بلاغة الصورة الساخرة... قراءة في رحلة ابن فضلان

بلاغة الصورة الساخرة... قراءة في رحلة ابن فضلان

انطلاقاً من افتراض أن النص الرحلي يسعى، فيما يسعى إليه، إلى تقديم صور  عن الآخر، انطلاقاً من ذات الرحالة، ممّا نتج عنه استشفاف مجموعة من الاختلافات على مستويات عديدة: ثقافية وفكرية ولغوية وعقدية... إلخ، فاننا نبتغي في هذا المقال دراسة مكون السخرية في رحلة ابن فضلان.

بغية استجلاء هذه التضاربات، عمد بعض الرحالين إلى وصفها وصفاً يمتاز بالأمانة والموضوعية، في حين عمد بعضهم إلى إضفاء الذاتية والنقد، وفي هذا المنحى اشتغلت آلية السخرية باعتبارها تقنية نقدية وظفها الرحالون في وصف الآخر ومميزاته؛ وهذه الآلية – السخرية – وإن لم تهيمن في رحلة ابن فضلان، إلا أنها كانت حاضرة. فما هو، إذاً مفهوم السخرية؟ وما وظائفها في المتن الرحلي؟ وما خصائصها الفنية؟

أولاً: التعريف بالرحلة
تعتبر رحلة ابن فضلان من الرحلات المهمة في تاريخ أدب الرحلات العربي، ويعود تاريخها إلى العصر العباسي، إذ قام بها سنة 921م/ 309 هـ، إلى بلاد الترك والصقالبة والروس والخزر. أما الدافع وراء هذه الرحلة، فراجع إلى السلطان العباسي المقتدر الذي أمر بإرسال بعثة إلى ملك الصقالبة، بعد أن راسله طالباً منه العون، يقول ابن فضلان في رحلته موضحاً الباعث عن الرحلة: «لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجداً وينصب له منبراً ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك»، فكان ابن فضلان على رأس البعثة التي أرسلها المقتدر.
ويعد هذا الرحالة من أبرز الرحالين في تاريخ الرحلات العربية، وذلك بفضل رحلته التي قام بها إلى حوض الفولجا، وهي رحلة نادرة نحو تلك المناطق التي لم تكن معروفة آنذاك؛ وتكمن أهمية الرحلة في كونها وثيقة تاريخية تؤرخ لمجموعة من المجتمعات مثل روسيا والصقالبة والأتراك والخزر، وتذكر عاداتهم وأخلاقهم ودياناتهم وأعرافهم الاجتماعية.

ثانياً: تعريف السخرية
إن الباحث الذي يبحث عن حدّ يحد به مفهوم السخرية IRONIE يجد نفسه أمام مصطلح  معقد يصعب الإمساك به، وقد فطنت إلى هذا الباحثة أمينة الدهري، التي حاولت تأصيل المفهوم بقولها: «تقلبت السخرية بين تحديدات عديدة، وخضعت لمقاربات متنوعة بتنوع التنظيرات التي انبثقت عنها، منذ نشأتها الأولى في حقل الفلسفة الإغريقية، أي انطلاقاً من إعادة مساءلتنا للحس المشترك مع سقراط، ثم انتقالها من مجالها الأخلاقي هذا، إلى البلاغي مع البلاغيين الرومان لتقترن بالمفارقة الدلالية عند سيسيرون وكينتليان، وليغدو هذا التضاد بين الفكرة والتعبير عنها مرتَكَز تحديدها بالنسبة إلى التقليد البلاغي الفرنسي بعد ذلك، مشفوعاً بعناصر سياقية مع دومارسي وأبعاد مجازية مع فونتانيي. ثم تطور مفهومها إلى أداة لمواجهة العالم من قبل الرومانسيين الألمان، لما يسمح له تعددها من عدم مطابقة القول لمعناه، ولما تخوله من مسافة نقدية تجاه التعاقدات الاجتماعية وضوابط الحوار».
يتبدّى لنا أن المفهوم لا يمكن ضبطه بتحديد واحد، فالتعريفات مختلفة باختلاف الخلفيات المعرفية، وهو ما يؤكده د. محمد العمري بقوله: «كل تعريف سيؤدي لا محالة إلى الدخول في تصور خاص، له بدايته ونهايته وحدوده التي تتجاهل، في كثير من الأحيان، الاجتهادات والتصورات الأخرى».
وتحسن الإشارة إلى أن الحديث عن هذه الإشكاليات ليس الغرض منه التعمق في مفهوم السخرية والإحاطة بما قُدم في موضوع التعريف به، لأن هذا ليس هو مسعى عرضنا، إنما سنحاول تقديم بعض الإضاءات التي ستؤطر تحليلنا للسخرية التي تتعلق بموضوع العرض.
بالرجوع إلى المدلول اللغوي للسخرية سنجد أنها تطلق على الهزء والتهكم، وهو المعنى الذي تحتضنه المعاجم القديمة، فقد ورد في «لسان العرب» ما يلي: «سَخِرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومَسْخَراً وسُخْراً، بالضم، وسُخْرَةً وسِخْرِيّاً وسُخْرِيّاً وسُخْرِيَّة: هزئ به» ويقول أيضا: «السُّخرة: الضُّحْكة».
نلاحظ من خلال هذين الحدّين أن مدلول السخرية يرتبط بالضحك والاستهزاء، وهذان المفهومان يحيلان إلى وجود مرسل ومرسل إليه، حيث يعمد المرسل بالسخرية من المرسل إليه «بغية الانتقاص منه أو تحقيره أو تحطيمه وجعله مثار تندّر وتفكه».
ويختلف هذا المتجه عن مفهوم «الهجاء» ومكمن الاختلاف هو أن السخرية فعل مضمر وغير مباشر، في حين أن الهجاء هو «أدب الغضب المباشر والثورة المكشوفة».

