق المزيد من مداخيله على الرعاية الصحية وتنخفض معدلات الإنفاق على الديون المتعلقة بالعقار أو السلع المعمرة.
ولذلك، فإن البلدان الصناعية التي أخذت أعداد كبار السن فيها في التزايد تواجه احتمالات الانكماش في الاستهلاك وتدفع العديد من مؤسسات الأعمال على مراجعة برامج التوسع، خصوصاً تلك المؤسسات التي تعمل في التوزيع السلعي أو الخدمات مثل المطاعم والمقاهي أو وكالات السفر والسياحة. وتواجه الحكومات هذه الاحتمالات المقلقة من خلال تبني سياسات تشجيع الإنجاب وتخصيص مكافآت للأسر التي تزيد عدد الأبناء من واحد إلى اثنين بموجب شروط، كما أن كندا وسنغافورة وأستراليا اعتمدت تقديم مبالغ للأسر التي تزيد عدد أطفالها. كذلك وفرت هذه البلدان دعماً للأمهات العاملات بما يعني اهتمام هذه الحكومات بظاهرة الخصوبة المنخفضة.ت
إن التفاوت في معدلات الخصوبة والنمو السكاني في مختلف بلدان العالم سوف يحدث متغيرات كمية ونوعية خلال السنوات الثلاثين المقبلة بموجب تقديرات الأمم المتحدة والمعاهد المتخصصة بعلم الإنسان.
كما ستظل البلدان ذات الخصوبة العالية في إفريقيا وآسيا، ويمكن أن تصبح الهند أكبر دولة من حيث عدد السكان في عام 2050، وتأتي نيجيريا في الترتيب الثالث، وستكون إندونيسيا الدولة الخامسة في عدد السكان.
هذه البلدان ستظل فقيرة، وإذا كانت البلدان منخفضة الدخل تمثل 9 في المائة من سكان العالم، فإنها قد ترتفع إلى 14 في المائة في عام 2050.
السؤال المهم هو: كيف ستتمكن هذه البلدان الفقيرة من مواجهة أعباء التشغيل وخلق الوظائف؟ أو هل ستضطر إلى تشجيع أعداد كبيرة من الشباب للهجرة إلى البلدان التي ستعاني تراجع أعداد المؤهلين لسوق العمل؟
ثم هل ستتمكن البلدان الصناعية في ضوء انخفاض معدلات الخصوبة ومعدلات النمو الطبيعي للسكان وتراجع التدفق إلى سوق العمل من الاستفادة من التحولات التقنية للتعويض عن نقص العاملين؟ غني عن البيان أن البلدان الصناعية أخذت في السنوات الأخيرة تقييد تدفق المهاجرين لأسباب أمنية تواجتماعية، ولكن التحديات الديموغرافية المتوقعة مهمة وتتطلب التمعن والبحث عن بدائل متوازنة .