«عائلة باسكوال دوارتي»... اعترافات معاصرة في «أدب التهويل»

«عائلة باسكوال دوارتي»... اعترافات معاصرة في «أدب التهويل»

«لست سيئا ياسيدي رغم أنه لاتنقصني الأسباب لذلك»
بهذه الجملة انطلقت إحدى أفضل الروايات التي كُتبت في اللغة الإسبانية في القرن العشرين، التي نشرت في عام 1942 بقلم الحائز جائزة نوبل للأدب كاميلو خوسيه ثيلا، وقد تنبّأ ناشر «عائلة باسكوال دوارتي»، وهو عنوان هذه الرواية، أنه لن يبيع أكثر من اثنتي عشرة نسخة، ولكن بمرور الزمن  علم  بأنّ الرواية ذاتها أصبحت النص الأدبي الإسباني الأكثر ترجمةً بعد رواية ثيربانتس، دون كيخوتي دي لا مانتشا.  

هكذا أصبحنا ندرك الآن أن التنبؤات والأدب في أغلب الأحيان لا يتفقان، كما يحدث بشأن تنبؤات الطقس التي تضع المتنبئ الجوي في مكان غير ملائم، ولذا لا يتسم عمله بالواقعية ورؤية اليوم التالي. أتساءل: كم عاماً عاش الناشر الأول لرواية «عائلة باسكوال دوارتي»؟ أو ما إذا كان القدر قد منحه الوقت الكافي ليدرك خطأ تقديره السعيد، ولكن باستطاعتنا أن نسامحه، لأن المؤلف نفسه كان يشك بعض الشيء في نجاحه عندما تكلم عنه بعد عشر سنوات من إصدار روايته الأولى.
اعتاد نقاد الأدب على استحداث العناوين الفرعية لفئة الأعمال الأدبية الجديدة التي لا تنسجم مع القديمة، ومن الممكن جداً أنّ يكون هذا العمل جزءاً من أعمالهم.
كانت فئة رواية «باسكوال دوارتي» تنتمي إلى نوع خاص يُدعى في تلك الحقبة «أدب التهويل»، على الرغم من أنّ مؤلفه لم يتأخر بنقاش المصطلح على اعتباره عنواناً بليداً.
نعلم أنّ «ثيلا» كان يستمتع بالنقاش، وبالنقاش المحتدم أيضاً، لأنه كان متأصّلاً في شخصيته. العنوان لا يهم إذا كان ملائماً أم لا، إنما الأهم بالنسبة إلينا التداخل في روح النص وتاريخ تأليفه وهي إسبانيا في أول فترة ما بعد الحرب الأهلية، أي في أربعينيات القرن الماضي.
لعل الأجدى والأنفع من وجهة نظري إعادة قراءة الرواية لأطرح على نفسي أسئلة متنوعة عن مسيرة الأدب العربي المعاصر في هذه البلدان التي مازالت تناضل منتفضةً ضد دكتاتور ما. أعلم بأن كلمة «انتفاضة» تبدو حكراً  على القضية الفلسطينية بشكلٍ قوي، لكن ثمّة  كلمة أخرى في بحر اللغة العربية الغني هي كلمة «ثورة»... أنا مثل الآخرين عندي مشكلات عدة مع كلمة ثورة، وبالأخص عندما نتحدث عن تلك التي اندلعت قبل خمس سنوات. على كل الأحوال لا أنوي أن تكون الكلمة بذاتها جزءاً من الأسئلة، بل ربما جزءاً من الأجوبة.
  «لست سيئاً، يا سيدي، مع أنه لا تنقصني الأسباب لذلك...»،
أول جملة انطلقت بها مذكرات سجين وهو باسكوال دوارتي، محاولاً  تفسير ماذا حدث في حياته لكي تنتهي أيامه بين القضبان محكوماً عليه بالموت. لا ريب عندي في أنّ الأدب العربي خلال السنوات المقبلة سوف يحتوي على كل الصور المزدحمة المثقلة بكل عمقها وألمها وتهويلها، وسيكون القارئ شاهداً مجدداً لموضوعات كانت - مع الأسف - حاضرة منذ عقود طويلة بلغة الضاد.
