المسرح... والسيرة الافتراضية للشخصية

المسرح...  والسيرة الافتراضية للشخصية

قدم المؤلف والمخرج المسرحي الدكتور عقيل مهدي تجربة مسرحية أخذت بما أطلق عليه «درامية النمط»، وذلك من خلال أعمال اعتمدت شخصيات معروفة في مستوى الفن والفكر، عاملاً، من خلالها، على نقل «الشخصية» من مستواها الحياتي، التاريخي، إلى مستوى أعلى من الناحية الفنية (المسرحية)، متخذاً لها، من بعد، تسمية «السيرة الافتراضية» لهذه الشخصيات. وفي هذا المقال يتوقف بنا على ما لهذه التجربة من آفاق.

 على صعيد اشتغالي المسرحي الخاص كنت دائماً، في تجربتي الإخراجية، أفضل الموسيقى «الملائمة» الصانعة للحدث المسرحي المبتكر الجديد، ولم أفترض – لحظة واحدة – أن يقفل نوع الموسيقى على بعد «عربي»، أو «عراقي» أو «غربي»! إن توظيف هذه الموسيقى يتمّ بالتعاون مع مصمم «الموسيقى»، وهو صاحب الخبرة الحاسمة، من بعد التشاور، في اختيار هذه المقاطع، والموتيفات motive الموسيقية والصوتية، الكفيلة بنقل «الحوار»، و«الشخصيات» من أفق محدد خاص، إلى أبعاد مفتوحة، ومؤثرة، مع توظيف الوعي، والخبرة الجمالية، والنقدية، والعروض التي سبق تقديمها أو المشاركة فيها، بصفة ممثل، في أبرزها.

 طبقات النص
 أعتقد أن النص الظاهر هو دليل يقودنا إلى أعماق النص «الباطنية»، لأنه في «قلبها» هذا، تنبض كامنة الصور، السمعية والمرئية، وبالتالي، يُخصّصُ كلانا وقتاً طويلاً لمتابعة ذلك النصّ الموازي للإخراج، هو النصّ الصوتي، الملحن للكلمات الحوارية، وبهذا التفاعل المكرسّ «للتأويل» الإخراجي، تنجز «الرؤية الفنية» للعرض. حتى لا يقع العرض في «نثرية» مباشرة لا تقوى على التحليق في فضاء المخيلة، والتخييل، لاستقدام الصورة النهائية للعرض، وتوظيف التقنية لمساهمتها في تسهيل مراحل تطور العرض في فضاء يحفل بالموسيقى التي تتسيّد تحفيزاته على مخيلة المتفرج، وعلى طريقة تلقيّه للعلامة الرئيسة، المكثفة، والدالة، التي تسوّقها الموسيقى للمتفرج.

موسيقى أداء الممثل
لا يحق للمخرج أن يتنبّه إلى حركات الإعراب وحدها، في نطق الكلمات، والجمل، بل يتخطى ذلك إلى زرع ذبذبات لحنية أساسية في المعنى الفني الجمالي، لعمل الممثل على الدور. فالممثل هو من يقع عليه واجب تنظيم طبقات صوتية، والفرز بين الأصوات الجهيرة من المسموعة همساً، أو الذهاب بها إلى مراتب مرتفعة، أو منخفضة، تبعاً للضرورات الفنية للعرض، وما يمليه الموقف، أو الحدث الدرامي، وطبيعة التشكيل الحركي، وإطار المنظر العام. هذا كله يرتبط بأبعاد شخصية الدور، ومن أهمها النفسية، الروحية، والمزاجية، وتوقيتات حركاته، ذلك لأن الموسيقى في المسرح، ترافق خطو الممثل، ولن تنعزل عن وجوده في مساحات مخططة، مدروسة فوق الخشبة لإبراز دوره وتجسيمه. ينبغي الحرص على حسن أداء الممثل، وعلى الدلالة المعنوية، المركبة من لغة النص الدرامي، وكلمات الممثل بنوتاتها mote الموسيقية، وهو ينطقها على المسرح، وتتدرج الحال مع الممثل من مرتبة التفسير إلى مرتبة التأويل، إلى التمكن الشخصي الخاص بأداء الممثل الصوتي والجسدي، وهو يخلق دوره إبداعياً وفق موهبته ومهاراته. عندما نتعامل مع موسيقي أكاديمي محترف، فإنه غالباً ما يستجيب، بطريقته الخاصة، إلى ما يجري تأكيده في التمرين، أو ما يتطلب إعادة إنتاجه ثانية، ليتأطر مشهدياً، ويضمّ حزمة لحنية، ومؤثرات صوتية حاملة للإشارات الزمانية والمكانية التي توفر صدقية واضحة، ومقنعة، للمشهد المسرحي.

