ألفريد فرج... مبدعاً مسرحياً بالمصادفة

ألفريد فرج...  مبدعاً مسرحياً بالمصادفة

ما من مجال تدخلت المصادفة في صناعة بعض رموزه وأبطاله كما فعلت في الفنون التمثيلية، فهذه فتاة ترافق جارتها في مقابلة فنية كانت فيها على الهامش، فيحدث أن يتم رفض صاحبة الموعد والمبادرة، وتقبل الرفيقة لتصبح «سيدة المسرح العربي» نجمة متألقة في سماء المسرح العربي الفنانة القديرة سميحة أيوب، وشاب آخر يتبدل حاله بالمصادفة من موظف حسابات في «استديو مصر» إلى فتى الشاشة الأول، بطل أشهر أفلام السينما العربية، إنه نجم التمثيل السينمائي الراحل عماد حمدي.

رصد توفيق الحكيم شيئاً من ذلك في روايته الشهيرة «الأيدي الناعمة» بطريقة أكثر عمقاً، عندما نجح شاب فقير في أداء دور الأمير «البرنس» بينما عجز «البرنس» نفسه في التعبير عن حقيقته ونفسه، ولذا كثيراً ما نستعين بمن يعبر عنا من محامين ومطربين وممثلين وكتاب ندعمهم لأنهم يحسنون التعبير عنا، وكثيراً ما نجهل مواهبنا إذا لم نصادف ما يكشف عنها، ولذلك كان للمصادفة دور كبير في الكشف عن عدد من الموهوبين ومنهم الكاتب والمنظر والمؤرخ المسرحي الراحل ألفريد فرج، أحد أهم كتاب المسرح العربي المعاصر ومفكري عصره الذهبي، وهو مصري الجنسية ولد بمحافظة الشرقية عام 1929 وحصل في مدينة الإسكندرية على ليسانس الآداب عام 1949م، وقد بدأ رحلة الكتابة المسرحية بنص «صوت مصر» وأنهاها بـ«الأميرة والصعلوك»، وبين البداية والنهاية كتب نحو ثلاثين مسرحية، منها «سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم» و«حلاق بغداد» و«الفخ» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفة» و«النار والزيتون» و«جواز على ورقة طلاق» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«عسكر وحرامية» و«غراميات عطوة أبو مطوة»، وله كتب مهمة في مجال التنظير المسرحي هي «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» و«الملاحة فى بحار صعبة» و«أضواء المسرح العربي».

