فن ولوج الذات... أو مسرح المونودرامـا

فن ولوج الذات...  أو مسرح المونودرامـا

في التجربة المسرحية العالمية يبقى مسرح المونودراما فناً متفرداً خاصاً لطبيعته المستعيدة صوت الماضي وأحداثه ومواقفه المتعددة على نحوٍ  ما، في صوت واحد هو صوت الشخصية المونودرامية الواحدة المتفردة والمتشظية بعلاقاتها ورؤاها الكامنة في وجدانها الغائر المليء بالضيق والحزن والشك والتعب وربما الأمل أيضاً في صراع شاق ومُضنٍ مع الآخرين، لتكشف عن معطيات التشابك والالتحام والتجاوز، ولنكتشف بأنفسنا النتيجة يُجَسّدها ويعيد إنتاجها البطل الواحد بالتشخيص الذهني.

 المونـــــــودراما مسرح يقول عنه عــــبدالكريم برشيد إنه المسرح الذي يقـــــوم بالأســـــاس على ممثل واحد, وهذا الممثل لا يملك إلا خياله وعواطفه وذاكرته وجسمه، وهي المسرحية التي يؤديها ممثل واحد، وإن كان ثمة ظهور أكثر من ممثل في مسرح المونودراما فذلك دون أن تكون لشخصيات أخرى مشاركة ناطـــــقة في العرض المونودرامي. ويشير هيثم الخواجة في كتابه «أطياف المسرح العربي» إلى أن المونودراما من أصعب أنواع الكتابة المسرحية, وهو مختبر دقيق وحساس من أجل الكشف عن الممثل المبدع الذي يحل محل ممثلين عدة، ويبدو الاهتمام بالمونودراما كنص مسرحي متفرد من سمات الأدب في العصر الحديث.
خلع القناع
ولو تتـبعــنا أصـل الـكـلـمة اللاتـيـنـيـة Monodrama لوجدناها تنقسم إلى كلمتين الأولى MONO أي الواحد، وDrama وتعني «الفعل» وهي كلمة تعني اصطلاحاً «مسرحية الممثل الواحد» أو عرض الشخص الواحد (One Man Show)، وإن كانت بداية مسرح المونودراما قد وجدت من خلال بدايات الحركة المسرحية الأولى التي ظهرت في اليونان على يد ثيسبيس Thespis الذي يعد أول ممثل معروف في التاريخ ومن اسمه اشتق المصطلح الإنجليزي Thespian أي مسرحي، حيث كان ثيسبيس ذلك الممثل اليوناني ماهر الأداء قادراً على جلب حالة الإدهاش للجمهور اليوناني من خلال قدرة متقنة على تمثيل الشخصيات المختلفة ولعب أدوارها على خشبة المسرح وهو يغير ملابسه ويرتدي بعض الأقنعة المصنوعة التي تتناسب مع شخوصه معتمداً على حركته وطريقة أدائه، إلى أن ظهر أسخيلوس الذي عمل على كسر فردية الأداء باستعانته بممثل ثانٍ له دور أيضاً، وكذلك ظهرت أشكال مسرحية أخرى تعتمد على «ممثل واحد» مثل «الجونجلرز»، وهو شكل من أشكال المايم mime عند الرومان، وكذلك «البانتومايم»، الذي يقوم به ممثل واحد أيضاً، ثم عادت المونودراما الحديثة مع الألماني جوهان كريستيان برانديز الممثل والمؤلف المسرحي الكبير الذي استحضر فن ثيسبيس الأول في عرض مسرحياته التي كان يكتبها هو ثم يُمثلها هو بنفسه أيضاً، ومن خلال شخصية واحدة.