 نبض العرض المسرحي
كذلك، لا ينفصل الإيقاع المأخوذ مجازاً من الموسيقى والموظّف في الأدب الدرامي، عن الإيقاع الحقيقي أو الأصلي الخاص بالإيقاع الموسيقي نفسه.
لكل نأمة، وتشكيلة، وخروج ودخول، وصعود ونزول، إيقاعها الخاص. وحتى لا ينفرط هذا الإيقاع إلى أحادات جزئية، تراكمية، ينبغي تكوينها، وبناؤها وفق أنساق زمنية موسيقية وجُمل خاصة، ضمن بنية إطارية مشهدية تسهم بتكراراتها، وتسلسلها، وانعطافاتها، بالتمهيد مع المشهد الآخر، وصولاً إلى نقطة الختام، تتعمّق العلاقات الموسيقية، وضربتها الصاجّة، أو المكتومة بحسب خطة الإخراج المعتمدة في صناعة العرض. إن بنية الأحداث الفرعية هي التي تصوغ البنية الكبرى، النهائية، للعرض، وتضفي عليه صفة التكامل، لتحقيق أثره، فنياً، وجمالياً لدى المتلقي، الذي ينشدُّ للعرض، بما تضخه من دلالات من خلال الصورة السمعية للموسيقى، والأغاني، والمؤثرات الصوتية، أو الإنشاد، والإلقاء الجميل، والجليل، وتعديل عمليات تلقيه في الصالة، لينتمي طوعياً إلى مجرى يتناغم مع الصوت التعبيري، والتصويري للمادة الفنية التي تدور حول محاور جدلية من الغياب، والحضور عبر التفتح الزمني للعرض، وتأكيد مكانية الحدث، وبيئته المرسومة بدراية محسوبة، ومكثفة بلا ترهل أو ابتسار سلبي لا يشبع الطابع الغنائي أو الملحمي في درامية المشهد.

 تحريك صوامت المشهد 
يحرصُ المخرج على نحت دلالاته الموسيقية، في الكلمة، أو القطعة الموسيقية، في بعدها التصويري، أو التعبيري، أو في هيمنة طبيعة المؤثرات الصوتية وفترات الصمت. فالموسيقى، قادرة على تحويل الشخصيات الصامتة والمشاهد الصامتة، إلى شخصيات، ومشاهد ناطقة، وفي الغالب تكون معبرة، كما يقال، عن لسان الحال المعبّر عن الموقف والشخصية في لحظات العرض المسرحي الزمنية، المتدفقة، والمتحولة. والحق يقال، أضفت الموسيقى التي أنتخبها الفنان د. طارق حسون على عروضي، كما بيّنت، رشاقة وشكلاً صافياً، عمّقا من أناقة العرض، وعزّزا من اتساع رقعة تأثيره بعمق في صالة المشاهدين، وإثارتهم وجدانياً، وفكرياً، وجمالياً.
قد يتناول المخرج – أيضاً – نوعاً معيناً من أجناس الدراما، مثلاً في الكوميديا يكون مسار (اللحن) متقاطعاً مع مثيله في التراجيديا وينتقل من الخفّة وإشاعة البهجة والمتعة، إلى ضرب من معاناة مؤسية، شجية.
ترتبط الموسيقى أيضاً بالجذور الاجتماعية، سواء في تجربتي الإخراجية، أو في تجارب الآخرين، فقد توحي الأجواء الأرستقراطية بموسيقى لا تجدها في قاع المجتمع وطبقاته السفلى. ونسمع كذلك أن لهيمنة السلطة مساراً سمعياً يختلف عن هدير الجموع وانتفاضتها ضد تسلطها، وثوراتها الكاسحة الغاضبة. قد تكون الموسيقى، والمؤثرات الصوتية، حيّة، أو مسجّلة بحسب ظروف المتطلبات الفنية للعرض، أو بحسب ظروف الإنتاج المادي، أو وفق قدرات الممثلين الغنائية ومهاراتهم على العزف الموسيقي، أحياناً. أو ما يقتضيه المسرح المعاصر من مواكبة للحساسية الموسيقية للجمهور المعاصر، ولكن يبقى الأساس هو محاولة خلق نسق مترابط بين كلمات الحوار، وإيماءات الجسد، وحركاته في فضاء الموسيقى.