ثالثا: السخرية في الرحلة
شكلت السخرية مظهراً من مظاهر وصف صورة الآخر في رحلة ابن فضلان، فالرحلة باعتبارها أدباً مقارناً «تستدعي الآخر وتصوره مقارنة إياه بالذات الواصفة».
ووظيفة الرحّالة هي «مقارنة عاداته ووجهات نظره، بعادات ووجهات نظر الأجانب. إنه يقارن المناظر ويتأملها ويركّبها»، وبما أن الرحلة كانت نحو بلاد بعيدة «فهي بالأساس رحلة نحو الذات، بحكم أن ما يوصف لا ينم إلا عن المقارنة مع الذات بشكل من الأشكال».
وابن فضلان وهو يقوم بهذه الوظيفة واجه غَيْرِيَّةً تمتاز بالتبيان والاختلاف الكبيرين، فقد لاحظ عادات غريبة عنه باعتباره عربياً مسلماً له تقاليده وعاداته الخاصة، وهذا ما حدا به إلى التوسّل بالسخرية، فالأمور الباعثة على السخرية تتلخص كلها في «الغرابة»، وسنقف هنا على بعض المواقف الساخرة في رحلة ابن فضلان.

1 - السخرية ولغة الآخر
يقول ابن فضلان وهو يصف أهل خوارزم: «وهم أوحش الناس كلاماً وطبعاً، كلامهم أشبه شيء بصياح الزرازير، وبها قرية يقال لها أردكو، أهلها يقال لهم الكردلية، كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع». يجسد هذا المنطوق مظهراً من مظاهر السخرية من الآخر في الرحلة، فقد ركز ابن فضلان في وصف أهل خوارزم على لغتهم، ومن خلال المقارنة التي عقدها بين لغتي أهل خوارزم وأهل الكردلية وبين اللغة العربية، باعتبارها اللغة الوحيدة التي يتقنها الرحالة، وجد اختلافاً صارخاً بينهما، لذلك عمد إلى إثارة السخرية والضحك منها والتهكم عليها والاستخفاف من قيمتها، وهنا بقدر ما نستشف إحساس ابن فضلان بغرابة تلك اللغة عليه، نستشف أيضاً عدم اعترافه بالآخر وبخصوصياته الثقافية والفكرية المتمثلتين في اللغة باعتبارها كياناً يجسد هوية الجماعة. والملاحظ أن السخرية هنا بلغت ذروتها، لأن الساخر لجأ إلى المبالغة في التصوير، إذ ماثل بين لغة أهل خوارزم بصياح الزرازير، وشبّه لغة أهل أردكو بنقيق الضفادع، وهذه المبالغة كفيلة بأن تثير الضحك لدى المتلقي.