يعتبر المسرح المونودرامي امتداداً للفنون التراثية الشعبية التي ظهرت في حياة الشعوب مثل الراوي والحكواتي، ولكن بطريقة أكثر تلاحماً مع الجمهور، إذ يعتمد الفن في مسرح المونودراما على التنظيم والتخطيط الجدي لا الارتجال والعشوائية الشفوية التي تتغير وفق المكان والزمان والبطل، فنجد البطل في النص المونودرامي الجيد مكتمل الملامح، مُعبراً بصدق ورؤية عن دوره المحدد فوق خشبة المسرح، ذلك الدور الذي يؤديه بناءً على نص مسرحي مكتوب بعناية وإخراج وسينوغرافيا، ومن خلال أداء متقن وواضح، كل ذلك بطريقة ممنهجة قادرة على رسم الصورة وتشـــابكها وعلاقاتها للنفاذ إلى جوهر الحالة وسر تشابكها وعلاقاتها المستمرة بطريقة دراماتيكية مركبة لصراع نفسي يدور من حيث شخصية متفردة، متعددة الأصوات، ثابتة الرؤية، تستعيد موقفاً أو مواقف مما جرى بينها وبين الآخرين في حالة من الصراع القلق المشوب بالأسى والخوف أيضاً لتعيد إنتاجها وتقييم النتيجة التي أسفر عنها ذلك الصراع معها ومن ثَمَّ تقويم موقفها ووجودها من ذلك الحدث نفسه، فمن خلال البطل الواحد/الصوت الواحد يجب على المؤلف أن يستعيض عن أشخاص عدة وأصوات عدة من خلال ممثل واحد هو ذلك الممثل القادر على فرض رؤية متكاملة على خشبة المسرح وتوظيف جميع عناصر العرض المسرحي كالجسد والإيماء والحركة والإشارة والكلام والانفعالات العاطفية والتعبير والموسيقى والصوت والحركة والسكون وكل مفردة سينوغرافية وغيرها من تقنيات، لتوظيفها توظيفاً جديداً وربما غير متوقع لخلق نوع من التواصل الحميم والعميق بين الممثل والجمهور. وإذا كان تطور الشخصية في المسرحية متعددة الأشخاص ينشأ من خلال فعل تبادلي بين تلك الشخصيات، فإن تطور الشخصية في مسرح المونودراما ينمو من خلال فعل ذاتي تقوم به الشخصية المنفردة الوحيدة، إذ تقوم بالفعل ورد الفعل في آنٍ واحدٍ، وزمنٍ واحدٍ ومن خلال ردود أفعالها الشخصية ومدى تأثرها.
إن أهم ما يميز مسرح المونودراما هو قدرته على خلع القناع أمام الجمهور، حيث يجد المتلقي نفسه في رحلة مثيرة تمكنه من رؤية الإنسان وجوهره، كما يقول لويس كارتون في كتابه «The power of one» أي «قوة الشخص الواحد»، حيث أكد أنّ المسرحية متعددة الشخصيات ترتدي فيها كل شخصية قناعاً ما مختلفاً يتغير وفق سير العمل والأحداث في المسرحية والزمن. أما في المونودراما فإن الشخصية واحدة بلا قناع مما يُمكِّن المتلقي من النظر بعمق في دواخل الذات الإنسانية التي تلعبها الشخصية الواحدة، ثم يستشهد بـ«هاملت» في مونولوجه الشهير الذي قاله وحده من دون حضور الشخصيات الأخرى «أن أكون أو لا أكون هذا هو السؤال». 
لقد نزع هاملت قناعه الذي ما كان ممكناً لو وجدت شخصية أخرى معه، فيما يعتقد أن إزالة القناع بالنسبة للممثل الواحد تعطيه إحساساً دفيناً بأنه بإزالة القناع يظهر ضعفه أمام الجمهور مما يمنحه حالة متفردة ومثيرة ومدهشة له.