 الموروث المسرحي والحداثة 
 العرض المسرحي - كما أراه - يعتمد على نسيج النص الدرامي، لأنه ينقله إلى مجال حيوي جديد فيحقق وظائف نفعية تداولية، ويعزز القناة الإبداعية لإيصال الفكرة إلى الجمهور بمعالجة فنية جمالية تتخذ شاعرية متفردة للعرض يجتمع فيها التجريد مع التجسيد المادي الذي تجسّده أجساد الممثلين، والديكورات، والأكسسوارات، والأزياء. وتأتي في جانب روحي مقابل هو الموسيقى، وقد تكون غير ملموسة مادياً، لكنها تأتي محسوسة، وموحية، وبالغة الصفاء والدلالة، لتعزّز تماسك عناصر العرض، ومتابعة اتجاهاته الحركية الآنية «التزامنية»، أو «المتوالية» المتتابعة، وهي تغذ مساراتها باتجاه هدف أعلى للعرض، يستقطبها. 
 كل مخرج يحرصُ على تحقيق عرض متكامل، حتى لا يدع البعد الموسيقي يأتي متنافراً مع بنائه، وتكوينه الخاص، مع الأخذ في الاعتبار أن القبح الموسيقي، والنشازات قد يتطلبها السياق الدرامي – أحياناً – للعرض في حالة مقصودة من الحالات، على سبيل المثال، معالجة «الجروتسك» groteskeفي عروض الحداثة الجديدة، أو حتى في العروض الكلاسيكية، والتقليدية، التي تتطلب مثل هذه المعالجات المنزاحة عن التنميطات السائدة. ترك لنا المسرح العالمي تجارب مختلفة في تعامل الموسيقى مع العرض ومنها تجربة فاجنر الذي أكدَّ الحالة المزاجية (Mood) لتحقيق الكمال والدقة، في صورة فنية تتسيدها العواطف والانفعالات، كما في تجربته الأوبرالية مثلاً.

زمنية العرض 
في العرض المسرحي تربط زمنية الموسيقى، ماضي الحدث بآنية الأفعال القائمة الآن أمام الجمهور، وبمستقبله المقبل لتدفع المتفرج، متأثراً ومتابعاً لأجزاء العرض ووحداته، من دون الابتعاد عن الإطار السياقي الاجتماعي، أو أسئلة الحداثة التجريبية، والمحفزة إبداعياً. وإن كانت الأصالة التاريخية والاجتماعية للعرض تخصّ الأزياء، والمناظر، لكن تبقى روح العرض الداخلية، ومضمراته السرّية، رهينة الموسيقى التي تتكفل بها بالتضافر مع المؤثرات الصوتية وإلقاء الممثل.

الموسيقى والعرض تاريخياً
منذ تقسيم أرسطو للتراجيديا، تعرفنا إلى الديثرامبوس الذي يترجم إلى الأمدوحة، والكلمة تنقسم إلى مقطعين، ديو: اثنين وثرامبوي: إنشادي، توقيعي، منظوم. وفي فترة لاحقة قسم بوالو فن الشعر إلى أربع أغانٍ هي:
قوانين عامة، خصائص شكلية مصنفة، أغان مأساوية، كوميدية، ملحمية، وأخيراً، أغنية بمحمولات أخلاقية قيمية.
وفي التاريخ المعاصر يتعامل المخرجون المسرحيون مع الموسيقى بوصفها بنية رئيسة وأساسية تصنع صورة العرض السمعية التي تثري صورته المرئية، وتوسّع من آمادها الجمالية، لتؤثر في المتفرج فضلاً عن دور الإلقاء في وقفات صوت الممثل وتنغيماته، لينقل الحوار الدرامي من موسيقى الكلمة، والجملة، والمقطع، إلى أسلبة العرض، وأسلوبيته الجمالية، حتى تصبح أصوات الممثلين معزوفة بشرية أوركسترالية، ترافقها الألحان الموسيقية، وآلاتها المتنوعة. فالموسيقى قادرة على خلق عالم علوي مفارق للسائد الواقعي، مثلاً، حاول فاجنر في مسرحيته الأوبرالية «الهولندي الطائر»، وضع لحنٍ لأغنية يؤديها الصياد إيريك تقول كلماتها: «فوق المرتفعات الصخرية، رقدتُ أحلم»، وهذا النمط الذي نصادفه في مسرحياته الأخرى، الضاجة بالموسيقى الفانتازية الخاصة بأساطير السيرينيات، برؤوسهن البشرية، وأجسادهن من عالم الطيور، ومعهن الباخوسيات الكاهنات، المنتشيات، والحوريات العذارى. نجد في عرض «تانهاوزر» أغنية تقول: «يا فينوس، أنا الوحيد الذي يعرف الحب»، فضلاً عن النظام الصوتي للغة الحوار وجرسها اللفظي، ولاسيما في  الشعر،  وغنائيته الواضحة، وكذلك في الموروث الشعبي الموسيقي والغنائي، حتى إذا توسعنا قليلاً وجدنا أن الروائي ألدوس هكسلي طمح إلى موسقة الرواية، بجملها، وكلماتها، وإيقاعاتها المتناغمة، المتجاذبة مثل سمفونية رحبة.
وفي المسرح الراقص، نجد مونتاجاً صوتياً مقتبساً من الفودفيل والميوزك هول والرفيو، وكذلك مقطوعات مبتكرة تتقابل فيها الأفكار، والأفكار المضادة، بتنوعات صوتية، كونترابونط، لتنسُج الأبعاد الصورية المسموعة لفكرة العرض المسرحي ■

 

مشهد من إحدى مسرحيات عقيل مهدي