2 - السخرية والعقيدة
نقرأ في رحلة ابن فضلان قولاً آخر تحضر فيه السخرية بشكل واضح وهو: «وهم مع ذلك كالحمير الضالة، لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل ولا يعبدون شيئاً، بل يسمون كبراءهم أرباباً، فإذا استشار أحدهم رئيسه في شيء قال له: يا رب إيش أعمل في كذا وكذا، وأمرهم شورى بينهم، غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنقض ما قد أجمعوا عليه». يتبدى من خلال هذا الملفوظ رؤية ابن فضلان للآخر، لقد بسط صورة الأتراك العقدية، وباستحضار جدلية الأنا/ الآخر، صدر الرحالة في حكمه هذا من خلال ذاتيته وعقديته التي هي الإسلام، فالمتأمل في الوصف الذي سرده يستنتج أن الرحالة يصف انطلاقاً من خلفيته المعرفية المبنية على العقيدة الإسلامية التي ترفض تعدد الأرباب وتؤمن بوحدانية الله، لذلك شغّل آلية السخرية، باعتبارها وسيلة خطابية تحاول إفساد صورة الآخر الذي تحول إلى حمار هائم لا يستخدم عقله ولا يؤمن بشيء، بل تنحصر مهمته الوجودية فقط في إشباع رغبات الغريزة. في حين أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة عقل تدعو الإنسان إلى التفكر والتدبر؛ والتصور نفسه يحكم موقفه الصادر في عادة الترك المتمثلة في حلق اللحية، جاء في الرحلة: «والترك كلهم ينتفون لحاهم إلا أسبلتهم، وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه وعليه البوستين، فإذا رآه إنسان من بعد لم يشك أنه تيس». نلاحظ أن ابن فضلان يسخر من الشكل الخارجي للإنسان التركي الذي يمتلك نمطاً خاصاً في إعفاء اللحية، وهو ما يختلف جذرياً عما هو مألوف عند المسلمين، ومن ثمّ انطلق الرحالة «من نسقه الفقهي وصوره الثابتة وقوالبه الجاهزة، التي أراد أن يقولب بها الآخرين».

3 - السخرية والعيوب الجسدية
يمكن الوقوف في الرحلة أيضاً على مقاطع ساخرة أخرى، والموضوع هو شكل ملك الصقالبة، حيث ركّز الرحالة على عيوب المظهر الخارجي للمسخور منه، يقول: «وهو رجل بدين بطين جدًا»، ويقول أيضاً: «وكان رجلاً له منظر وهيبة بدين، عريض كأنما يتكلم من خابية».
لقد جعل ابن فضلان من المظهر الخارجي للملك موضوعاً للضحك، على اعتبار أن مدار السخرية هو تجسيد العيوب والمبالغة في وصفها.

رابعا: الجانب الفني للسخرية
عمد الرحالة إلى آلة السخرية في تصوير لغة الآخر وعاداته التي تمتاز بالغرابة، ولجأ إلى أسلوب فني في التصوير، اعتمد على الوصف باعتباره «الخطاب الذي يَسِم كل ما هو موجود، فيعطيه تميزه الخاص وتفرده داخل نسق الموجودات المشابهة أو المختلفة عنه».
كما عمد الرحالة إلى عنصر التشبيه أو التماثل لكي ينقل الموضوع المسخور منه من المجرد إلى المحسوس، فقد شبّه لغة أهل خوارزم ولغة أردكو، وهما لغتان غير مفهومتين وواضحتين بنقيق الضفادع وصياح الزرازير، وهما صوتان كذلك لا يفهمهما الإنسان، فهذه الصورة الأسلوبية تستثير فعل الضحك. والأسلوب نفسه ينهجه في المواقف الساخرة الأخرى، إذ شبّه الأتراك من حيث لحيتهم بالتيس ومن حيث تجردهم من العبادة بالحمير، وهي كلها تشبيهات تصل إلى نفوس المتلقين فتثير الضحك.
إن السخرية في رحلة ابن فضلان نابعة من خلفية الرحالة وتصوره الذي يختلف عن الآخر اختلافاً كبيراً، ومن ثم يمكن اعتبار السخرية لوناً من ألوان النقد، فهي «تعبّر عن رأي معين للساخر، أو نظرة خاصة له، أو إحساس خاص تجاه حالة أو ظاهرة، أو منظر لا يتفق والظواهر الطبيعية المألوفة في نظره».
وعلى هذا الأساس شكلت السخرية نتيجة لما عقده الرحالة من مقارنات بين الذات والآخر.
لقد حاولنا تسليط الضوء على مكون السخرية في المتن الرحلي، فخلصنا إلى أن هذه الآلية الخطابية حاضرة في رحلة ابن فضلان، وكان أهم باعث لها هو الغرابة، فالعادات والأعراف واللغات والتصورات الدينية المختلفة وغير المألوفة جعلت الرحالة لا يتردد في الاحتكام إلى مرجعه الديني، ناعتاً هذه المظاهر بالبدع والخروج عن الشرع، ساخراً من بعض المعتقدات أو الترهات والأباطيل، لذلك عملت السخرية باعتبارها آلية بلاغية وخطابية سعت إلى إفساد صورة الآخر، وإثارة ضحك المتلقي ■