جوائز وتكريمات
حصل ألفريد فرج على جوائز وتكريمات كثيرة محلية وعربية، منها «جائزة الدولة التقديرية» و«جائزة القدس» و«جائزة العويس» و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي»، التي حصل عليها عام 2003م في موضوع الحركة المسرحية في الوطن العربي عن أعماله المسرحية الخالدة، مثل «غراميات عطوة أبو مطوة» وكتاباته النقدية مثل «الرحلة إلى المسرح المجهول»، وعمّا امتازت به أعماله من رؤى فكرية عميقة، وعن القيم الإنسانية العظيمة التي كان يلح عليها في أعماله والتي تدعو إلى خلق إرادة قوية فاعلة، وبالإضافة إلى المستوى الرصين الذي يؤهله لأن يكرم ويوضع في مصاف المفكرين، حصل أيضاً على وسام الدولة للعلوم والفنون مرتين، لأنه انحاز في أغلب أعماله إلى العروبة والتقدم والعدالة، وأسهم ألفريد فرج كذلك في تأسيس «جمعية كتَّاب الدراما» التي ضمت أشهر كتَّاب الدراما المصرية أمثال محفوظ عبدالرحمن، وأبوالعلا السلاموني وغيرهما، وحتى ساعاته الأخيرة كان يبدي اهتماماً كبيراً بنشاط هذه الجمعية الثقافية والأدبية التي كانت تهدف إلى التأكيد على احترام الكتاب ورفع شأن الدراما العربية، وكان يدعو من خلالها إلى الاهتمام بإعادة المسرحيات القديمة سواء كانت له أو لغيره، وأنه من حق أي كاتب مسرحي أن يعاد عرض مسرحياته طالما أنها لاتزال تحمل مقومات العيش بيننا، وقد انتهى هذا الكيان الثقافي برحيله، وآخر مرة ذكر فيها اسم الجمعية كانت في تأبين ألفريد فرج بحضور رموز المسرح من جميع الأقطار العربية بالمسرح القومي في القاهرة.
كان أمام ألفريد فرج في ميدان المسرح العربي قامات كبيرة، وكان عليه أن يكافح كفاحاً عظيماً كي يحاكيها أو يجد لنفسه مقعداً على مائدة المسرح العربي، ولذلك اشتغل على نفسه وطور أدواته، وساعده في ذلك ما تمتع به من صدق في التفاعل مع قضايا الوطن الذي جعله ضمن قائمة المعارضة وهدفاً للسجن السياسي، ورغم ذلك ظل ألفريد طوال حياته يبحث عن الكمال في الفن وهو قيمة فكرية مهمة فى طرح قضايا الحرية والمعرفة لتحرير البشر من البؤس والشقاء.
رغم كل هذا الحضور المسرحي ما كان ألفريد فرج ليمتهن المسرح إلا بالمصادفة التي قادت صديقه أحمد حمروش، وهو أحد ضباط ثورة يوليو 1952م الذين اتجهوا إلى العمل بالصحافة ومنها إلى الثقافة، حيث عين مديراً للمسرح القومي المصري فاستكتب زميله من الصحافة ألفريد فرج نصوصاً مسرحية لعرضها على أهم مسرح في مصر وهو المسرح القومي. هكذا دعي ألفريد إلى الكتابة المسرحية فأحبها وامتهنها واستثمر منبرها للتعبير عن ذاته وعن قضايا الناس ومشكلات الوطن التي كان مهموماً بها من قبل، حتى أنه سجن بسبب الرأي وقتها. كان مشروع كاتب مسرحي وخرج من سجنه كاتباً مسرحياً، وأصبح على حد تعبير أحمد حمروش أول صحفي يتجه إلى الكتابة المسرحية.
ألفريد فرج له وجه تنظيري في مجال النقد الأدبي والمسرحي، وله كتاب مهم في هذا الشأن هو «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» الذي نشره وهو في السابعة والثلاثين من عمره, وكان وقتذاك قد ألَّف ونشر ست مسرحيات فقط وعرضت له خمس مسرحيات، وقد أظهر في هذا المؤلف عمق الناقد الذي بداخله، وهو ما أفاده في معالجة مؤلفاته المسرحية وأكسبها شجاعة وصدقاً لا يناظره فيهما أحد، فقد كان يسمي نصوصه المتأثرة بالكاتب الألماني برتولد بريخت باسم النص نفسه الذي تأثر به أو تناص معه بكل وضوح وشجاعة، ومن دون أدنى تردد ما كان ليخشى أن يتهمه أحد بالنقل أو التقليد، لأنه في الواقع لم يكن يقلد وإنما كان يقدم معالجة جديدة وفريدة وعربية لنص غربي بريختي الفكرة، لأنه كان يفهم جيداً أن المسرح معالجة وليس فكرة، ولذلك كتبت عشرات المسرحيات عن كليوباترا ولا علاقة لأي منها بالأخرى، ونموذج ذلك نص مسرحية «على جناح التبريزي وتابعه قفة» التي تشبه في الاسم لا في المضمون ولا في المعالجة مسرحية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» لبريخت. لألفريد فرج أيضاً وجه تأريخي وتوثيقي كشف عنه كتابه «شارع عماد الدين وحكايات الفن والنجوم» الصادر أوائل ديسمبر 2005م قبل رحيله بقليل.