في عام 1975 وصف عبدالرحمن منيف ما كان يحدث في «شرق المتوسط...» (*) وبعد واحد وأربعين عاماً  تبقى رواياته حاضرةً أمامنا... لو  تمت كتابتها حديثاً فلا شيء جديداً تحت الشمس، كما يقول المثل الشعبي. كان مؤلفنا «ثيلا» يكرر في مؤلفاته أنّ الذاكرة منبع الألم، والذاكرة لابدّ أن تكون بمنزلة مرآة تسترجع فترات الحياة السابقة في أقصى حدودها. ليس من السهل  الاعتراف بأن كل النهايات هي النهاية نفسها مكررة، ولكنّ هذه الفكرة تحتوي بنفسها على حقيقة ظلت راسخة طوال فترات التاريخ الذي لا فرق فيه بين الشرق والغرب. قراءة الماضي مهما كانت وجهة نظرنا فيه علمتنا أن الإنسان هو الكائن الوحيد في الدنيا الذي لا يكل عن التخطيط للمستقبل في اللحظة التي يحاول فيها أن يصف حاضره فيه. وإذا اتفقنا على أنّ النهايات نفسها متكررة حتى فلا يبقى لنا إلا اكتشاف طريق هذه النهاية. لطالما راودني التفكير في المستقبل القريب، هذا المستقبل الذي أودّ أن أعيش لأراه وأرى فيه الأدب العربي بعد انتهاء مشاهد العنف. هل تنقذنا القدرة الإبداعية للروائي من ذل الحياة؟
هل هي هدفها؟ هل سيُستخدم الأدب كفن من الفنون الإنسانية لتصفية وحش وتهويل الواقع؟ وأكثر من ذلك، أليس صحيحاً أنّ الواقع يخلق حالياً عباقرة  في المعاناة للمستقبل؟
  من البديهي أنّ مسيرة الأدب العربي المعاصر ليست فقط رصداً لمجريات الأحداث في البلدان التي تعاني مستوى عنف غاشم وجمّ في هذه اللحظة!  لأنّ كل بلد يعيش تجربته على وقائع كاملة الاختلاف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وإذا صدقنا أن الأدب ليس إلا مجرد انعكاس لما يحدث حولنا، فلا شك في أننا سنشهد ولادة إبداعات مختلفة كلياً. أوجدت النصوص الأدبية في أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي تياراً قوياً لاستخدام الشكل الاختباري، أو الرواية الشرطية، لتواجه الواقع الذي يرزح تحت نظم متسلطة، كما أطلق عليها النقاد عنوان الرواية السوداء. في بلدان مثل تشيلي هذا النوع من البناء السردي لاسترجاع الماضي بامتياز أتاح فرصاً ممتازة لإبداع الواقعية الأدبية، هادفاً أن يصبح السياق الاجتماعي والسياسي موضوع الرواية.
 لا نستطيع أن نعرف ما إذا كان أدب التهويل سوف يشكل حلاً من الحلول الممكنة للجيل الجديد من الأدباء العرب، كما لا نستطيع أن نتنبأ بأن الجو العام المتشائم الحالي سوف يطول أدبياً لأكثر من عقدين، ولكن بكل تأكيد سوف تبقى الذاكرة منبع الألم للأبد عند بعض أفراد المجتمع وبينهم الأدباء.
«لست سيئاً، يا سيدي، مع أنّه لا تنقصني الأسباب لذلك...»، مازالت هذه الجملة أحد أجــــمل الطــــرق لـــــكي يبــــدأ سجــين ما اعترافاته ■

(*) عنوان رواية لعبدالرحمن منيف من أدب السجون