مناجـاة
هي مناجاة شخص لنفسه في حوار ذاتي وواضح بلا مداراة في صراعٍ دامٍ بين صوتين في شخصية واحدة... صوت الذات التي تشعر وتتألم وتصرخ، وصوت العقل الحاد، تجسدها المشاعر والأداء ليتغلب فيها صوت المشاعر على صوت العقل. والمناجاة والمونولوج هما الأداتان الأكثر أهمية في مسرح المونودراما، حيث يستعين بهما الممثل في عملية الاسترجاع «فلاش باك» لاستعادة بعض الصور من مواقف سابقة أو حالة أو معاناة سابقة مما خلَّفت في نفسية الشخصية بعضاً من الألم أو بعضاً من الضيق والحزن أو شيئاً آخر من السرور والفرح وربما أمل منتظر يمكن تحققه لتُعبر عما بداخلها من أسى نتيجة ذلك الصراع.
والحقيقة أن المونودراما شكل أصيل في أشكال المسرح العالمي وأكثر فنون المسرح إثارة للجدل بين مؤيدٍ ومعارض، فهي وإن كانت قد وَجَدت من أسس لها وساهم في إرساء قواعدها في الغرب بدءاً بجان جاك روسو – الذي يرى البعض أنه أول من كتب مسرحية مونودرامية مكتملة الأركان وتحت مسؤولية فنية كبيرة - في مسرحية «بيجماليون» (1760)، وقد تناولتها أسماء كبيرة أيضاً مثل تشيكوف الشهير في مسرحية «التبغ» ووصفها بالمونولوج في فصل واحد، ووجه الحديث للجمهور الذي اعتبره هو ذاته جمهور المحاضرة التي تتحدث عن أضرار التبغ، وكتبها أيضاً صموئيل بيكيت في مسرحياته «مسرح بلا كلمات، ياجو، الجمرات،  أليس، شريط كراب الأخير»، وكذلك جان كوكتو في مسرحيته «الصوت الإنساني» والشاعر الألماني جوته في عدّة مسرحيات، وكذلك يوجين أونيل في نصه «قبل الإفطار» وغيرهم... إلا أنها قد لاقت نقداً واسعاً من بعض الكتاب والنقاد مثل بيتر بروك الذي يرى أن النص المونودرامي يُفقد المسرح جزءاً من وهجه الخاص، لأنه يعتمد أساساً على ممثل واحد يقوم بأداء عرض مسرحي كامل, وبذلك تغيب سمة التفاعل التي يقوم عليها أي حدث درامي حقيقي على خشبة المسرح بين ممثل وممثل آخر في ثنائية التعامل بين فعل ورد فعل، وفيما يرى البعض أن الشخصية المونودرامية هي شخصية وحيدة منفردة ولا يمكن أن تُرى إلا من منظورها هي من دون أن يكون هناك بعض الآراء حولها، وهي بذلك تنأى بالشخصية بعيداً عن محيطها الاجتماعي، وعن تواصلها مع الآخر.
 وهناك من النقاد من يرى أن المونودراما فن يمكن استسهاله من البعض، حيث تقل تكلفة إنتاجه وتتيسر عملية تنقلاته من مكان إلى آخر، فلا يكون هناك سوى مخرج ومؤلف وممثل واحد لا أكثر، وبالتالي تقل التكلفة الإنتاجية، وإن كان هذا الرأي وهو أقرب للصواب ويعتبره كثير من النقاد من عيوب المسرحية المونودرامية، فإن ذلك قد يكون نقطة مهمة في مصلحة النص المونودرامي من وجهة نظر المؤيدين لمسرح المونودراما، خاصة في ظل الركود العام لحركة المسرح في العالم العربي خلال الفترة الأخيرة، وخير دليل هو ازدياد مسرح المونودراما حالياً بشكل واضح وجلي، كما يتميز مسرحها من وجهة نظر آخرين بأنه مسرح خلع القناع والاعتراف والنقد على حد الأسى.