ألفريد فرج والتراث
من مؤلفات ألفريد فرج الروائية «حكايات الزمن الضائع في قرية مصرية», و«أيام وليالي السندباد», وله في السرد كذلك مجموعة قصص قصيرة بعنوان «أيام عربية» ترجمت إلى الإنجليزية. استلهم ألفريد فرج إبداعاته من التراث الفرعوني ثم انتقل إلى «ألف ليلة وليلة» بمذاقها الساحر, وكذلك حكايات التاريخ والتراث العربي والمسرح العالمي.
 عرضت أولى مسرحياته «صوت مصر» عام 1956م على خشبة المسرح القومي بالقاهرة, ثم «سقوط فرعون» عام 1957م من إخراج حمدي غيث لمدة أحد عشر يوماً فقط لمعارضتها سلبيات الحكم الناصري وقتئذٍ, وكتب ألفريد فرج مسرحية بعنوان «بالإجماع 1+» تعرض فيها للاستفتاء على جمال عبدالناصر، موضحاً أن الحاكم يحتاج لكي يحكم إلى ما هو أكثر من الإجماع، ولذلك كان جزاء ألفريد فرج أنه حين فتح النظام أبواب سجونه ومعتقلاته بعد عامين من عرضها كان أول من اعتقل لكونه صاحب «سقوط فرعون» واستمر سجينا من عام 1959م إلى عام 1964م.
كتب ألفريد فرج في المعتقل مسرحيته الشهيرة «حلاق بغداد»، وهي كوميديا خيالية في حكايتين مثيرتين هما «يوسف وياسمينة», و«زينة النساء» ومن طرائف هذه التجربة أن ممثليها الأوائل ومشاهديها الأوائل كانوا من المسجونين, ولذلك بعد إطلاق سراحه أخرجها «فاروق الدمرداش» عام 1965م، ومن تأليف ألفريد فرج عرضت مسرحية «سليمان الحلبي» عام 1966م، ومسرحية «عسكر وحرامية» عام 1967م، و«الزير سالم» عام 1968م، بينما عرضت مسرحية «على جناح التبريزي وتابعه قفة» عام 1970م، وتم وقف عرضها بناء على تعليمات نظام أنور السادات، ومن تأليف ألفريد أيضاً مسرحية «النار والزيتون» التي تتعلق بالمقاومة الفلسطينية، وبسبب مواقفه السياسية منعت أعماله من العرض على المسرح المصري لمدة أربعة عشر عاماً بعد مصادرة «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، لذلك هاجر من مصر وعاش بالأردن بين الفلسطينيين بين عامي 1968و1969م، ثم عمل مدرساً بالجزائر, وبعدها سافر إلى العراق ثم الكويت ثم باريس وأخيراً لندن.
في مرحلة تالية من حياته الإبداعية كتب ألفريد فرج عدداً من المسرحيات منها «جواز على ورقة طلاق» عام 1973م وكتب «رسائل قاضي إشبيلية» عام 1975م و«الحب لعبة»، وفي عام 1985م قدم له المسرح المتجول مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية» و«أغبياء وفقراء» 1988م، وآخر مسرحياته هي «الأميرة والصعلوك» التي عرضها المسرح القومي بطولة وإخراج نور الشريف.
إلى جانب ذلك كتب ألفريد فرج دراما تلفزيونية رائعة هي «بقبق الكسلان» بطولة عبدالمنعم إبراهيم إلى جانب مسرحياته التي اقترب فيها من عالم الطفولة وخيالها، كما في «رحمة وأمير الغابة المسحورة»، وقد طبعت هيئة الكتاب المصرية أعماله الكاملة في عشرة مجلدات تشمل إبداعاته المسرحية ومقالاته وكتاباته النقدية، وترجمت هذه الأعمال لتكون نماذج فريدة لتمثيل الأدب المسرحي العربي.
حصل ألفريد فرج على جائزة القدس من الاتحاد العام للكتَّاب والأدباء العرب، وحصل كذلك على جائزة الدولة التقديرية في الفنون والآداب من المجلس الأعلى للثقافة المصرية عام 1993م، وعين بعد ذلك رئيساً للجنة المسرح بالمجلس الأعلى، واستمر في منصبه حتى وفاته. ولأجل كل ذلك رشحته جامعة القاهرة قبل وفاته بأسابيع لجائزة «نوبل» وكان سعيداً رغم مرضه الأخير بهذا الترشيح فرحاً بوجود كاتب عربي ضمن قائمة المرشحين لـ«نوبل» بعد نجيب محفوظ، ولذلك طلب من شقيقه الكاتب الصحفي نبيل فرج توفير نسخ من جميع مؤلفاته وإرسالها له في لندن ليقوم بنفسه بتحضير ملف الترشح، ولكن حال دون تقديمه عدم اكتمال شروط الترشيح للجائزة، وبدلاً من تحضير ملف «نوبل» كما صرح شقيقه نبيل فرج ليلة التأبين، تم تحضير مراسم دفن ألفريد فرج يوم 4 ديسمبر 2005م، بعد رحلة كفاح مع المرض وتوقف بناء عليه مشروع «نوبل» لأن أهم حيثياتها أن يكون المرشح على قيد الحياة.
غاب جسد ألفريد فرج لكن أفكاره وإبداعاته الجميلة وسيرته الثورية مازالت تحتفظ له بوجود على الأرض ككاتب يرحل متى قدر له الرحيل، لكن تبقى أقواله وأفكاره على قيد الحياة ■