البطلُ المونودرامي
لا يقوم مسرح إلا عند توافر شرطين أو طرفين أساسيين لا غنى عن أحدهما بأي حالٍ من الأحوال، هما «ممثل وجمهور»، مثلما يعبر عنه الكاتب ماكس راينهارت، وعليه فإن ممثل الشخصية المونودرامية بمفرده يعتبر اللاعب الأساسي رقم واحد في هذه الجولة على الخشبة في مواجهة الجمـــهور الذي يمثل الطرف أو الشرط الثاني، ولابد للطرف الأول أن يمتلك قدرة خاصة وأداءً مختلــــــفاً ومؤثراً ربما لا تحتاجهما مسرحيات متــــعددة الشخصيات، فالممثل / البــــطل المونــــودرامي هو الطرف الأول والمحرك الأول لكل مفردة سينوغرافية على خشبة المسرح, وهو نفسه الممثل القادر على تفادي الوقوع في فخ رتابة الحوار السردي الطويل في النص، والبطل الوحيد والأداة الوسيطة بين النص والمتلقي، الذي يحمل الجزء الأكبر من مفردات الرسالة المونودرامية والذي عليه أن يوصلها بالشكل المناسب الصحيح الذي يؤكد دلالات النص والهدف منه وغايته، والذي يشغل الحيز المكاني «الخشبة» والحيز الزماني (زمن العرض) دون أن يترهل أداؤه أو أن يتسرب الملل إلى الجمهور، فإذا كان النص المونودرامي نصاً عميقاً يتطلب رؤية واسعة على رصد الحدث في الزمان والمكان المناسبين وبطريقــة تتجاوز سردية الأداء أو ترهله يستطـــــيع أن يوجه ممـــــثلاً واحداً يلعب دوراً مختلفاً وحالة درامية يستطيع الدفع بها من خلال تصاعد وتنامي الأحداث وتشابكها وبين ردود أفعال الممــــــــثل فوق خشبة المسرح، فإن الممثل الذي يصفه كيث جونستون بالقول: «بوسعك أن تشاهد ممثلاً رائعاً في الصفوف الخلفية لمسرح كبير لا يمثل وجهه إلا بقعة ضئيلة في شبكية العين فتـــــتوهم أنـــك رأيت كل تعبير دقــيق، مثل هذا الممثل يمكــــــنه أن يجعل القناع الخشبي يبتسم وشفتيه المقوستين ترتعدان, وحاجبيه المرسومين يضيقان». 
والبطل المونودرامي متفرد لا يمكنه أن يقدم تفرده إلا إذا ابتلع دوره، ولاكه وهضمه مفككاً روح جسده وعاداته الشخصية التي سيلعبها في جسده هو، وصولاً إلى كيمياء روحية وجسدية بينه وبين الشخصية، حتى يصل بوعي بصري وفكري إلى نبش قيعان الشخصية تماماً كما يقول جواد الأسدي.

مونودراما عربية
إن مسرح المونودراما في العالم العربي بعيد في الحقيقة إن لم يكن مغيباً، بل ذهب البعض للقول بأن القليل من المسرحيين العرب قادرون على تولي مسؤولية التورط مع وحدانية الشخصية على خشبة المسرح. ويرجع ذلك إلى عدم امتلاك البعض من أدوات المسرح أكثر من موهبة الحركة والحوار والبكاء، وتلك أقصى غايات الإبداع لدى غير الموهوب، لأنها تكون قاصرة عن تقديم العرض المتكامل فنياً مثلما يراها الدكتور فاضل خليل. 
وقد قدم المسرح العربي عدداً قليلاً من الممثلين الموهوبين الذين اهتموا وعمدوا على تقديم عروض المونودراما، مثل المسرحي المغربي عبدالحق الزروالي، الذي قدم أكثر من عشرين مسرحية كتبها وأخرجها ومن ثم مثلها وحده، والفنان زيناتي قدسية والفنان اللبناني رفيق علي أحمد، والفنان عبدالعزيز الحداد وغيرهم ممن رأوا في النص المونودرامي مساحة خيالية للتعبير عن قدراتهم الخاصة لتجسيد شخصية وحيدة متفردة هي البطل الوحيد على خشبة المسرح ■